تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

د. وائل عواد يتابع الكتابة من الهند من وحي الحجر الصحي عن كورونا و يوميّات قنّاص كركرونا - دجاجٌ بلا ماءٍ (مُرغي بينا باني)- 21 -

مصدر الصورة
خاص

مع مضيّ أكثر من شهرٍ على الحجر المنزليّ، بدأ المخزون من المواد الغذائيّة يتقلّص خاصّةً اللّحوم والأسماك ولم يبق عندي سوى الدّجاج، فقد أُغلقت محلّات بيع اللّحوم بسبب تفشّي وباء فيروس كورونا في أماكن إعداد اللّحوم المرخّص لها، وإغلاقها من قبل السّلطات. يعني على علمي أنّ الفيروس لا يستسيغُ لحم الغنم، بس بروتين البشر للتّكاثر والاستنساخ، ولكن يبدو أنّني سأعيش بلا لحومٍ حتّى رفع الحظر، وأنا من عشّاق أكل اللّحمة، وقلّما يخلو طبقٌ من اللّحم يوميّاً كما اعتدنا في ديارنا حيث كان الخير وافراً قبل الحرب. حاولتُ التّخفيف من أكل اللّحوم منذ فترةٍ، والتّوجه إلى الأطباق النّباتيّة مع اللّحوم البيضاء من المأكولات البحريّة والدّجاج لتخفيف نسبة الدّهون والشّحوم، علماً أنّ الخروف في الهند لا يتجاوز العشرة كيلوغراماتٍ، ولا يكتنزُ أيّ شحومٍ، يعني خلقة ربّه نحيف، وليس كالخروف السّلموني من نوع العواس، ولكن ما باليد حيلةٌ، يعني حتّى هذا الخروف الهندي المسكين ذا الرّيجيم القاسي (الدايت) لا بأس من تناول لحمه، ولكن يا خسارة.

في البداية كنّا نذهبُ إلى الأحياء المُسلمة الفقيرة في العاصمة الهنديّة منطقة نظام الدّين، ونشتري حاجيّاتنا من اللّحوم أسبوعيّاً مع خبز التّنوّر وكم سيخ لحمٍ وقطع كبابٍ، وبعض أنواع البهارات الهنديّة، والخلطات لطبخ طبق الأرز الشّهيربالبرياني (الي طلع من راسنا نحن زوّار الهند) وأطباق اللّحوم المغوليّة الشّهيرة في العاصمة دلهي من الكورما ودو بيازا والكري على الرّغم من نسبة الفلفل الحارّ بها، لكنّها من الأطباق الزّاكية. وكنّا نطعمُ الفقراء الّذين يتجمّعون أمام المحلّات هناك، وندفع مبلغاً من المال لصاحب المطعم الشعبيّ لإطعام الفقراء خلال فترات الطّعام، ويقوم بإعطائنا كوبونات نوزّعها على من نرغب بإطعامهم هذه المرّة، وكنّا نختار الأطفال الصّغار والنّساء  والمعاقين ونتجنّب من هم بحالةٍ صحيّةٍ جيّدةٍ.

أذكرُ ذات مرّةٍ أنّنا ذهبنا بصحبة حسين فاضل أبي عبدالله، رحمه الله، وكان  يعمل محاسباً في السّفارة السّوريّة في نيودلهي، وهو من خيرة النّاس الطّيّبين الذين عاشرناهم.  كنت أصطحبه معي لشراء حاجيّاته وإطلاعه على الأسواق في دلهي، باعتبار أنّه قد وصل حديثاً للهند للالتحاق بعمله  في السّفارة،؛ وبحكم  أنّني المختار  للسّوريّين في الهند، فلابدّ من مساعدة من يأتي، وخاصّةً من نودّهم، وكان أبو عبد الله واحداً من هؤلاء لطيبته وحسن خلقه وكرمه. كان إنساناً خلوقاً ونبيلاً للغاية وكذلك زوجته. أتذكّر هنا، في فترة شهر رمضان المبارك، خلال زيارة منطقة نظام الدّين، وبينما كنّا نشتري حاجيّاتنا، تجمّع الفقراء حولنا وقد اعتادوا عليّ، باعتبار أنّني أتردّد للمكان لوحدي او بصحبة  الأصدقاء. شرحت  لأبي عبد الله  أنّني أزكّي على أرواح أمواتنا بإطعام الفقراء، وهو حرٌّ أن يفعل ذلك، بيد أنّه لم يتوان، وقال: "لعيونك أبو ربيع"، بلكنته الدّمشقيّة القديمة، والتي كنت أستمتع بسماعها من فيهِ عندما يمطّ الكلمة، ويغيّر من نبرة صوته في احاديثه الشيّقة وبطولاته الدمشقيّة الخارقة. قام أبو عبدالله  بدفع مبلغٍ من المال لصاحب المطعم بقيمة وجباتٍ لعشرين شخصٍ، وقلت له: "اختر لمن تريد أن تعطي  الكوبون، وزّعهم على من تشاء من الفقراء". وكان يمسك الكوبون بيده، ويسأل الفقير والفقيرة بلكنته السّوريّة  الدّمشقيّة:  "روزاااااا؟" يعني صائم أو صائمة باللّغة الهنديّة، وهو يمسك بالكوبون وينظر لوجه الفقير، ويهزّ أو تهزّ رأسها: "هاجي .. هاجي" أي (نعم... نعم)، وأنا مغشيٌّ عليّ من الضّحك لبساطته وعفويّته في السّؤال، وقلت له:" لك يا أبو حسين، الله يسامحك، هؤلاء الفقراء صايميين طول عمرهم، وقّفت على شهر رمضان، يحرء حريشك، وزّع الكوبانات وريّحنا، الله يرضى عليك، وخلّينا نطلع من السّوق أكلنا الذّباب..."

بعدها توقّفت عن الذّهاب إلى منطقة نظام الدّين، وبدأت بشراء الحاجيّات من سوقٍ شعبيٍّ آخر يعرف ب (INA) وسط العاصمة، حيث يوجد كل ما نحتاجه من اللّحوم والأسماك والخضار والفواكه وغيرها، ويعدُّ من الأسواق الرئيسيّة في العاصمة دلهي، يتردّد عليه معظم المقيمين في الهند من الدّبلوماسيين العرب والأجانب والهنود. وطالما أنّ الدجاج سهل التّخزين في الثّلاجة، كنت أشتري الدّجاج بكميّاتٍ كبيرةٍ، ونقوم بتخزينه في الثّلاجات، باعتبار أنّ الذّهاب لهذا السّوق مهمّةٌ شاقّةٌ بسبب الرّوائح الكريهة والازدحام. وبدأ مخزون الدّجاج  يتقلّص تدريجيّاً بحلول الأزمةِ.

 من عادة بائعي اللّحوم والدّجاج أن يجلسوا على  المنصّة ويقطّعوا اللّحم بالسّكّين التي  يضعها البائع بين اصابع قدميه، وهي عادةٌ متعارفٌ عليها هنا، لذلك كنت أشتري اللّحم  بدون تقطيعٍ، إذ يقوم بضرب العظام الكبيرة بالسّاطور فقط  لكسرها، وآخذ اللّحم كما هو،  وأستخدم الماكينة اليدويّة في المنزل  لفرم اللّحم  وتخزينه وتقطيعه. وكان بائع الدّجاج يجلس على  المنصّة وأطلب منه الدّجاجة كاملةً، فيقوم بذبحها خلف المحلّ ويرمي بها تحت المنصّة حيث يجلس، ويوجد عاملٌ صغير الحجم  يقوم بغسلها وتنظيفها ويسلّمها لصاحب المحلّ الذي يقوم بوزنها وندفع له المبلغ ونغادر بسرعةٍ عائدين للبيت. كان يثير فضولي تقلّص حجم الدّجاجة بعد أن كانت منتفخةٌ، إذ لا أكاد أضعها في طنجرة البخار وتمتلىء بالماء ويصبح فخذ الدّجاجةِ كديكٍ صوماليّ أنهكته المجاعة. بدأت أشكّك بنزاهة البائع، وقرّرت مراقبته في عمليّات البيع والوزن. وفعلاً في إحدى المرّات طلبتُ دجاجةً، فبدأ العمّال كعادتهم بذبحها ورميها تحت المنصّة لتنظيفها، وحاول صاحبُ المحلّ أن يفتح حديثاً معي كعادته ليبعد الشّبهات وأنظاري عنهُ، وألقيتُ نظرةً تحت المنصّة، فوجدت العامل وبيده حقنةً (سيرينج) كبيرةً مليئةً بالمياه، وذكّرني حجمها الكبير بالحقن (السيرنجة )التي كانت تستخدم للأبقار والجواميس في كلّيّة الزّراعة في مدينة السّلميّة،  يقوم بحقنها بالدّجاجة ويسلّمها للمعلّم، وهنا طار صوابي، وسحبت الولد من تحت الطّاولة وبقربه سلّة الدّجاجات المذبوحة، وصرخت بوجهه: "ماذا تفعل؟" وكنتُ قد تعلّمت اللّغة الهنديّة من خلال تعلّم المسبّات (الشتائم)، ورميته بوابلٍ منها، وأنا أصرخ  بوجه صاحب الدّكّان: "يا غشّاش... يا نصّاب... يا حرامي... يا ابن وابن وووو...،  تحقنها بالمياه كي يزيد وزنها، والله رح جيب الشّرطة لك وسكّر دكانك." وتجمّع النّاس من حولي وعددٌ من الأجانب والهنود وأنا أصرخ بوجهه، ورميت الدّجاجة على الأرض. كنت مغتاظاً للغاية، وهنا أدركتُ من أين كانت طنجرة البخار تمتلىء بالماء في كلّ مرّةٍ أقوم بسلق الدّجاجة - الله لا يوفقه. وقال لي: "نحنُ نبيع الدّجاج هكذا، ولستُ الوحيد، فالجميع يقوم بذلك." كان العامل يختبىء خلف السلّات من القش ويضع الحقنة (السيرنجة) سعة 100 مل بوعاء الماء ويساعده عاملٌ آخر، ويحقنان  المياه القذرة تحت جلد الدّجاجة ويرميها أحدهما في كفّة الميزان، ونحن لا نعر ذاك انتباهاً. وأصبحتُ في كلّ مرّةٍ أزور السوق أنظر تحت المنصّة، وأشتري الدّجاجة حيّةً، وأدفع ثمنها قبل ذبحها، ونتّفق على السّعر، وعندها لا داعي لحقنها بالمياه. وكان البائع الغشّاش يطلب منّي العودة إليه لأنّني كنت من الزّبائن الدّسميين وبصحبتي دبلوماسيّين دائماً، وكان التّنافس على أشدّه بين البائعين في السّوق الشعبيّ، وهو يتوسّل بالعودة للشّراء لي منه، وأنا أرفض وكان يقول لي: "كرمال الله، أنت قلّي بدّك الدجاجة بمي ولا بلا مي (بماء أو بدون ماء ) وأنا سوف أبيعك." كنتُ أعتقد أنّني ماهرٌ في  المساومة على سعر الدّجاج، وأنّه كان يبيعني بسعرٍ منافسٍ، لكنّه كان يعوّض ذلك بحقن الدّجاج بالماء، وأنا أقول لنفسي معظم الأمراض المعدية في الهند سببها من المياه الملوّثة، وكنت أشرح ذلك لجميع الاصدقاء والدّبلوماسيين، وأخبرهم بضرورة الطّلب من البائع مُرغي بينا باني (دجاج بدون إضافة ماءٍ) وذهبت مثلاً نتناقله بين الدّبلوماسيين والزوّار  ... والشّيء بالشّيء يذكر، فإذا راودك حلمٌ بأنّك تأخذ حقنةً في المنام، فهذه إشارةٌ إلى كثرة المكاسب والأرباح التي ستحصل عليها، وربّما ترقيةٌ في العمل أو وظيفةٌ محترمةٌ.

وعلى سيرة لحم الدّجاج، أذكر في زيارةٍ لي لدولة النّيبال المجاورة للهند، كنتُ أقوم بإعداد فيلمٍ وثائقيٍّ عن الإلهة كوماري، وكانت معروفةً في مملكة النّيبال آنذاك، حيث يتمّ اختيار طفلةٍ صغيرةٍ بين سن الخامسة والسادسة ربيعاً،  ويتمّ إلباسها لباس الإلهة، ويتردّد النّاس من الهندوس لعبادتها، وتبقى بمثابة إلهةٍ حتى تكبر وتبلغ سنّ البلوغ، ومن ثمّ يتم استبدالها بطفلةٍ ثانيةٍ وهكذا دواليك. وكان الفيلم الذي أعددتهُ مخصّصاً لقناة العربية في دبيّ، وقمت بزيارة إحدى الفتيات اللّواتي كنّ يمثّلن الإلهة عند الهندوس، لأتعرف على حالاتها النّفسية وما تتعرّض له من معاناةٍ نفسيّةٍ واجتماعيّةٍ للعودة إلى الحياة الطبيعيّة، وكيف  يتجنّب النّاس الزّواج منها باعتبار أنّهم كانوا يتعبّدونها، وكذلك محاولتها العودة للدّراسة، وعيش طفولتها الطّبيعية كسائر أترابها الفتيات.

كنّا في طريق العودة من قريةٍ تبعد أربعين كيلومتراً عن العاصمة كاتمندو ومعي دليلٌ سياحيٌّ عرف فضولي ورغبتي في إعداد التّقارير والتّصوير وتدوين الملاحظات، وبينما نحن نتجاوز قريةً صغيرةً، قال لي: "هل تعلم أنّ أهل هذه القرية لا يذبحون ولا يبيعون  لحم الدّجاج ولا يأكلون الفرّوج هنا؟"  قلت للسّائق: "توقّف" وطلبتُ منه أن يسهب لي في الشّرح، فأخذ يوضّح لي بأنّ السّبب يعود إلى قيام الدّجاج بإيقاظ سكّان القرية عندما حاول مجموعةٌ من اللّصوص أن يسرق رأس الإلهة المصنوع من الذّهب من المعبد، وقد كان الأهالي نيامٌ، وبدأ الدّجاج بالصّراخ،  واستيقظ الأهالي وألقوا القبض على العصابة، ومن يومها تعهّدوا بعدم تناول لحم الدّجاج أو ذبحه. أعجبتني القصّة وقمت بتصوير قصّة الضّيعة لبرنامج (صباح العربيّة)، وأجريت لقاءاتٍ مع الأهالي، وزرت المعبد، وكانت الدّجاجات تتمشى وتتمختر في الضّيعة  كأنّها دجاج الزّينة في سوق الغزل، ولسان حالها يقول  بيت شعرٍ للشاعر عنترة بن شدّاد في إحدى قصائده، إذ يقول فيه :

ومسكن أهلها مـن بطـن جـَزعٍ         تبــيض بــه مصــايف الحمــام

 لا أحد يصيبها بسوءٍ أو يسرقها أو يضربها بحجرٍ. وسألت الدّليل: "طيّب... ومن يرغب بتناول الدّجاج ماذا يفعل؟" قال لي: "يذهب إلى القرية المجاورة يأكل هناك ومن ثمّ يعود للقرية." "وكم تبعد القرية؟" سألته . قال :"هناك" مشيراً بيده ، وذهبنا معاً نصّور في القرية المجاورة، والتي كانت تبعد بالمناسبة عشرة أمتارٍفقط، ولا أبالغ بذلك. قطعنا القرية مشياً على الأقدام، وكانت محلّات بيع الدّجاج والمطاعم منتشرةً وأكلنا معهم دجاجاً مشويّاً، وعدنا أدراجنا. وأنا حتّى تاريخه أحترم  العادات والمعتقدات لدى هذه الشّعوب، وطريقتها في الالتزام بها، واحترام مشاعر بعضهم البعض، بينما في مجتمعاتنا، هناك بعض أصحاب النّفوس المريضة والجشعة يبيعون لحم الحمار والكلاب على أنّه لحم غنمٍ، ويذبحون المحرّمات ليبيعونها على أنّها لحوم دجاجٍ وطيورٍ حلالٍ،  وكانوا يستوردون اللّحوم من الهند ويبيعونها معفّنةً للمواطنين بعد انتهاء صلاحيّتها وانتشار الدّود فيها، وتمّ إلقاء القبض على البعض من مروّجيها.

و على سبيل الفكاهة، قيل لنا إنّ الحكومة الصينيّة ألقت القبض على بائع لحومٍ كان يبيع لحم الخروف والعجل على أنّها لحوم قططٍ وكلابٍ، عكس ما عندنا، كلّ ذلك بسبب فيروس كورونا اللّعين الذي دفعنا إلى مشاهدة المئات من الفيديوهات عمّا يتناوله الصّينيّون في سوق ووهان الشعبيّ، والذي قيل ضمن نظرية المؤامرة أنّ الفيروس انتشر منه بسبب طبيعة الأكل لدى الشّعب الصينيّ، والملعون الخفّاش هو رأس الحربة ...

على أيّة حالٍ، سأعود لأحتسي شوربة دجاج اليوم بمياهٍ منزليّةٍ نظيفةٍ، ومن فخذ دجاجةٍ طازجةٍ من البرّاد مع مكعّبات ماجي، بعد أن شحّ المخزون من الدّجاج، ومعزومين على فراريج مشويّةٍ بعد الانتهاء من الحجر، وأهلاً وسهلاً بضيوفنا من الزملاء والزميلات المسجونين والمسجونات والمحجورين والمحجورات حتى يتمّ الإفراج عنّا جميعاً...

وللقصّة تتمّةٌ ...

                                        الدّكتور وائل عوّاد

                            الكاتب والصّحفي السوريّ  المقيم بالهند

 

 

 

مصدر الخبر
محطة أخبار سورية

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.