تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

د. وائل عواد يتابع الكتابة من الهند من وحي الحجر الصحي عن كورونا و يوميّات قنّاص كركرونا - 2 -

مصدر الصورة
خاص

أُغلِقت المدرسةُ البريطانيّةُ في العاصمة الهندية قبل عدّة أيّامٍ من إعلان رئيس الوزراء الهنديّ حالة الإغلاق التامّ في الهند لمدّة ثلاثةِ أسابيعَ حرصاً على سلامة الأطفال من تفشّي الوباء - كورونا . وبدأت المدرسةُ بالتّدريس عبر الشّبكة العنكبوتيّةِ (أونلاين).

وبما أنَّ الحركةَ بدأت تتباطأُ خارجَ المنزلِ، طلبتُ من سائقي – تشاندان - البقاءَ في حجرتهِ الصّغيرةِ، وعدمَ الاختلاطِ مع العامّة، والابتعادَ عن التجمّعاتِ والأماكن العامّة، وأن يتجنّبَ الخروجَ من غرفتهِ، كما أعطيتهُ نقوداً لشراءِ حاجيّاتهِ وتخزينِها خلالَ هذه الفترةِ  بالاضافة إلى معقّماتٍ وكمّاماتٍ طبيّةٍ  لاستعمالِها عند الضّرورةِ. لقد غمرتهُ السّعادةُ وخرجَ مسرعاً إلى منزلهِ القريبِ.

في اليوم التّالي أرسلَ لي رسالةَ واتس أب يتمنّى لنا البقاء سالمين في المنزلِ، فقمتُ بِشُكرهِ، وكررّتُ له ذات التّعليماتِ، وأرسلتُ له فيضاً من الرسائل والفيديوهات التي استلمتُها لتقديمِ الإرشاداتِ لهُ وإبقائهِ في المنزل حفاظاً على حياتِهِ.

ينحدرُ السّائقُ تشاندان من ولاية بيهار الغربيّة، وقد قَدِمَ إلى العاصمة دلهي  للعملِ وكسبِ لقمةِ  العيشِ تاركاً زوجته وطفليه هناك في قريته.

بعد عدة أيّامٍ أعلنَ رئيسُ الوزراء الإغلاقَ التامَّ للبلادِ لمدّة ثلاثةِ أسابيعَ،  ودخلَ القرارُ حيّزَ التّنفيذ منتصف اللّيلةِ ذاتِها، أي  بعد أربع ساعاتٍ فقط من خطابه المتلفز للشعب الهنديّ. توقّفت القطاراتُ ووسائلُ النّقلِ العامّةِ ممّا زادَ الطّين بلّةً لتتحوّلَ المأساةُ الإنسانيّةُ إلى اجتماعيّةٍ، إذ هَرَعَ مئاتُ الآلافِ من العمّال للهروبِ من دلهي والعودةِ إلى قراهم  بعد أن رفضَ أربابُ العملِ تقديمَ المأوى لهم أو حتّى دفع أجورهم اليوميّة. وبدلاً من منع التجمّع لأكثر من أربعةِ اشخاصٍ، كانت الأعداد من الكتل البشريّة المزدحمةِ مخيفةً على نقاطِ العبورِ، ومعظمُهم يعاني من الجوع والعطش ولا يملك كمّاماتٍ أو ادوات تعقيمٍ. وروى العديدُ من النّاس الحكايات الكثيرةَ عن معاناتِهم في العودةِ إلى قراهم، ولعلّ الأسوأ كانت لثلاثة أشخاصٍ قطعوا مسافة 1200 كم إلى ولاية بيهار على درّاجةٍ هوائيّةٍ بثلاثة عجلاتٍ تناوبوا في قيادتها حتّى وصلوا، وغيرها الكثيرُ من القصص المأساويّة والمعاناة اليوميّة ...

مايهمُّ في الأمرِ أنَّ سائقي تشاندان كان ممتنّاً لما قدّمتهُ لهُ، وقد أرسلتُ له فيديو كليب عن مجسّمٍ للفيروس إذ يتدحرجُ خارجَ المنزلِ وكيفَ هربَ النّاسُ منه وارتدوا الكمّاماتِ وتعقّموا، وبالتّالي عادَ الفيروسُ أدراجَه وسطَ تصفيقٍ حارٍّ ورقصاتٍ شعبيّةٍ على أنغام أغنيةٍ من أفلام بوليوود الشهيرةِ ليتنهي الفيلمُ بانتصار الشّعب على الفيروس وعدم الخروج . فرح تشاندان لهذا الفيديو وأرسل لي أيقونة إعجابٍ (لايك) بابتسامة ايموجي عريضةٍ لم أستطع الوصولَ إلى مصدرها، لكنّها كانت جميلةً بصورةِ ناسكٍ هنديٍّ يضحكُ  وأسنانهُ المفرقةُ تتبدّى بابتسامته العريضةِ فبدا بإمكاني ان أُدخِلَ أنبوبَ التنفّسِ الاصطناعيّ لتخديرِه إن لزم الأمرُ،  ههههه ...

 

النّصيحة الرابعة : التعقيم ثمّ التعقيم

فُقِدت الأدويةُ والمعقمّاتُ من الصيدليّات في الهند بسرعة البرق بعد النّصائح المتكرّرة  بغسل اليدين بشكلٍ مستمرٍّ، فالهندُ بلدُ المليار و300 مليون نسمةٍ ولا يمكنُ توفيرُ المعقمّات للجميعِ. وقد استمعتُ إلى بعض المقاطع من الفيديو خصوصاً من المدمنين على الكحولِ والتي تنصحُ باستخدام المشروبات الكحولية للتعقيم في حال تعذّرَ الحصولُ على المعقمّاتِ من الصيدليّات. ولحسنِ حظّي وجدتُ في مكتبي عدّة زجاجات من المشروبات الكحولية كنت قد ابتعتُها من السّوقِ الحرّةِ خلالَ أسفاري المتكرّرةِ، وقد احتفظتُ بها لإهدائها في المناسباتِ، ووجدتُ ضالّتي بها الآن لاستخدامها للتعقيم ريثما أستلم الكميّةَ التي أوصيتُ عليها من المعقمّات وفي حال استهلكنا ما لدينا...

وبدأت بتعليم الأطفال كيفيّة التّعقيم فيما لو اضطررنا لذلك، فوضعت على يدي قليلاً من ويسكي شيفاز ريغال ومسحتُ بها وجهي  ووضعتُ لزوجتي قليلاً من زجاجة الفودكا باعتبار أنّها لا تحب رائحة الويسكي ...

طبعاً شعرنا بالغثيان والدّوخة، ولكن للضرورة أحكامٌ والغايةُ تبرّرُ الوسيلةَ فنحن بحاجةٍ للوقاية ...

اتصل بي السائق تشاندان مساءً يريد نقوداً، إذ أنفق ما بحوزتهِ وهو بغرفته وحيداً يطبخُ ويأكلُ ويشربُ وينامُ، فطلبتُ منهُ أن ياتي في صباح اليوم التّالي لأعطيهِ بعضَ الأوراق النّقديّة ...

رنَّ جرسُ المنزلِ في الصّباح، وشاهدتُ عبر شاشة المراقبةِ رجلاً يقف أمام البيت وعلى رأسه خوذةٌ الكترونيّةٌ تتدلّى منها أجسامٌ غريبةٌ تشبه مجسّم كورونا الذي صوّرته أجهزة المجهر الدّقيقة ويشبه ما شاهدته على رأس أحد عناصر الشّرطة  في ولاية تاميل نادو وهو يوقف المارّة ويجبرهم على العودةِ ليبثّ الرّعب في نفوسهم لهذا الفيروس القاتل الذي يهاجهمهم إذا لم يلزموا منازلهم ويعودوا أدراجهم بسرعةٍ وسطَ بكاء الصّغار، ومنهم من التقطَ الصّور التّذكاريّة مع رجلِ الأمن ...

فتحتُ الباب قليلاً وسألتُ: "من الطّارق ؟" ليجيبَ: "أنا السّائق تشاندان يا سيّدي جئتُ لآخذ مالاً منك كما قلت لي ."

  فتحت باب المنزل قائلاً : "خليك بعيد...  ماهذه الخوذة على رأسك ؟"

  • "سيدي هذه خوذتي، فقد جئتُ على الدّرّاجة الناريّة، وهذه الكمّامة التي أعطيتني إيّاها أنت على فمي أيضاً... لا تؤاخذني يا سيّدي هل أنت سكران أعرف أنّك لا تشرب ؟
  • "ماعليك سوف أشرح لك في وقتٍ لاحقٍ،  فقد انسكب الويسكي على ثيابي أثناءَ التّعقيم ...انتظر"  قلتُ له ذلك وأغلقتُ البابَ...

هرعتُ إلى الدّاخل وكنت مذعوراً وقلقاً أسأل نفسي ترى هل جاء يحمل معه الفيروس كورونا؟ أم جاءَ ليروّعني كي لا يعود للعمل؟ وكان أفرادُ العائلةِ يراقبونه عبر شاشة المراقبةِ المنزليّةِ.

تبرّعت زوجتي بمكنسة التّنشيف الطّويلةِ، فوضعتُ النّقود بكيس نايلون صغيرٍ وربطته في مقدمة المكنسة اليدوية، وفتحتُ الباب، ومددتُ العصا وقلت لهُ: "خذ النقود وعد بسرعةٍ إلى منزلك ولا تخرج ..." أجابني: "حاضر سّيدي... شكريا  ناماستي (أي (شكراً مع السلامة )" وهرعَ  خارج المبنى. ركضنا خلفَه بالبخّاخات والمعقّمات حتى الباب الخارجيّ، وعدنا أدراجنا إلى المنزل وأغلقنا الباب خلفنا بإحكامٍ ...

كان لي صديقٌ قد أرسل فيديو يابانيٍّ تعليميٍّ بتصويرٍ تقنيٍّ عالي الاحتراف لرذاذ أحد الأشخاص أثناء العطس ولم أفهم الكلام لأنّني لا أجيدُ اللّغة اليابانيّة، ولكنّهُ تم تحديد نسبة التّلوّث من التّصوير الدقيق للعطس في الجوّ وتحذير اليابانيّين بالابتعاد عن المارّة وعن بعضهم البعض مسافةً لا تقلّ عن مترٍ ونصف المتر والتزام المنازل .

ثمّة طرقٌ متعدّدةٌ لتوعية الأهالي وإرشادهم للوقاية من الفيروس تختلفُ من دولةٍ إلى أخرى حسب ثقافتهم ودرجة وعيهم، ويدركُ مخترع الخوذة الفيروسيّة الشّكل خطر الفيروس كورونا على المجتمع، وأراد إيصال الرّسالة بأقصى سرعةٍ، ربّما بسبب الكثافة السكانيّة الهائلة في شبه القارّة الهنديّة، وهذا مادفعهُ لاختراع مجسّمٍ  بحجم تمثالٍ ...

وطلبتُ من قسم الشّرطة في الولاية إعطائي عنوان ورقم جوّال صاحب الاختراع الجديد لأقدّم طلبيّةً بمليون خوذةٍ على الأقلّ وأصدرّها إلى عالمنا العربيّ علّي أكسبُ ثروةً بذلك، وها أنا أبحث عن وكلاء لها الآن، فهل من وكيلٍ جاهزٍ يعمل من منزله ؟

التزموا المنازل حفاظاً على حياتكم وحياتنا، وللقصّة  تتمّةٌ ...

 

                                               د.وائل عواد

                                  كاتب وصحفي سوري مقيم في الهند

مصدر الخبر
محطة أخبار سورية - خاص

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.