تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

 د. وائل عواد يتابع الكتابة من الهند من وحي الحجر الصحي عن كورونا و يوميّات قنّاص كركرونا -    -لا تنسوا فلسطين وأراضينا المغتصبة -20 -

مصدر الصورة
خاص

يقول المثل العربيّ: "العلم في الصّغر كالنّقش على الحجر"؛ أجل، إنّها حقيقةٌ لا يمكننا تجاهلها مهما طال الزّمن بنا. ما تتعلّمه في طفولتك وأيّام المدرسة سيبقى راسخاً في مخيّلتك كالبنيان المرصوص، خاصّةً إذا كان الأمر يتعلّق بالأمور القوميّة والحقوق المشروعة إيماناً منّا بعروبتنا وحقّنا الشرعي في العيش بأمانٍ، والدّفاع عن حقوقنا المغتصبة واستعادتها.

 وأتذكّر في كتاب التّاريخ الذي كنّا ندرسه ما كُتبَ عن حقوقنا العربيّة المغتصبة  تحت عنوان (الأراضي العربيّة المحتلّة)، إذ كانت القضيّة الفلسطينيّة واحتلال اسرائيل لفلسطين من المواضيع التي أخذت حيّزاً هامّاً من الموضوع، بالإضافة إلى الشمال السوري المحتل من قبل تركيا من لواء اسكندرون ، التي وهبتها فرنسا المحتلة  لتركيا في انتهاكٍ سافرٍ للقوانين الدوليّة، وتقدر المساحة لسواحل كيليكية بحوالي 160000 كم مربع للاقليم الشمالي لسورية من جبال طوروس تشمل عدة مدن وبلدات ، ضمّتها تركيا  بموجب اتفاقية أنقرة مع فرنسا عام 1921 مقابل اعتراف تركيا بالانتداب الفرنسي على سورية، ومازلنا حتى تاريخه ندافع عنها ونطالب بها ولن ننساها.

كانت معاناة الشّعب الفلسطينيّ من وطأة الاحتلال الاسرائيليّ تؤجّج مشاعر الجماهير العربيّة من المحيط إلى الخليج، وكنّا ندافع عنها في جميع المناسبات والاحتفالات المدرسيّة والجامعيّة، وحتّى في معترك حياتنا اليوميّة. كانت المسيرات تعمّ الشوارع، وقد كنّا صغاراً في المدرسة نخرج في المناسبات والمهرجانات القوميّة والوطنيّة نحمل العلمين السوريّ والفلسطينيّ، ونهتف بشعاراتٍ تندّد بالاحتلال و تشدّ أزرَ الشّعب الفلسطينيّ المقاوم.

وكانت حقبة العروبة في تاريخ أمّتنا (الناصريّة) وحركات  التّحرر العربيّ وحركات الفكر الشيوعيّ النّشطة وحزب البعث العربي الاشتراكيّ ترسم معالم الثّورة في سورية والإصلاح بعد حقبةٍ من الانقلابات العسكريّة والسياسيّة وحالة عدم الاستقرار وخروجنا من نكسة حزيران 1967 ...

تلك هي تربيتنا الوطنيّة والقوميّة، وهذا ما تعلّمناه في منظّمة اتّحاد شبيبة الثورة في سورية خلال فترة الشباب. ولم تكن النّشاطات السّياسيّة والفكريّة في بلدتي السلميّة، كغيرها من المدن السورية، أقلّ حماساً والتزاماً بحقّنا المشروع لاستعادة أراضينا بجميع الوسائل المتاحة. بيد أنّ ما يميّز مدينة السّلميّة أنّها كانت مسرحاً لنشاطات جميع الأحزاب والفصائل الثوريّة، والجميع يتفاخر بانتمائه إلى ذاك الحزب أو الفصيل أو الرّابطة، وتدورُ النّقاشات والجدالات الحادّة بيننا، حتّى داخل صفوف المدرسة وعلى مقاعد الدّراسة، إذ كنّا نناقش ونجادل ونتعارك ونعود إلى المنزل لقراءة المزيد عن المواضيع لتفنيد الآخر وتقوية قدراتنا على النّقاش البنّاء، ورغم الخلافات الإيديولوجيّة، فقد كانت الحركات النّضاليّة في العالم توحّدنا، و لا مساومة على القضيّة الفلسطينيّة والأراضي السوريّة المغتصبة. أستذكر هنا ، أنّنا على الرغم من خلافاتنا السياسيّة وفي سنٍّ مبكّرةٍ، كنّا نشكّل مجموعةً من التّلاميذ المجتهدين المشاكسين والقوميّين المقرّبين من بعضنا البعض. لقد شكّلنا فريقاً لكرة الطّائرة وكرة السلّة باشراف المناضل مفتول العضلات علي صبر درويش، وكان بطلاً للجمباز وقد تدرّب في مصر. وخلال ستّة أشهرٍ من التّدريبات الشاقّة فُزنا ببطولة كرة الطّائرة. وكنا نجتمع باستمرارٍ ونتناقش بالسياسة ونتبادل الكتيّبات والمنشورات والكتب الصّغيرة لقراءتها ومحاولة جذب كلّ طرفٍ إلى الآخر، ومن ثمّ نعود لمناقشتها. فرّقتنا السّجون و الغربة بعدها، فقد دخل البعض من مجموعتنا السّجن لانتمائه إلى تنظيماتٍ سريّةٍ، ومع ذلك أبقيتُ قنوات التّواصل معهم،  وفي كل مرّةٍ أزور سورية، ألتقي بمن خرج من السّجن منهم وأتواصل مع من غادر الوطن ونستذكر أيّام الزمن الجميل.

حملتُ معتقداتي ومبادئي وجئت بها إلى الهند، وكنت لا أترك مناسبةً إلّا و أشرح وأدافع عن حقوقنا وحقّ الشعب الفلسطينيّ في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلّة على أرضه فلسطين وانسحاب اسرائيل من كافّة الأراضي العربيّة المحتلّة بما فيها الجولان المحتلّ وفقاً لقرارات مجلس الأمن  338 و225 و 194 المتعلّق بعودة اللّاجئين الفلسطينيّين.

كان أوّل جدالٍ سياسيٍّ لي في الهند خلال فترةٍ وجيزةٍ من وصولي إلى مدينة تشانديغار حيث أجريت دورةً انكليزيّةً هناك، وكانت الكليّة قد استضافت عميد جامعة البنجاب الذي ألقى بالطّلبة الأجانب محاضرةً عن تاريخ الهند وصراع اللّاعنف الذي قاده الزّعيم الراحل مهاتما غاندي ضدّ الاستعمار الانكليزيّ، وأثار حفيظتي مدح عميد الجامعة للاستعمار البريطانيّ بأنّ الفضل يعود له بنشر اللّغة الانكليزيّة  في الهند، إذ تعدُّ اللّغة الرئيسيّة للتّواصل بين سكّان شبه القارّة الهنديّة بسبب تعدد اللّغات وكثافة السكّان، فلم أتحمّل ذلك ووقفت كما تعوّدت في حصّة التّاريخ في مدرستي علي بن أبي طالب بمدينة السّلميّة، وقلت له بأنّني تعلّمت الكثير من محاضرته القيّمة،  لكنّي لستُ راضياً عن مدحه للاستعمار، "يا سيّدي، أنت تعلم أنّ الاستعمار لا يخدم الشعوب، بل يضطهدها، وخيراتكم قد سُرقت وبلادكم قُسّمت بسببه، وكنتم بغنىً عنه، فالهند بلد الحضارات القديمة، وباستطاعتكم تعلّم اللّغات، وتعليم العالم حضاراتكم وثقافاتكم ولغاتكم، ولكن قل لي ما الفرق بين الاستعمار الانكليزيّ والاستعمار الفرنسيّ الذي حكمنا في سورية ولبنان؟"

ردّ قائلاً : "شكراً لسؤالك وما قلته صحيحٌ ... وأنا هنا قصدتُ تعلّم اللّغة الانكليزيّة، وهذا ما يميّزنا عن الصّين، أمّا بالنسبة لسؤالك عن الفرق بين الاستعمارين الفرنسيّ والانكليزيّ كمن يشتري الخروف، فالفرنسيّ يقطع رأسه ويأكله دفعةً واحدةً، بينما البريطانيّ يقصّ صوفه، ويأخذ حليبه ويأكل صغاره، ولهذا هناك ما يعرف بدول الكومونولث (دول المصالح المشتركة)."

صفّقت له بحرارةٍ لأنّني شعرتُ بآلامنا ومعاناتنا من وطأة الاحتلالين التّركي والفرنسيّ لسورية. واحتفظتُ بمحاضرته، وبقيت على تواصلٍ وعلاقةٍ طيّبةٍ معه فيما بعد خلال فترة الإقامة في مدينة  تشانديغار.

وبما أنّنا بالحجر المنزليّ، ولا نعرف اللّيل من النّهار، حيث تبقى الإنارة في المنزل على مدى الأربع وعشرين ساعةً، أتذكّر ماقاله لي مسؤول السّكن في جامعتي بأنّه عندما يتفقد الغرف في السّكن الجامعيّ، إذا كانت هناك غرفةٌ مضاءةٌ لساعةٍ متأخّرةٍ من اللّيل، فهذا يعني أن ثمّة شبّانٌ سوريّون يتحدّثون بالسّياسة مع طلبةٍ عرب وهنود أو يطالعون، لأنّ الهنود من عاداتهم النّوم والصحو المبكّرَين ونحن عكس ذلك... وسمعتُ هذا الكلام من الزميلين د.سليمان جاموس ود. نوري عجيل، صاحب الضّحكة المميّزة ، الذي كان يدرس في جامعة دلهي ويقيم في السّكن الجامعي الدوليّ (International Students Hostel- ISH)، إذ إنّنا نلتقي بعددٍ كبيرٍ من الطّلبة العرب والأجانب خلال فترة وجبات الطّعام، ونذهب إلى القاعة العامّة ونتناقش بالقضايا السياسيّة ونعود إلى غرفة نوري الصّغيرة ومعنا بعض الأصدقاء، ونتابع الحديث.

وكانت هذه التّجمعات الصّغيرة هي التي دفعتنا لتنظيم أنفسنا، وفتح فرعٍ للاتّحاد الوطنيّ لطلبة سورية في الهند، وممارسة نشاطاتنا والدّفاع عن قضايانا القوميّة والمشاركة في الاحتفالات السنويّة والمهرجانات.

كان أوّل انخراطٍ دوليٍّ لي في المعترك السياسيّ في الهند عام 1981،  في مؤتمر الشّبيبة العالميّ الذي نظّمته الهند، وكانت رئيسة وزراء الهند آنذاك، الزعيمة الحديديّة الرّاحلة - أنديرا غاندي - تريد أن تُدخل ابنها الزّعيم الرّاحل - راجيف غاندي - المعترك السياسيّ في الهند، بعد مقتل أخيه سانجاي في ظروفٍ غامضةٍ إثر تحطّم طائرةٍ صغيرةٍ. وترأّس الزّعيم الرّاحل راجيف وفد الشّباب الهنديّ للمؤتمر. وقمنا أنا ود. طالب عمران ومن السّفارة السّورية المحاسب الماليّ المغوار حاتم إدريس – أبو خالد، بناءً على طلبٍ من السّفير السّوريّ، بتشكيل الوفد للمؤتمر.

كان السّفير آنذاك هو رجل السّياسة المخضرم والمحبوب محمد خضر أبو ماهر، أطال الله بعمره، وكان أبو خالد يطلعه على سير أعمال المؤتمر والنّقاشات ويؤكّد له أنّنا لاننسى قضايانا. لقد عُقد المؤتمر في قاعة فيكيان بهاوان (Vigyan Bhawan) الشهيرة بحضور ممثّلين عن الشبيبة من جميع دول العالم، وبقينا ثلاثة أيّامٍ نناقش فيها قضايا التّحرّر وحقوق الشّعوب في تقرير مصيرها، وكانت القضيّة الفلسطينيّة على رأس أولوياتنا، وبقينا لمدّة ثلاثة أيّامٍ نناقش ونجادل، وأتذكّر أنّنا قضينا ساعاتٍ طوال ضمن لجنة صياغة البيان، وغاب المندوب الفلسطيني عن المؤتمر، فتسلّمنا نحنُ زمام المبادرة، وكنّا نصوغ  فقرةً ندين بها الحركة الصهيونيّة ونطالب بحقّ الشعب الفلسطيني باسترجاع حقوقه المغتصبة وتقرير المصير وإقامة دولته المستقلّة حسب القرارات الدوليّة ذات الشّأن، وكان الوفد الرومانيّ من أشرس المعارضين لهذا القرار، خاصّةً فيما يتعلّق بإدانة الصهيونيّة، وكان يرفض بشكلٍ قاطعٍ ذكر الفقرة، ويتلقّى الدّعم من الوفود الأوربيّة، فهدّدنا  برفض البيان الصّادر وبالانسحاب من المؤتمر مع جميع الوفود العربيّة إذا لم يتمّ وضع هذا القرار في البيان الختاميّ، ولن نساوم على حقوقنا وتمسّكنا بموقفنا بصلابةٍ. وبالفعل، وبعد تدخّل المسؤولين الهنود المنظّمين للمؤتمر، تمّ ذكر الفقرة بالكامل. وفي صباح اليوم التّالي جاء ممثّل فلسطين، وطالب بضمّ الفقرتين معاً بفقرةٍ واحدةٍ، ألا وهي إدانة الصهيونيّة وحقّ تقرير المصير للشّعب الفلسطينيّ. كان انتصاراً مشهوداً بالنّسبة لنا، وتُشعرك نشوة النصر بأنّك قد أعطيت الشّعب الفلسطينيّ حقّه وأنهم سمعوا خطاباتنا وجدالنا لصالح القضيّة.

ومن ثمّ في عام 1982، عقد مؤتمرٌ آخر في مدينة بونديتشيري ، مركز أرويبندو، جنوبي الهند، وكانت المواجهة أشدّ ضراوةً بعد أن حاول الوفد الرومانيّ عرقلة القرار واتّهامنا بفرض طلباتنا وأنّنا مجبرين على اتّخاذ هذا الموقف. وألقيتُ كلمةً بالحضور لاقت حفاوةً شديدةً لقناعتهم بعدالة القضيّة الفلسطينيّة، ورفضنا أن نتخلّى عن موقفنا، وقمنا بجمع تواقيع من الوفود الأعضاء في المؤتمر بعد أن رفض الوفد الرومانيّ مطلبنا بإدانة الحركة الصهيونيّة والمطالبة بحقّ تقرير المصير للشّعب الفلسطينيّ، وكنتُ أمثّل شبيبة سورية مع د.عبد اللطيف الدباغ ود.نصر خلوف. وتذرّع منظّمو المؤتمر أنّ العريضة ضاعت ولم يصدر بيانٌ عن المؤتمر، ولكنّنا حظينا باحترام وتأييد معظم الوفود الشّبابية، وتعلّمت لغة المخاطبة للوفود الأجنبيّة لإقناعهم بخطابنا الإعلاميّ والسياسيّ وتمسكّنا بحقوقنا وفق الشّرعية الدّولية وأنّنا دعاة سلامٍ ولسنا دعاة حربٍ.

لا يمكننا أن نختصر نضال أربعة عقودٍ  في الهند في الدّفاع عن قضايانا القوميّة والوطنيّة بهذه المقالة، ولكن من المهمّ هنا أن نشير ونؤكّد أنّ الحقّ لا يضيع بالتّقادم، وأنّنا على الرغم من خلافاتنا مع القادة  الفلسطينيّين  والصّراع بين حكوماتنا والمتاجرة بالقضيّة الفلسطينيّة من قبل البعض، إلّا أنّ جماهيرنا العربيّة مازالت تؤمن بعدالة قضيّتنا العربيّة القوميّة، وأنّ الشّعب الفلسطيني سوف ينال حقوقه المغتصبة، ولن ينفع تخاذل بعض الحكّام والأنظمة العميلة التي تجبر على التّطبيع مع الكيان الغاشم لأنّ رهاننا كان وسيبقى على الشّعوب العربيّة المؤمنة بقضايانا القوميّة وعروبتنا؛ ولن يخسر  الشّعب الفلسطينيّ تعاطف الشّعب الهنديّ معه  مهما تغيّرت المواقف السياسيّة باعتبارها قضيّة حقٍّ لشعبٍ مظلومٍ.

ونحن في هذا الحجر المنزليّ المفروض علينا بسبب جائحة وباء فيروس كورونا كتبت تغريدةً على تويتر مفادها : "إذا كان شهرٌ من الحجر قد أفقدنا أعصابنا وسبّب لنا الأرق والقلق الدّائمين ، تذكروا أنّ هناك شعبٌ فلسطينيٌّ محاصرٌ لقرنٍ من الزّمن، وقطّاع غزّة  أكبر سجنٍ لشعبٍ يطمح بالحرية مثلكم ... لا تنسوا فلسطين ، الحريّة لفلسطين، الحريّة لشعب قطّاع غزة المحاصر ..."

تحيّةً للشّعب الفلسطينيّ الجبّار، وتحيّةً للمناضلين، ولا تنسوا فلسطين ...

 

بقلم الدّكتور وائل عوّاد

الكاتب والصّحفي السّوري المقيم بالهند

 

 

مصدر الخبر
محطة أخبار سورية - خاص

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.