تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

د. وائل عواد يتابع الكتابة من الهند من وحي الحجر الصحي عن كورونا و يوميّات قنّاص كركرونا ...رح يجننونا - 6 -

مصدر الصورة
خاص

تدقُّ السّاعةُ 4:20 الرابعة وعشرين دقيقةً  صباحاً، وهو التّوقيت الجديد  لاستيقاظي من النومِ كلّ يومٍ، دون أيّ سابق إنذارٍ، فأحاولُ العودهَ للنّومِ في بعضِ الأحيانِ، بينما أنهضُ من فراشي أحياناً أخرى للكتابةِ وقراءة الرّسائل عِوضاً عن الصّراع مع المخدّة للنّومِ. لايوجدُ سببٌ وجيهٌ لهذه الصّحوة الباكرة أي بعد أربعِ ساعاتٍ من النّوم فقط والجوُّ هادئٌ لا ضجيجٌ ولا أصواتٌ للطّائرات التّجارية التي تحلّق فوق بيتنا عادةً لقربنا من مطار أنديرا غاندي الدّولي، وهو من المطاراتِ الأكثر ازدحاماً في العالمِ.

لقد تعطّلتِ السّاعةُ البيولوجيّةُ في جسدي لسببين: أوّلهما  الحجرُ الصحيُّ  وقلّةُ الحركةِ،  وثانيهما فرقُ التّوقيتِ بين الهند والقنوات الفضائيّة  التي تستضيفني حسب توقيتها في ساعةٍ متأخّرةٍ من اللّيل حسب التوقيت المحلي للهند، ولا  يمكن رفض الطّلب لأهميّة المواضيع المطروحة للنّقاش .

لقد باءت جميعُ محاولاتي للعودة للنّوم الطّبيعيّ بالفشل، لذلك قرَّرتُ اليومَ أن أبدأ العملَ باكراً وأغسلَ وجهي وأتنشّط بالقيام بتمارينَ خفيفةٍ  والذّهاب إلى غرفة المكتب. أشعلتُ ضوءَ اللّمبةِ، وجفلتُ من المنظر على المرآةِ، فقد كان وجهي نصف أحمرٍ تبدو عليهِ علاماتٌ من المخدة التي كنتُ أصارعُها  لمعاودة النّوم وشعري منفوشٌ  ومكبوسٌ في أكثر من اتجاهٍ مثل الباذنجان المكبوس بحجرٍ كبيرٍ قبل حشوه ليصبح مكدوساً (نوعٌ من المقبّلات من المطبخ الشّعبيّ السّوريّ). لقد طال شعر رأسي ولحيتي بسبب الإغلاق التامّ...  (بسم الله ... يا ويلتاه على هذا المنظر المرعب! من أنت؟) كنت أحدّثُ نفسي ... وتَذكّرتُ فيلم (روبرت دي نيرو)  وهو ينظرُ في المرآةِ ويقولُ لذاته : أنت تكلّمني أنا ؟ يور توكينغ تو مي ؟...

 ولذلك كان لابدَّ من اتّخاذ القرارِ السّريعِ بحلاقة الذّقن وقصِّ الشّعرِ، وإن كان الأخيرُ صعبٌ حاليّاً بسبب إغلاق محلّات الحلاقة،  ولا يمكنني الاستعانةُ بصديقٍ.

يتعيّنُ عليَّ الآن أن أحلقَ ذقني بعد الحمَّامِ،  وبعدها لكلِّ حادثٍ حديثٌ  بالنّسبة للشّعر الطّويلِ، وإن كنتُ من هواةِ الشَّعر الخنفوس والذّقن الطّويلة أيّام الشّباب في الهند .

ثمّةَ العديدُ من القصص حول حلاقة الشّعر صادفتني في حياتي، كانت البدايةُ أيّامَ الثّانويةِ عندما عاد أخي الصّغيرُ (علي) من عند جارنا الحلّاق وكان يظن أن الحلاق قد شوّه منظرهُ، وكان حزيناً  لمظهرهِ، إذ كنّا نحلقُ عند هذا الرّجلِ لأنَّ المرحوم والدي لا يقبلُ أن نحلقَ عندَ سواه .

قلتُ له آنذاكَ: لا تيأس ... دعني أظبّطُ لك القَصّة. وأخرجتُ المشطَ الصّغيرَ من جيبي، كما أحضرَ لي مقصَّ شوارب الوالد، وخرجنا إلى الشّرفةِ كي لا تتساقط  خصلاتُ الشّعرِ على الأرض وتؤنّبنا الوالدةُ. ونجحتُ في تصفيفِ شعرهِ، غيرَ أنّي جرحتُ الجانبَ الأيمنَ من وجههِ، واقتطعتُ قطعةً من جلدِ وجههِ وقمتُ بتعقيمها  بكولونيا الوالد والضّغطِ على الجرحِ بقطعةٍ صغيرةٍ من القطن حتّى توقف النّزف .

لم يبكِ علي من الجرح ومنظر الدّم ولم يشكني للوالدين، بل تحمّل الوجعَ وحافظَ على رباطة جأشه ولذلك أحببتهُ منذ صغرهِ.

القصّة الثانية مع الحلاقة كانت في أوائل الثّمانينات من القرن الماضي في مدينة أجمير بولاية راجستهان، حيث كنتُ في السنة التحضيريّة لدراسة الطبِّ البشريّ، وكنت أقيمُ في المنزل مع طالبين آخرين هما  الصّديق الحميم د. سليمان جاموس أبو الوفى من سورية الذي يقيمُ حاليّاً في كاليفورنيا في الولايات المتّحدة،  ود. محمود خليل هاشم من الأخوةِ الفلسطينيّين المناضلين الذي ذهبَ للعملِ في الكويتِ، ولنا وقفةٌ معهُ في مقالةٍ أخرى.

كان يتردَّدُ لعندنا  فائز، وهو شابٌّ أردنيٌّ فلسطينيٌّ من الطّلبةِ العرب الأصدقاء، وبالمناسبة فهو لا يأكلُ  طبخة الملوخيّة ولا لحم الأرنب ويشرحُ القصّة بأنّ الأرنب قد قضى نحبهُ بعدَ وجبةٍ من ورق الملوخيّة.كان فائز يعاني من اضطراباتٍ نفسيّةٍ في كلِّ مرّةٍ يريدُ الذّهاب للامتحاناتِ، وكان الدّكتور محمود يعطيهِ إبرة ،مياهٍ صرفةٍ دونَ علمه، ليتحسّنَ وضعه فوريّاً  ويذهبَ لتقديم الامتحان. في إحدى المرات استأذنَ للذّهاب إلى الحلّاق لأنَّ شعره طويلٌ، فأصرَّ أبو الوفى على بقائه وأن أقومَ بقصِّ شعره بنفسي لأنّي حلّاقٌ ماهرٌ... لا أدري من أين خطرت هذه الفكرة لأبي الوفى وأنا طبعاً قلت له: تكرم عيونك أبو الوفى، أخونا فائز غالي علينا ...

 وقال له أبو الوفى: تفضّل اجلس، يلا أبو ربيع (لقبي المتعارف عليه) ظبّط القصّة على كيفك  لأخينا أبي الفوز ...

  ليش لا ، تكرم أبو الوفى أنت وضيفك، ولو أنّنا متّفقين ما أحلق غير لك ولمحمود، على كلٍّ أهلاً وسهلاً  ... أجبتهُ.

 لففنا بطّانيّةَ النّومِ  حولَ عنقهِ، وأمسكتُ المشط والمقصّ، وقمت بجلبِ العدّةِ المتواضعةِ من مقصٍّ ومشطٍ وماكينة حلاقةٍ لتنعيم نقرته...بدأتُ بالقرقعة المعتادةِ عند الحلّاقين، وفعلاً اقتنع من طقطقة شفرات المقصِّ بأنّي حلّاقٌ محترفٌ ... وبادرتُ بالقول:ِ وين قاصص شعرك؟ مين هالغبي اللي شوّهك ؟ وهي جملة متعارف عليها عند جميع الحلاقين .

  ردَّ فائز بالقول عند حلّاق بالسوق شو بيعرفه بالحلاقة، ظبط على كيفك ابو ربيع ، وشعرَ فائز بالخجل لكرمنا وحسن الضيافة ، وبدأَ يفتحُ حديثاً معي مثل باقي الحلّاقين، و سالني: صحيح هالحكي ؟  قلت لهُ: طبعاً، انا معلّم حلاقة...

 كان  محمود وسليمان يراقبانني وأنا أقصّ، وأمسك أبو الوفا المرآةَ له كي يشاهدَ طلّتهُ، وأنا أطقطقُ بشفراتِ المقصِّ بينَ الحين والآخر، وأمسكُ الشّعرَ بأطراف أصابعي، وهو يراقبُني ويدقّقُ في تعابير وجهي، وكان راضياً لهذه القصّة الجميلةِ  بجمال  الممثّل عادل  أدهم  ... وأنا  مستمرٌّ في الطقطقة وإسقاط الشّعرِ الزّائد عن المقصّ ، سألني فائز :  باين عليك معلم ،أين  تعلّمت الحلاقة؟ وهنا قلتُ له أنّني تعلّمتُها أثناء الخدمة العسكريّة، فقد خضعتُ لدورةٍ لمدَّة ثلاثه أشهرٍ، و تدرَّبتُ على الكثير من رؤوس المجنّدين الذين تمَّ جلبهم لخدمة العلم الإجباريّة في سورية، لذا اكتسبت خبرةً. وطلبتُ منه عدم الإفصاح لأحدٍ بأنّي حلّاقٌ حتّى لا تُصبح عادةً عند الشباب ، ووعدني بحفظ السرِّ.

 حمدتُ اللهَ أنّهُ كان يعاني من بداية الصّلع  وقد خفَّ شعرُ رأسه من  الأمامِ، لذلك كانت معظم قَصّتي من الخلف والجوانب واستطعت إخفاءَ الحُفرِ التي زرعتها في شعرهِ منَ الخلف، وخرج من عندنا مسروراً وهو في طلّةٍ جديدةٍ (نيولوك)، وقد وفّرتُ عليه مبلغاً من المال ولا داعي لدفعِ البقشيش للحلّاق الهنديّ.

غادرنا فائز، وكانت حلاقتي الأولى والأخيرة له، لكنّه ظلَّ يتردّدُ علينا وبقينا أصدقاء .

 في تسعينيّات القرن الماضي أيضاً،  طرحتُ فكرةَ إعداد تقريرٍ عن حلّاق الشّوارع   لبرنامج (مفكّرة مراسل) الذي كان يُبثُّ على تلفزيون الشّرق الأوسط (إم بي سي) وكان مقرّه لندن،  ووافق الزميل الخفيف الظلِّ صاحب الضحكة الجميلة – جاد الأخوي. ومهنة حلّاق الشّوارع  من الحرف المنتشرة في الهند لمئات السّنين، وتعودُ للحقبة المغوليّة  في شبه القارّة الهنديّ،  ولم تنقرض حتى تاريخه ...

راودتني الفكرةُ بعد أن لفتَ انتباهي  وجودُ حلّاقٍ  تحت شجرة الكينا بالقُرب من  السّفارة السّوريّة  في نيودلهي # 28 فازنت مارك، فازنت فيهار. وبالمناسبة،  الحلاق موجودٌ حتّى الآن  وقد ورثَ ابنهُ المهنةَ عنهُ ويزاولها في  نفس المكان  بالقرب من مبنى السّفاره القديم .

 كنت أراقبهُ باستمرارٍ، يجلبُ معه العدّةَ بصندوقٍ خشبيٍّ يشبهُ صندوقَ أدواتِ العدّةِ عند الميكانيكيّ، أو ربّما المطهّر  الشعبيّ أيّام زمان ... ياتي في الصباح الباكر ويربطُ قطعةً من الكاوتشوك لإطار عجلةِ سيّارة نقلٍ، ويرشّ الأرض بالماء وينظّفها بالمكنسةِ، ويضعُ كرسيّ الحلاقة الخشبيّ المرتفع وقطعةً من مرآةٍ،  ويقومُ بسنِّ موس الحلاقة على قطعة الكاوتشوك،  ويجلسُ على كرسيٍّ صغيرٍ يشبه ذلك الذي كنّا نستخدمه بالحمّامات الشعبيّة  بانتظارِ وصولِ أوّل زبونٍ يُقبل وبنفس الموس، وبالمناسبة، فهو يقومُ بالحلاقة من أعلى الرّأس حتى أسفل القدمين، حسب طلب  الزّبون، وبعدها يدلّكُ لهُ جمجمة الرّأس   ليطردَ خفافيش اللّيل من دماغهِ  والعصافير الصّباحية التي تتطايرُ وتهربُ من على الشجرة بسبب الضّجيج الذي تحدثهُ ضربات الكفِّ المتتاليةِ على رأس الزبون. وبعدها يقدّمُ كأساً من شاي المصالا (البهارات الهندية Masala tea) ويتجاذبانِ أطرافَ الحديثِ، وحتّى ولو جاءَ زبونٌ آخر يقوم بالتحدّثُ مع الزَّبونيين بآنٍ واحدٍ وهو يقصُّ شعرَ الزّبون الآخر.

 قمتُ بتصوير الحلقةِ، وكعادتي لعبتُ دورَ  البطولةِ في تجربة حلاقة الشّوارع، وجلستُ على الكرسيّ، وأذكرُ جيّداً أنّي دعوتُ الزّميل جاد للحلاقة على حسابي لذقنه الجميلة،  وأرسلتُ التّقرير إلى المحطّةِ، و طلبت منه دبجلةُ الصّوت بموسيقا أغنية المطربة  الرّاحلة طروب والتي تتميز بضحكتها وغمّازتيها الجميلتين على خدّيها وهي تغنّي: يا حلاق اعملي غرّه وفرّحلي ألبي شي مره... تحرئص ابن الجيران ياللي عيونه لبرا ...  بينما تهزُّ خصرها الأهيف ... لكن لم يتم استخدام الأغنية ، ربّما بسبب حقوق  الملكيّة، وحزنت عندما تغيّر مقدّم البرنامج الظّريف - الزّميل جاد الاخوي – بعد أن بدأ البرنامج ، يحصدُ جمهوراً غفيراً من المشاهدين العرب.

وبالعودة إلى قصّة شعر رأسي الطّويل، أخرجت ماكينة الحلاقة الكهربائيّة من الدّرج، ووضعتُ درجة 3 للحلاقة وبدأتُ، ومن أوّل  ضربةٍ، طار الجانب اليمينيّ من شعري،  ولم تعمل الدّرجة على ما يبدو.كان المنظرُ مرعباً في رأسي وكأنّهُ وادي  العاصمة النيباليّة  كاتمندو وعلى جانبيه جبال الهميالايا وقمّة إفريست ..عدّلت درجة الحلاقة من جديدٍ  وضربتُ الجانبَ الآيسرَ من شعري فكانت المفاجأه  أفظعَ ،إذ بدا يشبهُ خريطة الهند بعد انفصال بنغلادش وباكستان ... ولعنتُ ماركةَ فيلبيس؛ وتبيّن لي أنّ الماكينة قد صُنعت في الصّين، وقد تعرّضتُ لجشع وغشّ البائع .

هنا تيقّنتُ أنَّ  فيروس كورونا ليس صناعةً صينيّةً، وإلا فكيفَ لهُ أن يدومَ هذه المدّة الطّويلة؟  لا أدري كيف قمتُ بتحسين ما أفسدتهُ وتوقّفت بعد أن لاحظتُ خطّ زيك زاك قد ظهر وكأنّه خطّ الحدود الفاصل بين سورية ولبنان . كنت لوحدي في الحمّام  وتذكّرت  هنا شماتة أصدقائي  الذين قصصتُ  لهم شعرهم وأنا أردّدُ المثل القائل : "من حفرَ حفرةً لأخيه وقع فيها" ...

خرجتُ من الحمّام ولبست العقال (الشماغ) السّلموني ووضعت البريم، وجلست في الصّالون وحمدتُ الله أنّنا في فترة الحجر المنزليّ بسبب وباء  فيروس كورونا، ومازال هناك متّسعٌ من الوقت لينمو شعري وعندها تفتح محلّات الحلاقة وأصلِحُ ما أفسد العطّار ...

 ألم أقل لكم إنّ الحجرَ المنزليّ إجباريٌّ؟ الزموا منازلكم وبلاش فضايح ونعيما سلفاً لمن أبقى شعره على طوله من أهل الكهف إلى ما بعد انتهاء الحجر  ...

بقلم الدّكتور وائل عوّاد

الكاتب والصّحفي السّوري المقيم بالهند

 

مصدر الخبر
محطة أخبار سورية - خاص

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.