تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

الأخطر في محاولة شرعنة احتلال الجولان العربية

مصدر الصورة
وكالات

د. سليمان عبد المنعم

ليس ثمّ جديد فى التذكير بعدد القرارات الدولية التى تكذّب ادعاء الإدارة الأمريكية بشرعية السيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان العربية. فالقرارُ معدومٌ بلغة القانون. والانعدام يلحق أساسه القانونى كما يلاحق الأثر المترتب عليه. فلا الرئيس الأمريكى يملك سلطة إصدار قرار لدولة احتلال بمنحها أرضاً محتلة. ولا إسرائيل تملك أن ترتّب عليه أدنى حق لها. الورقة التى مهرها الرئيس الأمريكى بتوقيعه الطويل لا يمكن نعتها بقرار ولا تعدو أن تكون موقفاً أو رأياً سياسياً لا أكثر. والمواقف والآراء السياسية لا تخص سوى أصحابها. فليس فى النظام القانونى الأمريكى ولا فى أحكام القانون الدولى ما يخوّله إصدار مثل هذا القرار المعدوم، وما قام به يشبه مسلك شخص يقلّد فى سعادة وسذاجة ورقة بنكنوت! هذا سلوك مارق ليس عن قواعد الشرعية الدولية فقط لكنه مارق محلياً أيضاً بتجاهله مبدأ وأصول دولة المؤسسات فى بلد عظيم مثل الولايات المتحدة الأمريكية. بخلاف ما يؤخذ على مسلك الرئيس الأمريكى وشخصيته، وهذه مسألة تخص الشعب الأمريكى أكثر من غيره، فإن ما يخصنا كعرب هو مواقفه المتعلقة بحقوقنا وقضايانا. فى هذا القرار المعدوم حقائق تتأكد بقدر ما يشى من دلالات تثير القلق.

لعلّ أولى الحقائق أن القرار المعدوم للرئيس ترامب يؤكد ما هو معروف سلفاً من الانحياز الأمريكى لإسرائيل ويمثل استصحاباً لعشرات إن لم يكن المئات من المواقف والقرارات التى تحاول إضفاء الشرعية على ما هو غير مشروع أصلاً لصالح دولة احتلال وهو المصطلح القانونى المستخدم لوصف إسرائيل بموجب العشرات من قرارات الأمم المتحدة نفسها. ولهذا كان طبيعياً أن تعلن الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبى، ودول ألمانيا وفرنسا وروسيا وغيرها معارضتها للقرار المعدوم. حقيقة أخرى تهمنا كعرب تبدو ملتبسة فى أذهان البعض، وهى أن معارضتنا للقرار ليست مجدية لأننا لا نملك فعل شيء باعتبار إسرائيل هى الأقوى. فلنعترف من حيث المبدأ أن استرداد الحقوق العربية فى الجولان أو القدس يبقى منوطاً بإحداث تغيير فى موازين القوى بين حقوق أصحاب الأرض الشرعيين وبين قوة الاحتلال، لكن مسألة اختلال التوازن بين صاحب الحق والمحتل يجب ألا تكون إعلاناً ليأس نهائى. فليس عيباً ان نكون ضعفاء بل العيب أن نكون متخاذلين. التشبث بالحق وإرادة السعى لاسترداده قد يكون هو كل ما يملكه صاحب الحق فى إحدى مراحل الصراع، المهم ألا يفقد فى هذه الدينامية الزمنية إيمانه بعدالة قضيته، فالتاريخ ماكر ومطمور بعوامل فى طور التكوين. القرار كاشف أيضاً عن التباس خطير فى أذهان البعض هو الاعتقاد بأن الاختلال فى موازين القوة راجع فقط إلى قوة الطرف الآخر وليس راجعاً إلى أننا نستضعف أنفسنا بأنفسنا. فماذا لو كان لدينا مثلاً محكمة عدل عربية تجنبنا الوقوع فى الصراعات التى تستنزف قوانا؟ وماذا لو كان اقتراح مصر منذ سنوات بتشكيل قوة عربية مشتركة قد وجد طريقه إلى التنفيذ بدلاً من استدعاء الآخرين المتنافسين على استباحة خرائطنا؟

حديث الإرادة والحقوق لا يمنع أن قرار «رأى» الرئيس الأمريكى فى الاعتراف بسيادة دولة الاحتلال على الجولان يثير القلق من نواح أخري. أخطر ما فى هذا القرار المعدوم أنه يتوافق مع مصالح أطراف دولية أخرى فى تكريس أوضاع قائمة لصالحها نشأت عن احتلال او غزو. هنا قد لا يكون القياس دقيقاً بين حالة الجولان السورية وبين حالة أراض أخرى تخضع لاحتلال أو هيمنة أجنبية كما فى شبه جزيرة القرم التى تحتلها روسيا، أو الجزر الإماراتية التى تحتلها إيران أو غير ذلك من أوضاع احتلال فى أماكن أخرى لكن المقلق أن محاولة إضفاء الشرعية على احتلال إسرائيل الجولان قد تشجع أطرافاً أخري، أو بالأقل تريحهم فى اعتبار واقع الاحتلال غير المشروع بموجب قرارات دولية مصدراً لاكتساب سيادة على أرض محتلة.

خطرٌ ثالث يشى به موقف ترامب الذى بدا له مأمون العواقب بعد قراره السابق بالاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل ثم نقله مقر السفارة الأمريكية إليها. لم يعبأ ترامب بردود الفعل العربية وهو يرى أن نصف العالم العربى مستنزف بالصراعات الداخلية مذعور من مخاطر التفكك، ونصفه الآخر يعانى من اختلاط الرؤى وأزمة الثقة فى النفس، وبينهما تبدو مصر بعينها البصيرة وحدسها القومى تستشعر مكامن الخطر لكن تحدياتها كثيرة وثقيلة. الخطر كبير لأن ردود الفعل العربية لم تعد محلاً لتقدير أو اكتراث أحد، وهو ما قد يُشجع مستقبلاً على المزيد من القرارات والسياسات والمخططات الأجنبية لإعادة رسم الخرائط العربية واستنزاف قدرات العرب وابتزاز ثرواتهم وفوائضهم المالية. لقد اختار الرئيس الأمريكى أن يبدأ «فعلته» بمجرد تغريدة على تويتر وهو يعلم أن التغريدة ستصاحبها موسيقى تصويرية من التنديد والاستنكار ثم سرعان ما تتحوّل التغريدة إلى قرار، ويترجم القرار إلى واقع، وتمضى إسرائيل فى غيها المعهود. قرار «رأى» ترامب لن يقدّم ولن يؤخر على أرض الواقع لكن الخطورة كلها فى رمزيته ودلالته.

خطرٌ رابع يكمن فى المبررات التى يسوقها ترامب لشرعنة الاحتلال الإسرائيلى للجولان بحديثه عن ضمان أمن إسرائيل والحفاظ على الاستقرار الإقليمى. معنى ذلك أن الرئيس الأمريكى لا يستخف فقط بقواعد القانون الدولى التى تحظر الاستيلاء على أراضى الغير بالقوة وبقرارات مجلس الأمن التى تؤكد أن الجولان أرض سورية، لكنه يعتبر أيضاً أن ضمان أمن إسرائيل أصبح بمثابة أساس لشرعية احتلال أرض الغير بالقوة! بل إنه يكاد يعتبر ذلك مصدراً جديداً من مصادر القانون الدولي، وكأن الرجل يقيس القانون الدولى بمقياس إسرائيل بدلاً من أن يقيس إسرائيل بمقياس القانون الدولى!

مصدر الخبر
الأهرام

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.