تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

بريكست يهدد التفوق البريطاني في مجال الاستخبارات

مصدر الصورة
وكالات

مغادرة الاتحاد الأوروبي تعني فقدان منجم معلومات توفرها وكالة اليوروبول ونظام شنغن.

المخابرات البريطانية قد لا تبقى قوة خارقة إلا في الأفلام

من روايات جون لو كاريه إلى أفلام جيمس بوند الشهيرة، تظهر بريطانيا كمنتجة للجواسيس المتفوقين، وفي ذلك جانب من الحقيقة. فمنذ الحرب العالمية الثانية، مثّل عمل ضباط المخابرات البريطانية أحد المصادر الرئيسية لقوة المملكة المتحدة. لكن هذه القوة والشهرة مهددتان اليوم -شأنهما شأن مختلف القطاعات البريطانية- بالبريسكت.

لندن - سلطت الحملة الترويجية الأخيرة للنسخة الخامسة والعشرين من سلسلة أفلام الجاسوس جايمس بوند الضوء على المخابرات البريطانية باعتبارها قوة استخباراتية خارقة، ودفعت كثيرين إلى وضعها في سياق الجدل الذي يثيره البريكست وتأثيراته على مختلف المؤسسات البريطانية والتساؤل عن مدى تأثّر هذا الجهاز الحساس بانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

يجيب على هذا التساؤل كالدر والتون، في تحليل نشر في أحدث أعداد مجلة فورين بوليسي، أوضح فيه أن هذه القوة وأسسها في خطر بسبب بريكست، الذي سيخلف سلسلة من التداعيات ستمس من قدرات الاستخبارات البريطانية.

ويفسر والتون ذلك مشيرا إلى أن بريطانيا ستعزل خارج مؤسسات الاتحاد الأوروبي التي لعبت دورا أفاد أمنها القومي. كما أصبحت علاقتها مع الولايات المتحدة في هذا المجال مهددة، فقد تتحول الولايات المتحدة إلى السعي نحو تعميق علاقاتها مع بروكسل بدلا من المملكة المتحدة. لكن، على الرغم من أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أصبح أمرا شبه حتمي، إلا أن المملكة المتحدة قد تجد طرقا أخرى لتجنب هذه النتيجة. وتتعامل أجهزة المخابرات البريطانية مع المخابرات الأمنية المحلية والأجنبية، وتركز مكاتب الاتصالات الحكومية البريطانية على استخبارات الإشارات.

تأسس القسم الخامس (المخابرات الحربية) وجهاز الاستخبارات البريطاني سنة 1909. وعند اندلاع الحرب العالمية الأولى سنة 1914، كانت الوكالتان تعانيان من نقص في الموارد: بلغ عدد موظفي المكتب الخامس 17 فردا.

لم يتحسن وضع الوكالتين إلا مع بداية الحرب العالمية الثانية سنة 1939. يظهر تاريخ القسم الخامس الداخلي الذي رفعت عنه السرية أنه في عشية الحرب، لم يكن في قسم مكافحة التجسس التابع للوكالة سوى ضابطين مسؤولين عن الإمبراطورية البريطانية والكومنولث.

لم تعرف الوكالتان حتى اسم جهاز المخابرات العسكرية الألمانية، أبفير. خلال الحرب، حققت الاستخبارات البريطانية نجاحات غير مسبوقة ضد دول المحور. وترجع أغلب هذه الانتصارات إلى الإنجازات التي تحققت في حديقة بلتشلي التي كانت حينها المقر الرئيسي لعمليات فك الشيفرة السرية لدول المحور. هناك، نجح البريطانيون مع حلفائهم في فك شيفرة من آلة إنغما الألمانية. أتاح هذا الإنجاز معلومات عن ألمانيا النازية فاقت كل المعلومات التي تلقتها الحكومات عن بلدان أخرى.

لأهمية هذا النجاح التاريخي، رأى بعض المؤرخين أنه اختصر الحرب العالمية الثانية وأنه أنقذ العالم من عامين إضافيين من النزاع الدّامي. وتظهر ملفات رفعت عنها السرية أن لجنة الاستخبارات المشتركة نصحت رؤساء الوزراء المتعاقبين بالانضمام إلى أوروبا لأهمية ذلك لمستقبل بريطانيا الاستراتيجي. تمثل هذه اللجنة أعلى هيئة لتقييم الاستخبارات في بريطانيا.

ورأت في توحيد المملكة مع جيرانها في القارة الطريقة الوحيدة التي تستطيع بها البلاد الهروب من الركود الاقتصادي الذي تعاني منه، وحماية علاقتها الخاصة مع واشنطن التي تقيمها حسب علاقاتها داخل أوروبا.

وفقا لسجلات في مكتبة جون كينيدي الرئاسية، تعتبر الولايات المتحدة لندن حليفا يشاركها بعض وجهات نظرها، ويتكلم نفس لغتها، وقادرا على فرض نفوذه على الأعضاء الآخرين في الكتلة الأوروبية. انضمت المملكة المتحدة إلى الجماعات الأوروبية سنة 1973، اكتسبت بعدها القدرة على الإدلاء بآرائها في القرارات الأوروبية الكبرى التي أثبتت فائدتها للولايات المتحدة في قضايا إستراتيجية وعسكرية وتجارية.

لكن، إذ غادرت المملكة المتحدة الاتحاد الأوروبي، ستقل أهمية لندن لدى واشنطن من الناحية الإستراتيجية. ومن المحتمل أن يبدأ المسؤولون الأميركيون بالتساؤل عما إذا كانت الولايات المتحدة تحتاج حقا إلى بريطانيا أو ما إذا كان من الأفضل تقوية علاقاتها الاستخباراتية مع الاتحاد الأوروبي وبروكسيل على حساب المملكة.

يشير مؤيدو خروج بريطانيا إلى أن وكالات الاستخبارات البريطانية ستواصل العمل مع أعضاء الاتحاد الأوروبي على أساس ثنائي، وليس مع الاتحاد الأوروبي ككل. وبذلك لن يحدث البريكست أي فرق على هذا المستوى.

لكن والتون يرى أن نظرتهم المتفائلة تقلل من الأثر الحقيقي الذي سيخلفه الخروج على الأمن القومي البريطاني. استفادت المملكة المتحدة من العضوية في هيئات الاتحاد الأوروبي مثل وكالة اليوروبول المختصة في مجالات مكافحة الجرائم الدولية الكبيرة والإرهاب، ونظام شنغن لتبادل المعلومات الذي يزودها بمعلومات عن الاتجار بالبشر والجرائم الخطيرة الأخرى ذات الصلة بأمن الحدود وتنفيذ القانون.

استخدمت بريطانيا هذه البيانات لتعقب الضباط الروس الذين تورطوا في حادث تسميم عميل المخابرات السابق سيرجي سكريبال وابنته يوليا، في مدينة سالزبوري سنة 2018. إذا غادرت المملكة المتحدة الاتحاد الأوروبي، ستفقد بريطانيا القدرة على الوصول إلى مثل هذه المعلومات.

ويعتبر هذا أحد أسباب تحذير رؤساء الاستخبارات البريطانية السابقين العلني من أن ترك الاتحاد سيضر بأمن البلاد، قبل استفتاء سنة 2016. منذ ذلك الحين، زادت فوضى الخروج من مخاوفهم. فوسط الخلاف الدبلوماسي الحالي، قد تنتهي بريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي دون اتفاق أو تنازلات يمكن أن تخفف من حدة العملية.

بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، سيتعين على أجهزة الاستخبارات التكيف. تبقى آمال الوكالات معلقة بمكاتب الاتصالات الحكومية البريطانية الرائدة عالميا في مجال الاستخبارات الرقمية.

وكشف الموظف السابق في وكالة الأمن القومي الأميركية، إدوارد سنودن، عندما سرب تفاصيل برامج المراقبة السرية لصحيفتي الغارديان البريطانية وواشنطن بوست الأميركية سنة 2013، عن مدى تعاون مكاتب الاتصالات الحكومية البريطانية مع وكالة الأمن القومي، واستغلالهما لمنصات الإنترنت في جمع المعلومات الاستخباراتية.

على الرغم من تجاهل دورها، كانت مكاتب الاتصالات الحكومية البريطانية أول من حدد وحذر المخابرات الأميركية من مجموعة القرصنة الروسية، فانسي بير، التي شنت هجمات إلكترونية استهدفت اللّجنة الوطنية الديمقراطية سنة 2016.

ويقول نيغل انكستر، المسؤول البارز السابق في الاستخبارات الخارجية البريطانية -وهو الآن مدير المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية- “إننا سنفقد الدخول على مجموعات البيانات المهمة”.

ويتحدث انكستر عن مبادرة “سجل بيانات الركاب” ومعلومات بطاقات الائتمان وبيانات اتصالات الهواتف المحمولة باعتبارها معلومات متبادلة تحكمها اتفاقات أوروبية. لكن مؤيدي بريكست -مثل وزير العمل والتقاعد البريطاني السابق أيان دنكان سميث- يؤكدون أنه سيجعل بريطانيا أكثر أمانا.

في المقابل يتوقع كالدر والتون أن تعمل بريطانيا على مضاعفة قدراتها في مجال التقنيات الرقمية.

ويبدو أنها بدأت ذلك بالفعل. وتنظم مكاتب الاتصالات الحكومية البريطانية والمركز الوطني للأمن السيبراني وجهاز الاستخبارات البريطاني حملات توظيف وتدريب على المهارات الإلكترونية.

ويشير جهاز الاستخبارات البريطاني إلى أن التجسس البشري التقليدي مهم حتى مع تطور المجال الرقمي. سيمثل تعيين عملاء داخل مجموعات الأمن السيبراني الأجنبية طريقة أساسية لكشف أسرارهم.

وأقرت الإستراتيجية الوطنية للأمن السيبراني في بريطانيا للفترة الممتدة بين 2016 و2021 لأول مرة قدرة البلاد على شنّ قرصنة هجومية.

ويتمثل أحد المجالات المستقبلية للمخابرات البريطانية في تعزيز القدرات على شن هجمات عبر الإنترنت على تهديدات دولية أو غير حكومية، مثل هجوم فيروس ستكسنت الذي يعتقد أنه من صنع إسرائيل والولايات المتحدة.

يظهر التاريخ قدرة جواسيس بريطانيا في تحويل نقاط ضعفهم إلى نجاحات مذهلة، كما فعلوا في بداية الحرب العالمية الثانية. وقد تكرر الحرب السيبرانية هذا السيناريو، خاصة وأن بريطانيا لا تحتاج قوة عسكرية تقليدية من الصعب عليها تحمل تكلفتها مع تبنيها الطويل لسياسات التقشف. ويرى والتون أنه يمكن أن تجد المخابرات البريطانية مجالا آخر للتطور. يتمثل ذلك في التركيز على الدفاع ضد المعلومات المضللة.  تفتقر معظم البلدان إلى إستراتيجية فعالة للتعامل مع هذا التضليل. لكن، تمتلك بريطانيا نموذجا مفيدا أثبتت نجاحه.

خلال الحرب الباردة، قدمت دائرة الدعاية المناهضة للاتحاد السوفييتي في البلاد، استجابات مبنية على الحقائق وسريعة وواضحة للمعلومات المزورة التي بثها الكي جي بي. ويوفر هذا نموذجا ستطوره بريطانيا ليتماشى مع عصر وسائل التواصل الاجتماعي.

حتى الآن، لم ترفع السرية عن سجلات تبين ذلك. لكن، تمتلك بريطانيا تاريخا طويلا من التجسس على حلفائها، إذ اعترض منتهكو الشفرات البريطانيون الرسائل الأميركية قبل دخولها الحرب العالمية الأولى والثانية. ربما جعل التعاون السياسي الاستثنائي وواسع النطاق، الذي أتى مع عضوية الاتحاد الأوروبي، تجسس بريطانيا على أوروبا محفوفا بالمخاطر (والعكس صحيح).

وبمجرد مغادرة الاتحاد الأوروبي، ستتحرر بريطانيا من هذه القيود. منذ بدء محادثات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أشارت شائعات إلى أن الاستخبارات البريطانية كانت تستهدف مفاوضي الاتحاد الأوروبي.

لكن، تبقى التهديدات الخارجية المشتركة مثل روسيا والصين، وتهديدات نشوب حرب باردة جديدة، حافزا لمواصلة تعاون الوكالات البريطانية والاتحاد الأوروبي.

وخلص والتون إلى أن البريكست سيجبر أجهزة المخابرات البريطانية على الإجابة عن أسئلة غير مريحة لم تضطر إلى مواجهتها منذ الحرب العالمية الثانية، من ذلك سؤال: ما الذي يمكن أن تقدمه بريطانيا أفضل مما يقدمه الآخرون؟ في هذا السياق يمكن أن تكون الإجابة عبر الاستثمار في الاستخبارات الرقمية التي قد تكون أفضل مخرج للندن (ربما المخرج الوحيد وفق والتون) من أزمة البريكست.

مصدر الخبر
العرب

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.