تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

اللانظام العالمي الجديد

مصدر الصورة
عن الانترنيت

أحمد مصطفى

قبل أيام ظهرت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، ومستشارة الأمن القومي للرئيس السابق، جورج دبليو بوش، كوندوليزا رايس، في حوار تلفزيوني على شبكة «سي بي إس» الأمريكية، ضمن برنامج «واجه الأمة» لتتحدث عن أزمة عميقة، ومزمنة يواجهها العالم. وحددت الأعمدة الأربعة التي تقوم عليها الأزمة، وهي: الشعور القومي، والشعبوية، والانعزالية، والعداء للمهاجرين. ومع أن رايس تفادت انتقاد الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بالإشارة إلى غيره من القادة الشعبويين الآن في العالم، إلا أن توصيفها ينطبق تماماً على ترامب، الرئيس الجمهوري من حزبها. وفسرت رايس التي لعبت الدور الرئيسي في ما سمي «الحرب على الإرهاب»، و«الفوضى الخلاقة»، بعد هجمات أيلول 2001 الإرهابية على نيويورك وواشنطن، كيف أن حركات «مناهضة للمؤسسة» الآخذة في الصعود حول العالم تجعل الأزمة مزمنة، ومستمرة في التصاعد.

رايس من أعلام فكرة «النظام العالمي الجديد» الذي بشر به قادة الغرب الديمقراطي، ما بعد نهاية الحرب الباردة، وكان جوهر ذلك النظام عالم أحادي القطبية تقوده قوة عظمى وحيدة هي أمريكا، كمركز محيطه قوى بازغة جديدة تتجاوز أوروبا (القارة العجوز). وسادت مقولات أقل من أن توصف بالفكرية، مثل مصطلح فرانسيس فوكوياما «نهاية التاريخ»، وغيره. لكن ما حدث في عملية بناء النظام العالمي الجديد على مدى العقود الثلاثة الأخيرة هو في الواقع «خلخلة» لما تبقى من نظام، وفراغ أدى إلى الوضع الحالي الذي يمكن وصفه بأنه لانظام عالمي جديد.

أما مناهضة المؤسسة فليست بجديدة، ولا ترتبط بترامب، أو بوريس جونسون، في بريطانيا، أو دوتيرتي في الفلبين، أو بولسونارو في البرازيل. إنما هي على ما يبدو تطور طبيعي لجمود السياسة في الديوقراطيات التقليدية، وتحديداً منذ ثمانينات القرن الماضي، حين ضاع التمايز بين الأحزاب الرئيسية، بتكدسها في الوسط السياسي. وفقد الناس تدريجياً ثقتهم بالنظام، مع بروز يمين الوسط، ويسار الوسط. وأدى ذلك بالطبع إلى تقوية الجماعات الهامشية والطرفية ذات النزعة القومية، والشوفينية، على حساب الأحزاب التقليدية. وهكذا قوي اليمين المتطرف الشعبوي، واليسار المتطرف المناهض للمؤسسة. ولم تكن سياسة «الفوضى الخلاقة» سوى عامل آخر في الدفع باتجاه اللانظام.

وبالتوازي مع ما جرى في الغرب والديوقراطيات التقليدية في العالم كانت منطقتنا تشهد تطوراً آخر - يبدو مكملاً - هو بروز الجماعات المتشددة بغطاء ديني، وجماعات أصغر فوضوية تدعي الليبرالية. ومع نهاية القرن العشرين بدا واضحاً أن «الجماعات» تطغى على حساب الدول، وأصبح السياسيون يتعاملون معها على هذا الأساس، حتى لو ادعوا عكس ذلك، وعارضوا، وشجبوا في التصريحات العلنية. وطالت الفترة الانتقالية بين نظام ثنائي القطبية يحكم العلاقات الدولية من دون فرز نظام جديد أحادي، أو متعدد القطبية، وتدهورت المؤسسات التي مثلت النظام القديم، مثل الأمم المتحدة، وغيرها. وزاد عدد الدول الفاشلة نتيجة الحروب، أو الصراعات الداخلية، أو الانتفاضات «الخلاقة» التي لم تسفر عن تطوير، ولا حتى عن نظام.

صحيح أن تاريخ البشرية لا يسير «كما الكتاب»، وليس هناك حد زمني قاطع للتطور من نظام إلى نظام ومن حقبة إلى حقبة، لكن طول فترة الانتقال لتقترب من أربعة عقود من دون أن تبدو هناك ملامح نظام، يعني على ما يبدو أن العالم يتجه لفترة أطول من اللانظام، أشبه بفترات الكساد التي تكسر الدورات الاقتصادية من ركود، ثم انتعاش، ثم ركود، وهكذا. وربما تكون فترة اللانظام تلك فرصة لقوى جديدة تماماً، لتزيد من نصيبها في موازين القوى حين يتشكل أي نظام جديد. وليس القصد هنا القوى الصاعدة مثل الصين، أو الهند، أو أمثالهما، إنما قوى ودول لم يحسب حسابها بعد.

وعلى الأرجح، لن يبدأ مشوار بناء نظام عالمي جديد إلا مع أفول نجم الجماعات التي نالت من دور الدول، ووصول موجة الشعبوية الحالية إلى قمتها، وبداية منحنى انهيارها. وليس بالضرورة أن ينتهي الأمر بشكل الدولة/الأمة كما نعرفها، ولا السياسة، ولا نظم الحكم التقليدية، ولو بشكل معدل، إنما فترات الكساد الطويلة تبدأ بانتعاش تدريجي لتصل إلى نظام مختلف كثيراً عما كان سائدا من قبل. ووقتها تجد علوم السياسة والاجتماع والاقتصاد أبواباً جديدة للدراسة والتأطير النظري وتطلق مصطلحات وأوصافاً ونظريات جديدة تماماً.

ولا يستغرب المرء أنه لو عاشت كوندوليزا رايس حتى ذلك الحين، أن تخرج علينا بتحليل جديد مختلف، وربما تقدم تفسيرات غير متوقعة لحرب أفغانستان والعراق وسورية وليبيا.. إلى آخر القائمة. وحتى ذلك الحين، يعيش جيلنا مرحة اللانظام العالمي المائعة بين نظامين، أحدهما عرفته الأجيال السابقة، والتالي يصنع الآن من أنقاض فوضى اللانظام.

مصدر الخبر
الخليج الإماراتية

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.