تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

سبعون عاماً على حلف الأطلسي

مصدر الصورة
وكالات

د. غسان العزي:

عندما تم التوقيع على معاهدة واشنطن المنشئة لحلف شمال الأطلسي في الرابع من أبريل/نيسان ١٩٤٩ لم يكن أمام دول أوروبا الغربية، الخارجة لتوها من حرب عالمية طاحنة، سوى تسليم مفاتيح أمنها للولايات المتحدة. ولم تكن هذه الأخيرة لتحمي أوروبا الغربية وتقدم لها المساعدات المالية الباهظة عبر مشروع مارشال إلا لاعتبارات استراتيجية بعيدة المدى، ومنعاً لهيمنة الشيوعية عليها، وليس فقط لحماية الأنظمة الليبرالية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

في خمسينات القرن الماضي التقطت أوروبا أنفاسها، بل ونجحت في تشكيل مجموعة اقتصادية (معاهدة روما ١٩٥٧) أخذت تتوسع وتتعمق تدريجياً لتتحول لاحقاً إلى اتحاد أوروبي غداة انتهاء الحرب الباردة. وفي الستينات ارتفعت أصوات أوروبية أبرزها من الجنرال ديغول للمطالبة بأن تستقل أوروبا عن حليفها الأمريكي فتتحمل عبء الدفاع عن نفسها بنفسها، قبل أن ينسحب ديغول من المنظمة العسكرية للناتو العام ١٩٦٦ إثر خلاف مع نظيره الأمريكي أيزنهاور. في واشنطن أيضاً كان هناك السيناتور مانسفيلد يطالب بأن تحمي أوروبا نفسها بنفسها، ما يتيح انسحاب القوات الأمريكية منها، وهو خطاب يشبه ما يقول به ترامب في يومنا هذا.

يمكن القول إن حلف الأطلسي نجح في المهمة العسكرية-السياسية التي قام من أجلها. فقد شكل مظلة عسكرية تحمي أوروبا الغربية من خطر اجتياحها من قبل الجيش الأحمر ومظلة سياسية تجتمع في فيئها دول المعسكر الغربي أو «العالم الحر» بحسب التسمية الأمريكية.

في بداية تسعينات القرن المنصرم وإثر اختفاء الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشرقي وحلف وارسو اعتقد كثيرون بأن حلف الأطلسي سيحل نفسه هو الآخر، وذلك لزوال أسباب وجوده. لكن العكس هو ما حصل فأوروبا الغربية بقيت خائفة من المستقبل، وذلك لأنها طيلة الحرب الباردة لم تسع أو لم تنجح في بناء قدرات دفاعية ذاتية كافية، وأوروبا الشرقية الخارجة لتوها من الحضن السوفييتي فضلت حماية الناتو لها من تهديد روسي محتمل، والولايات المتحدة، من جهتها، بقيت مقتنعة بأن الحلف يشكل أفضل وسيلة لممارسة الهيمنة على أوروبا والنفوذ في العالم.

حاول الحلف، الذي ابتدع لنفسه مهمات جديدة في مواجهة المخاطر البيئية والطبيعية والإرهابية والسيبرانية وغيرها، أن يقدم نفسه كذراع عسكرية للأمم المتحدة، وذلك بحثاً عن شرعية دولية لعمليات تصب في مصلحته. فعل ذلك لحماية اتفاق برايتون العام ١٩٩٥ في البوسنة، لكنه استغنى عن خدمات المنظمة الدولية عندما ذهب لقصف صربيا طيلة شهر كامل في العام ١٩٩٩. واشنطن التي تدير الحلف كانت تلجأ إلى خدماته وفقاً لمصلحتها وتستغني عنه كما فعلت عندما لم يوافقها على غزو العراق في العام ٢٠٠٣.

ويمكن القول بأن الحلف تمكن من تجاوز أزمات خطيرة عديدة طيلة سبعين عاماً، من الحرب الكورية (١٩٥٠-١٩٥٣) إلى حرب السويس (١٩٥٦) وانسحاب فرنسا من بناه العسكرية (١٩٦٦) والفيتو الفرنسي-الألماني-البلجيكي على المشاركة في الغزو الأمريكي للعراق (٢٠٠٣) ثم صدمة الحرب الأوكرانية وضم روسيا للقرم (٢٠٠٤) الخ.. لكنه اليوم يعيش أزمة وجودية تطرح أسئلة خطيرة حول ضرورة استمراره من عدمها.

فليس هناك من إجماع أوروبي على وصف «التهديد» الروسي وكيفية مواجهته. ذلك أنه رغم كل شيء لا تزيد الميزانية الدفاعية الروسية على ستين مليار دولار في مقابل ٢٥٠ ملياراً للدول الأوروبية الأعضاء في الناتو، ناهيك بالميزانية الدفاعية الأمريكية التي تربو على ال٧٢٠ مليار دولار. واستراتيجية التحول نحو آسيا-الباسيفيك التي بدأها أوباما في العام ٢٠١٠ ويستمر بها ترامب هي مؤشر على انتقال مركز الثقل في الساحة الدولية إلى هذه المنطقة.

لذلك فان الكابوس الذي يقض مضاجع بعض الدول الأوروبية هو أن يغرد ترامب فجأة عبر تويتر معلناً عن عزمه الانسحاب من الناتو. فالمسألة ليست فقط مادية لأن الدول الأوروبية زادت مساهمتها في نفقات الحلف بما يزيد على مئة مليار يورو منذ العام ٢٠١٦. رغم ذلك لا يزال ترامب يطالبها بزيادة مساهماتها المالية ويهدد بالامتناع عن الدفاع عن الدول التي «لا تدفع الفاتورة» ولا تشتري أسلحة ومعدات أمريكية. وهو غير مؤمن بجدوى المادة الخامسة من معاهدة واشنطن التي تقول بأن أي اعتداء خارجي على دولة عضو هو بمثابة اعتداء على دول الحلف كافة. وهناك معلومات تقول بأنه يفكر جدياً بالطلب من الدول التي تستضيف قواعد أمريكية أن تدفع كامل تكاليف الوجود العسكري الأمريكي بالإضافة الى خمسين في المئة من هذه التكاليف. وهناك دول تتجاوب مع مثل هذا الطرح فقد أعلنت بولونيا، على سبيل المثال، بأنها ستدفع ١،٨ مليار دولار في مقابل إقامة قاعدة عسكرية دائمة على أراضيها.

ويخشى الأوروبيون من أن يقرر الأمريكيون التعامل بشكل ثنائي مع حلفاء أوروبيين يختارونهم بدل التعامل مع منظمة تضم ٢٩ عضواً وتعمل على قاعدة التوافق والإجماع. وهناك من يطرح ضرورة إعادة توزيع العمل داخل الحلف لحمايته من الانقراض. فليس من الطبيعي أن تكون ما بين سبعين وتسعين في المئة من الأسلحة والمعدات أمريكية داخل الحلف، كما تقول وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بارلي، التي تطالب الأوروبيين أن يكونوا أكثر مصداقية واستقلالية عن الولايات المتحدة.

في المحصلة يمكن القول إن حلف الناتو يقبع اليوم تحت مطرقة الأحادية الأمريكية وسنديان انقساماته البينية، وهو يحاول الاحتفاظ بتماسكه في انتظار العثور على الوسائل الآيلة إلى إعادة تجديده.

مصدر الخبر
الخليج الإماراتية

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.