تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

د. وائل عواد يتابع الكتابة من الهند من وحي الحجر الصحي عن كورونا و يوميّات قنّاص كركرونا ...رح يجننونا -4

النّصيحة السّابعة: أن تصبح نباتيّاً

هذه أفضلُ نصيحةٍ تقبّلتها دونَ تردّدٍ في الهند باعتبار أنّ أكثرَ من 50% من الشّعب الهنديّ نباتيٌّ ولا يتناولُ اللّحومَ ومشتقّاتِها، ومنهم طائفةَ الجين (جين دهارما)، وجين أو (جاين/ جينا)  كلمةٌ مشتقةٌ من اللّغة السانسكريتيّة وتعني المنتصر، وكلمة  دهارما (دهرم) تعني الطّريقة الصّحيحة في العيش (القانون الطبيعي)، وتعدُّ من أقدم الدّيانات في العالم. أنصار هذا المذهب لا يقتلون أيَّ كائنٍ حيٍّ ولايتناولون الثّوم والبصل باعتبارها خضراواتٌ جذريّةٌ.

وهذه الأيّام  يمارسُ الهنود طقوساً دينيّةً تُعرف بنافراتري أي التّسع ليالٍ وهي من أكبر الاحتفالات الدينيّة عند الهندوس تكريماً لآلهة الدورغا التي ترمز إلى القوّة والنّقاء، فيمارسون طقوسَ الصّيام وتجنّب الحبوب الغذائيّة مثل الأرز والقمح والبقول لمدّة تسعة أيّامٍ متتاليةٍ، ويقومون بالعبادة ويحتفلون بعدها على أنغام الموسيقا التقليديّة. وتتزامن هذه الاحتفالاتُ مرّتين في العام مع التّغير المناخيّ في الطّقس ممّا يساعد على تأقلم الجسم البشريّ مع التّغيّرات المناخيّة واستقبال الفصل الجديد من السّنة .

لقد ارتفعت أسعارُ الخضراوات هذه الأيّام  بسبب المهرجان وكذلك تفشّي وباء كورونا والإغلاق المفروض على السكّان تجنّباً للإصابة ونقل العدوى. وبما أنَّهُ يتوجّبُ البقاءَ في المنزل دون مزاولة الرّياضة، سيحافظُ تناولُ الخضارِ على الوزن والرّشاقة، ويخفّفُ من مخاطر اللّحومِ ومشتقّاتها في هذا الوقت العصيب. ومن الصّعب على آكلي اللّحوم التحوّل إلى نباتيّين فيحتاج هذا إلى وقتٍ ليس بالقليل، لذا دخلت اليوتيوب أبحثُ عن مواقع تعلّمُ الطّرقَ التي يجب أن أتّبعها لاصبح نباتيّاً ...

دبّ بي الحماس للفكرة وبدأتُ أستمع للنصائح لأتحضّرَ جسديّاً ونفسيّاً بما أنَّ الأمر سيتطلّبُ شهراً على الأقل ونحن محجورون لمدّة 21 يوماً، فهل من المعقول يعني أن أغدوَ نباتيّاً ...

وضعتُ جدولاً مُحكماً وقائمةً للمحظوراتِ والمباحاتِ للبدءِ خطوةً خطوةً، وكانت الوجبة الأولى أرزّاً وفاصولياء حبّ وصحنِ سلطةٍ، مع ممارسة رياضة اليوغا والتّقليل من القهوة والشّاي، وشرب كميّاتٍ كبيرةٍ من الماء، وسوف أوافيكم بالنّتائج والصّمود والتصدّي لمقاومة اللّحوم ومشتقاتها عندي باعتباري إنسانٌ ملتزمٌ ...

التقرّب من الطّبيعة وموت أميرة الحقل

لا أخفيكم سرّاً بأنّي أعشقُ الطّبيعةَ وأقتني مجموعةً من النّباتات المنزليّة أقوم برعايتها يوميّاً، أضعها على الشّرفة الصّغيرةِ في المنزل لأستمتع برائحة الرّيحان والياسمين والشامبا وغيرها من الأزهار الموسميّة وأقضي بها على الاكتئاب والإرهاق وضيق النّفس. وكثيراً ما أحتسي فنجان القهوة وسط هذه الجنينة المنزليّةِ الصّغيرة وأستمتع بخضرتها وأرقبُ نموّها .

وخلال فترة الحجر بدأتُ أتردّدُ أكثرَ إلى الشّرفة عملاً بالمثل القائل: "مجبرٌ أخاك لا بطل"، وأتمشّى بين الحين والآخر حوالي مسافة 100 سنتمترٍ ذهاباً و100 سنتمترٍ إياباً، وأجلس لساعاتٍ طويلةٍ فيها، فهي المنفذ الوحيد للخروج من الغرف واستنشاق الهواء الطّلق بعد أن بدأ السّكون يخيّمُ على المنطقة واختفت الطّائرات المدنيّة من الأجواء إثرَ توقّف الرّحلات التجاريّة، إذ إنّ المنطقةَ التي أقيم بها قريبةٌ من مطار أنديرا غاندي الدّولي. بدأتُ أسمتعُ بزقزقة العصافير وقرقعة طناجر الجيران وأصوات الحرّاس وهم يتحدثون إلى ذويهم ويتناقشون بما سمعوا من جديدٍ عن فيروس كورونا.

توّلدت بيني وبين النبتات صداقةٌ وثيقةٌ، وبدأت أتحدّثُ معها طويلاً جراء زياراتي المتكرّرة وأسقيها الماءَ بشكلٍ مستمرٍّ أكثر من ثلاث مرّاتٍ في اليوم، ومن ثمّ أجلسُ لأطالعَ كتاباً وأشرب كأس المتّة. كنت ألاحظُ الأوراقَ تهتزُّ طرباً وأسمع أصوات حفيفها وأصوات تساقط أوراق الشّجر من الشّجرة المجاورة على السّقف البلاستيكي للشّرفةِ. وبدأتُ أشعرُ بسماع أصواتٍ غريبةٍ حتى خُيّلَ لي أنّ الشّتلات تكلّمني ... تمعّنتُ بالنبتات جيّداً وخُيّلَ لي أنّها تنظر إليّ باستغرابٍ، إذ لم تعتد مشاهدتي أكثرَ من مرّةٍ في اليوم، ولا تدري الأسبابَ وراء تطفّلي وبقائي بالقرب منها لساعاتٍ طويلةٍ ... أبعدتُ الهواجسَ عن مخيّلتي وعدتُ لشربِ كأس المتة والاستمتاع بقراءة الرسائل الغزيرةِ التي استلمتُها من قِبلِ العديد من المجموعات الواتسأبيّة والأصدقاء الجدد، باعتبار أنّنا نواسي بعضنا البعض ونتبادل الحكم والنّصائح والأخبار التي شاهدت منها الكثير لسنين عديدةٍ، لكنَّ اسم الدّولةِ قد تغيّرَ وتمّت صياغتها حسب الظروف الآنيّة؛ ناهيك عن بطولات البعض من قادة الجيوش الكونفوشاريّة، أصحاب المفاتيح السحريّة لكلِّ همٍّ وغمٍّ، في مواجهة التحديّات وعلمهم المسبق بالأحداث وما آلت إليه الأوضاع  الكونيّة ...

صحوتُ صباحَ اليوم مبكّراً كعادتي، وخرجتُ إلى الشّرفة للتأمّل والتمطمط  وإجراء تمارين اليوغا الخفيفة للتنفّس والتأمّل وأنا أستنشقُ الهواءَ العليلَ وأشحنُ جرعةَ الحيويّةِ المفقودةِ هذه الأيّام. ومددتُ يديّ وأغمضتُ عينيَّ وأنا أتنفّسُ بعمقٍ، ولامست يدي قرن الفليفلة الخضراء وكان قد ذَبلَ ونظرتُ إلى  شتلة الفليلفة الخضراء التي كانت تنازعُ بينما رائحةُ الفليفلة المعفّنة تعبق في الجوّ المحصور .

صعقتُ لهذا المنظرِ الحزينِ وأنا أسأل نفسي: لماذا ماتت هذه الأميرة النبتة اليافعة؟ وهل أتحمّل مسؤوليّة ذلك؟ تفحّصت التّربة وكانت مغدقةً بالماء، ترى قتلها الماء الزّائد أم لأنّي أبعدتها عن أشعة الشمس؟ إذ إننّي أبعدت نبتة البندورة عنها ونقلتها قبل يومين لأفسحَ المكان لجلساتي الطّويلة في هذا المكان الضّيّق؟ هل كانت ضحيّة فيروس كورونا؟ هرعت إلى نبتة البندورة فوجدتها يانعةً قد احمرّ إحدى أقراصها بينما مازال الآخرُ أخضرَ ينمو مبتهجاً تحت أشعّة الشمس الذهبيّة...

بدأتُ بالبحثِ عن أدوات الجريمة، فلم أجد سوى التّربة المبلّلة وبقيّة النبتات يخيّم عليها الحزن لحساسيّتها الذاتية بالتغيّر المناخيّ، بينما تنبعثُ رائحةُ الموتِ من قرن الفليفلة.

 فشلت مراحل الإنعاش والتنفّس الاصطناعي إذ إنّني لا أملكُ جهاز تنفّسٍ اصطناعيٍّ في البيت، فثمّةَ نقصٌ حادٌّ فيه بين صفوف البشر في الهند والعالم حتّى في الولايات المتحدة التي استوردته من الصين وروسيا على عجلٍ، ومن أين لي هذا؟

بعد أن تأكّدتُ من أنّها قد فارقت الحياة، هرعتُ إلى مكتبتي أبحثُ عن كتابٍ حول علم النباتات لأتعرّفَ على  السّببِ الكامن وراء هذا الموت المفاجىء لقرن الفليفلة، باعتبار أنّي أحب التغيير والتنويع ويتعيّنُ عليَّ الاطّلاع على علم النبات كي أستطيع أن أتفهّم أحاسيسها بالمناخ والكون وطرق تواصلها مع بعضها البعض وكيفيّة  التقرّب منها والعناية بها وتجنّب  إلحاق الضرر بها  ...

يتوجّب علينا أن نمعن النظر قليلاً ونحاولَ أن نفهم السّبب وراء اتشار فيروس كورونا، هل هو غضبٌ إلهيٌّ على الإنسان وجبروته؟ أم هو غضب الطّبيعة لما ألحقنا بها من أضرارٍ ودمارٍ أدّى إلى فقدان التّوازن وإحداثِ الخلل البيئيّ وخلق  ثقبٍ في طبقة الأوزون؟ أسئلةٌ تحتاج للإجابة من الخبراء والعلماء  في هذا المضمارِ، ويتطلّب ذلكَ من المجتمعات والأنظمة الديمقراطيّة الاستثمار في البحث والتّطوير الإيكولوجيّ...

لقد وجدتُ في مكتبتي كتاب (الإنسان والطّبيعة في شعريّة ابن خفاجة والرومانسيّين الفرنسيين: دراسة مقارنة للدكتور زهر العنابي)  يتحدّث  عن الشّاعر ابن خفاجة عاشق الطّبيعة الذي قضى عمره في جزيرة شقر من أعمال بلنسية شرقي ّالأندلس، ذات الجنان من البساتين والأزهار والأنهار التي جمّلها الشاعر المخضرم بشعره الجميل الشيّق ونفخ بها الحركة والحياة فجاءت رائعةً وممتعةً  ... واخترت لكم هذه الأبيات من قصيدة "ملاءة الأنوار ":

وَكِمامَةٍ حَدَرَ الصَباحُ قِناعَها

عَن صَفحَةٍ تَندى مِنَ الأَزهارِ

في أَبطَحٍ رَضِعَت ثُغورُ أَقاحِهِ

أَخلافَ كُلِّ غَمامَةٍ مِدرارِ

نَثَرَت بِحِجرِ الأَرضِ فيهِ يَدُ الصِبا

دُرَرَ النَدى وَدَراهِمَ النُوّارِ

وَقَدِ اِرتَدى غُصنَ النَقا وَتَقَلَّدَت

حَليَ الحَبابِ سَوالِفُ الأَنهارِ

فَحَلَلتُ حَيثُ الماءُ صَفحَةُ ضاحِكٍ

جَذلٍ وَحَيثُ الشَطُّ بَدءُ عِذارِ

وَالريحُ تَنفُضُ بُكرَةً لِمَمَ الرُبى

وَالطَلُّ يَنضَحُ أَوجُهَ الأَشجارِ

مُتَقَسِّمُ الأَلحاظِ بَينَ مَحاسِنٍ

مِن رِدفِ رابِيَةٍ وَخَصرِ قَرارِ

وَأَراكَةٍ سَجَعَ الهَديلُ بِفَرعِها

وَالصُبحُ يُسفِرُ عَن جَبينِ نَهارِ

هَزَّت لَهُ أَعطافَها وَلَرُبَّما

خَلَعَت عَلَيهِ مَلاءَةَ الأَنوارِ

 هزّ جمال هذه القصيدةِ مشاعري وأحاسيسي، وبدأت مراسمُ الدّفن للنبتة، وخرجتُ إلى الشّرفة أعزّي النبتات وشتلات الورد وألامس الأوراق ورششتُ الماء عليها، وخُيّل إليّ أنّي أسمع من حفيفها أصواتاً تقول:

 حّل عنا وفوت(ادخل)إلى غرفتك هلكتنا بطلّاتك ...

وهنا أسأل هل النّباتات حقّاً تتكلّم أم أنّي غدوتُ بحاجةٍ إلى طبيبٍ نفسيٍّ؟

وتبقى نصيحتي اليوميّة كعادتي التزموا بيوتكم أسلم لكم ولنا... أبعد الله عن الجميع البلاء وحفظ البلاد والعباد...

                                  الدكتور وائل عوّاد

                          كاتب وصحفي سوريّ مقيم في الهند

مصدر الخبر
محطة أخبار سورية - خاص

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.