تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

التوازن المختل داخل الغرب

مصدر الصورة
عن الانترنيت

عبد الإله بلقزيز

اقترن انهيارُ التّوازن في النّظام الدّوليّ بالحدث المفصليّ الكبير، الذي وَقَع في الهزيع الأخير من عقد الثّمانينات من القرن العشرين؛ بداية انفراط المعسكر «الاشتراكيّ»، الذي قاده الاتّحاد السّوفييتيّ، وتساقُط أنظمة الأحزاب الشّيوعيّة فيه تباعاً وصولاً إلى سقوط نظام هونيكر في ألمانيا الشّرقيّة ومعه سقوط جدار برلين (نوفمبر/تشرين الثاني 1989). غير أنّ اللّحظة الحاسمة في ذلك كانت في انفراط الاتّحاد السّوفييتيّ عقب قرار حلّه، في ديسمبر/كانون الأول من عام 1991؛ وهي عينُها اللحظة التي يؤرَّخ بها لنهاية الحرب الباردة بين المعسكريْن العظمييْن، على الرغم من أنّ الحرب الباردة هذه، انتهت، عملياً، منذ الانسحاب السّوفييتيّ في أفغانستان (ربيع 1988) وحتى قبل قرار حلّ «حلف وارسو» (يوليو/تموز 1991). هكذا أتى انتهاء الحرب الباردة يعلن، رسمياً، نهاية التّوازن الذي استوى عليه النّظام الدوليّ منذ قيامه عقب الحرب العالميّة الثانيّة.

وإذْ انتهتِ الحرب الباردة، انتهت معها ظاهرة القطبيّة الثّنائيّة التي حكمتِ النّظام الدوليّ طويلاً. والأخيرة تَقْبَل أن تُقْرأ بوصفها ثنائيّة قطبيْن عالميّيْن: الغربيّ (الرأسماليّ) والشرقيّ («الاشتراكيّ»)، كما يمكن ردُّها إلى ثنائيّة الدّولتيْن الكبيرتيْن الحاكمتيْن للقطبيْن (الولايات المتّحدة والاتّحاد السّوفييتيّ). في مقابل ذلك، نشأ نظام القطب الواحد، المنتصر في الحرب الباردة؛ المعسكر الغربيّ. ولقد تبيّنت قطبيّته سريعاً في حلفه العسكريّ ضدّ العراق، في حرب «عاصفة الصحراء» (يناير/كانون الثاني - فبراير/شباط 1991)، كما في «مؤتمر مدريد» لتسويّة «أزمة الشّرق الأوسط» (أكتوبر/تشرين الأول 1991)، وما تلا ذلك من أزمات وحروب (الصومال، البوسنة والهرسك، كوسوفا، صربيا...)؛ حيث بدت فيها السياسة الروسيّة في حالٍ من الشّلل التامّ (خصوصاً في عهد الرئيس بوريس يلتسين)، مقابلَ دورٍ سياسيّ وعسكريّ نشِط، ومن جانب واحد، للولايات المتّحدة ودول أوروبا.

لم يكنِ التّوازن العسكريّ والسياسيّ وحده الذي اختلّ في النّظام - الذي سمّاه جورج بوش الأب ب«النّظام الدولي الجديد» - بل تساوق معه الاختلال في التّوازن على صعيد النّظام الاقتصاديّ والنّظام التّقانيّ (التّكنولوجيّ). إذا كان اختلال التّوازن الاقتصاديّ قد تَبَدَّى في اكتساح النّظام الإنتاجيّ الرأسماليّ بلدانَ المعسكر «الاشتراكيّ» - بما فيها روسيا التي تَرَسْمَلَت- وانحسار «الاشتراكيّة» كنظامٍ اقتصاديّ في الجزيرة الكوبيّة أو في صيغة صينيّة مُتَرَسْمِلَة («اشتراكيّة» السوق)، فإنّ اختلال التّوازن التقانيّ أفصح عن نفسه في نجاح بلدان الغرب (أمريكا، أوروبا، اليابان) في تحقيق الطّفرة الكبرى في ميدان تكنولوجيا الإعلام والاتّصال ثمّ التواصل الإلكترونيّ وبالتالي، في اكتساب أدوات جديدة لإحكام سيطرتها على المنظومة الكونيّة برمّتها: معلومات، وقيماً، وأفكاراً، وأدوات... إلخ. وهكذا أتتِ العولمة ترسّخ نفوذ هذا القطب الواحد، وتوحي بنهايةٍ لأيّ تناقضٍ ممكنٍ جديد يهدّد النّموذج الغربيّ.

غير أنّ صورة التّوازن المختلّ لم تلبث أن تغيَّرت ملامحَ ومعنًى؛ إذْ لم يكنِ القرنُ العشرون قد تصرّم حتّى كانت فكرةُ الغرب الواحد والموحّد تتبدّد لتتبدّد معها فرضيّة قطبيّته الواحدة في النّظام الدّوليّ. مقابل ذلك، بدأ يتكشّفُ الميْل التّدريجيّ للسياسة الأمريكيّة إلى الانفراد بالقطبيّة وبإدارة النّظام الدّوليّ، بمعزلٍ عن محيطها الغربيّ (الأوروبيّ، اليابانيّ)، وأحياناً حتّى على حسابه. وشيئاً فشيئاً، انتقل الاختلال في التّوازن من نظام الثّنائيّة القطبيّة إلى نظام القطب الواحد نفسه، فترجم نفسَه في شكلِ اختلالٍ في التّوازن بين الولايات المتّحدة الأمريكيّة والغرب برمّته. ومن حينها، لم يعد يسع دول الغرب أن تكون شريكاً لأمريكا في قيادة النّظام الدوليّ، أو رسم سياساته؛ بل أن تكتفي بقبول دورها الجديد كأدوات برسم خدمة الاستراتيجيّات الأمريكيّة في العالم!

والحقّ أنّ المنزع الأمريكيّ نحو أوحديّة قطبيّة تقصم ظهر الشّراكة مع دول الغرب في النّظام الدّوليّ، لما بعد حقبة الحرب الباردة. يكفي المرء أن يتذكّر أنّ الولايات المتّحدة أبقت على منظومة الأطلسيّ حتّى بعد ارتفاع أسباب وجودها ومبرّراته، واستمرّت تفرضها «منظّمةً أمنيّة» لِ«حماية» أوروبا، في الوقت عينِه الذي رفضت فيه تشكيل جيش أوروبيّ موحّد.

يمكن، في ضوء الحقيقة المشار إليها سابقاً، الاستنتاج أنّ ضحايا انهيار التّوازن في النّظام الدّوليّ ليست دول المعسكر «الاشتراكي» ودول منظومة الجنوب (عدم الانحياز) فقط؛ بل أيضاً دول الغرب التي وجدت نفسَها، متأخّرةً، في وجه سياسةٍ أمريكيّة انفراديّة لا تَحْفِل بمصالح «الحلفاء». هذا وحده يسمح بأن نفهم لماذا انطلقت أصواتٌ تشيِّع نظام الهيمنة الأمريكيّة (منظومة الأطلسيّ) مثل صوت الرئيس الفرنسيّ ماكرون.

مصدر الخبر
الخليج الإماراتية

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.