تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

الأخـلاق والآداب العامـة في القانـون..!!

مصدر الصورة
محطة أخبار سورية

ظلت المجتمعات ردحاً طويلاً لا تعرف سبيل التفرقة بين القواعد القانونية والقواعد الأخلاقية حيث كانت القواعد كلها مختلطة، بين ما كان منها راجعاً إلى الدين أو الأخلاق أو القانون، بل إن هذه المجتمعات لم تكن بحاجة إلى تشريعات صادرة من سلطة معينة في المجتمع لإقامة نظام يطبق فيها؛ حيث كانت التقاليد والقواعد وما انطوت عليه تلك القواعد من إكراه كفيلة بحفظ النظام داخل الجماعة؛ فالوعي الخلقي في الجماعات القديمة، كان يعتبر الكذب والسرقة والاعتداء على حقوق الغير خطيئة كبرى وكان الاعتقاد راسخاً في النفوس بوجوب عمل الخير والابتعاد عن الشر وعدم اقتراف الخطايا وكان هذا الاعتقاد كافياً لتحقيق أمن هذه المجتمعات داخلياً.

وقد ظل القانون مختلطاً على هذا النحو بقواعد الدين والأخلاق زمناً طويلاً إلى الحد الذي كان ينظر فيه إلى القواعد التي تصدر عن الدولة عند الإغريق القدماء على أساس أنها قواعد أخلاقية تهدف إلى تحقيق الخير والسعادة. وكان الرومان أول من عرف سبيل التفرقة بين القانون والأخلاق؛ فعلى أثر تقدم النزعة الفردية في المجتمع الروماني أثيرت التفرقة بين القانون والأخلاق وضرورة تحديد نطاق كل منهما؛ فهذا الفقيه PAUL يقول إنه ليس كل ما يبيحه القانون تقره الأخلاق.

وعند تراجع نفوذ الدولة الرومانية وسيطرة الكنيسة على السلطة في المجتمع عاد الخلط بين الدين والأخلاق والقانون على أساس أن جميعها قواعد عالمية للسلوك وتستوعب في طياتها قواعد الأخلاق على عكس القرون القديمة، حيث كان ينظر إلى قواعد الأخلاق على أساس أنها تستوعب قواعد القانون.

وفي مطلع القرن الثامن عشر اشتدت الحاجة إلى محاربة طغيان الدولة والكنيسة وبطشهما بحرية الرأي والاعتقاد، وبدأت تظهر بوادر التفرقة بين القانون والأخلاق حيث كان الهدف من ذلك هو إرجاع كل ما يتعلق بالفكر والاعتقاد والضمير إلى الأخلاق لا إلى القانون. وقد كان الفقيه الفرنسي توماسيوس أول من حمل لواء هذه التفرقة وأوضح بشكل دقيق ضابط التفرقة بين الأخلاق والقانون؛ فالأخلاق توجه أوامرها إلى ضمير الإنسان وتهدف إلى تحقيق الأمن والسلام الداخلي؛ فالإنسان عندما يؤدي ما توجبه الأخلاق إنما يشعر بقدر من الارتياح يملأ جنبات نفسه؛ أما إذا تقاعس وعصى ما فرضته الأخلاق من أمور، شعر بالقلق والوحشة في داخل نفسه. أما القانون فلا يوجه خطابه إلى الضمير إنما ينظم علاقة الأشخاص فيما بينهم. ويهدف القانون إلى تحقيق الأمن والسلام الخارجي وذلك بما يتضمنه من أحكام تمنع الإعتداء على الغير.

 وفي ضوء ذلك فإن قواعد القانون يمكن أن تفرض لها جزاءات تمثل إكراهاً خارجياً تتولاه الدولة، أما قواعد الأخلاق فلا سبيل على اقترانها بهذه الجزاءات، لأن الأخلاق إنما تعبّر عما يجول بخاطر الإنسان ولا يتعدى قرارة ضميره.

لكن ما انتهى إليه الفقيه توماسيوس لا يمكن التسليم به بشكل مطلق، حيث يلاحظ أن كثيراً من القواعد القانونية تعدّ في ذات الوقت قواعد أخلاقية؛ فالقاعدة التي تحرم القتل والاعتداء على مال الغير وعرضه هي قاعدة قانونية وفي نفس الوقت قاعدة أخلاقية. وهنالك قواعد لم تدخل بعد في دائرة القواعد القانونية كالقواعد التي تحض على الخير وترك الشر والتي تقضي بالصدق في القول والبذل والعطاء والشهادة لوجه الله؛ فمثل تلك القواعد تفرضها الأخلاق، ولكن القانون لا يتدخل لفرض جزاء على مخالفتها بل يكتفي بالجزاء الأخلاقي المقرر لها وهو الاستهجان من المجتمع للسلوك المخالف.

وهنا نطرح السؤال: لماذا لم ينص المشرع على اعتبار تلك القواعد الأخلاقية قواعد قانونية وحصرها على وجه التحديد كما فعل في السرقة والقتل والاغتصاب والتحرش والخطف والإيذاء وغيرها من الأفعال المجرمة؛ فالقاعدة الأخلاقية التي تحرم الكذب لماذا لم يرتفع بها المشرع إلى مستوى القاعدة القانونية؟

إن السبب يرجع إلى أن الواجبات التي تفرضها القواعد الأخلاقية لم تصل من حيث التحديد مضموناً وأثراً إلى أن تصبح مثل الواجبات القانونية؛ فالقاعدة الأخلاقية التي تحرّم الكذب مثلاً تفرض واجباً معيناً ولكنه غير محدد قانوناً ويقتضي تحديده الدخول في نوايا الأشخاص والبحث عن آثاره. ولكن عندما يصل الواجب الأخلاقي إلى تحديد معين، هنا يتدخل القانون ويجعل هذا الواجب الخلقي واجباً قانونياً؛ فالكذب في الشهادة مثلاً إذا أدى إلى إعدام المتهم فإن شاهد الزور يعدم. وهنالك من القواعد القانونية ما يُعدّ متعارضاً مع الأخلاق؛ فالأخلاق تحرم الربا والقانون المدني والتجاري يسمح بالفائدة، والقانوني الجزائي لا يعاقب على استيفاء الفائدة إلا إذا كانت فاحشة.

نلاحظ مما سبق أن القانون لا يتأثر بالأخلاق بشكل مطلق، وأن لكل نطاقه الذي لا يتعداه وإن كنا نجد أن قانون العقوبات قد عاقب في المادتين  517 و518  كل من يتعرض للآداب العامة والأخلاق بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات؛ كل من يقترف الفعل بإحدى الوسائل المذكورة في الفقرة الأولى والثانية والثالثة من المادة 208؛ ويقصد بذلك؛ ارتكاب الفعل بأعمال وحركات علانيةً إذا حصلت في مكان عام أو مكان مباح للجمهور أو معرض للأنظار أو شاهدها بسبب خطأ الفاعل من لا دخل له بالفعل أو حصل الفعل بالكتابة أو بالكلام أو بالصراخ سواء جهر بها أو نقلاً بالوسائل الآلية أو الرسوم أو الصور اليدوية أو الشمسية أو الأفلام أو الشارات أو التصاوير على اختلافها إذا عرضت في محل عام أو مكان مباح للجمهور أو معرض للأنظار أو بيعت أو عرضت للبيع أو وزعت على شخص أو أكثر.

 فهل كان المشرع موفقاً في هذه المقاربة بين القانون والأخلاق، لا سيما وأننا نرى اختلاف الغاية التي يسعى إليها كل من القانون والأخلاق؛ وهي في القانون إقامة النظام في المجتمع وتحقيق تقدمه؛ وهي في الأخلاق تحقيق السلام الداخلي للإنسان بإراحة النفس والسمو بها نحو الكمال الإنساني؟! وإذا كان القانون يأخذ بقواعد ونظريات لها أصول من الأخلاق فإن ذلك لا يعني اصطباغ القانون بصبغة أخلاقية وأن وحدة الحلول بين القانون والأخلاق لنفس الفروض لا يفيد وحدة الأساس الذي تقوم عليه؛ فكل منهما ينظر إلى الزاوية التي توافق غايته. وخير شاهد على ذلك لو أن رجلاً قبَل زوجته في الشارع وأراد أحد الأشخاص أن يشتكي عليه لتعرضه للآداب العامة أو أن شخصاً أفطر في رمضان أو أن فتاة لبست "تنورة قصيرة أو سروالا قصيرا"، أو الظهور بملابس البحر على شاطئ البحر أو في أحواض السباحة أو غيرها من الملابس التي قد يعتبرها البعض منافية للأخلاق والحشمة والآداب العامة.. وأراد أحد هؤلاء الشكوى عليها لاستطاع فعل ذلك بموجب هذه النصوص الواسعة المدلول والمرنة في ألفاظها ومبانيها؛ لا سيما وأنه لا يوجد تعريف دقيق أو نص تشريعي يحدد مفهوم الأخلاق أو الآداب العامة أو معيار يمكن اللجوء إليه لتمييز التصرف الذي يعد تعرضاً للآداب العامة والأخلاق، أو لا يعد كذلك. وهنا مكمن الخطورة والخروج على قاعدة التفسير الضيق للنصوص الجزائية وقاعدة شرعية الجرائم والعقوبات، والتي تعتبر ضماناً للحريات الفردية وصمام الأمان ضد تعسف السلطة التنفيذية والقضائية وسوء التطبيق والاضطراب في العدالة الجزائية؛ فالقضاة قد يختلفون حول السلوك الواحد ما إذا كان مجرماً أو مباحاً، كما قد يختلفون حول شروط التجريم وقواعد المسؤولية الجزائية ونوع العقوبة؛ والقواعد القانونية وحدها قادرة على وضع حد لمثل هذه الخلافات.

وختاماً، ندعو المشرع لمراجعة هذه النصوص وأمثالها وتقييدها بأفعال محددة لا لبس فيها ولا غموض، وحتى لا تكون أداة يستغلها البعض لتحقيق مآربه وغاياته وتكون الوجه الخفي لدعوى الحسبة التي لم يأخذ بها المشرع السوري كما فعل المشرع المصري، والتي كانت سيفاً مسلطاً على حرية الفكر والاعتقاد والحرية الشخصية للأفراد.  

 

                       

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.