تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

د. وائل عواد يتابع الكتابة من الهند من وحي الحجر الصحي عن كورونا و يوميّات قنّاص كركرونا -سوري بس غير شكل -22 -

مصدر الصورة
خاص

 

في عام 1978، قام السيّد الرّئيس الخالد حافظ الأسد وزوجته، رحمهما الله، بزيارةٍ رسميّةٍ للهند، وحلّ ضيفاً في  مدينة بومباي (مومباي حاليّاً) العاصمة التّجاريّة  للهند، وكان في استقباله القنصل الفخريّ صبحي عجيل، رحمه الله، وزوجته وعددٌ من المواطنيين السّوريّين. وكان السّيّد الرّئيس يتحدّث إلى مستقبليه في المطار عندما سألت السّيّدة الأولى عن عدد الطّلاب السّوريّين في الهند، وكان د.تحسين رجب، الذي كان يدرس في بومباي الطبّ البشريّ، موجوداً  آنذاك،  فقال لها مرتبكاً وهو يرفعُ أصابعه : "خمسة؛ سيّدتي".

لم يكن عدد الطّلاب السوريّين في الهند يزيد عن 11 طالبٍ إضافةً إلى عددٍ قليلٍ من المقيمين، وأتذكّر حادثةً قالها لي أحد أصدقائنا القدامى، عندما سأل الرّئيس السّفير السّوريّ آنذاك عبد الله الخاني ، رحمه الله ، عن وضع الطّلبة السّوريّين في الهند ، فقال له السّفير: "الوضع صعبٌ، وأتمنّى أن تحسبوا لهم فترة الدّراسة خدمةً عسكريّةً في الهند، وإنّكم بذلك يا سيّدي تكونوا قد قدّمتم لهم خدمةً جليّلةً."

فهم الرّئيس الخالد ما قصده السّفير السّوريّ، ولم يستوعب  المترجم الهنديّ، الذي كان  بالقرب منه، جواب السّفير، وكيف فهم الرّئيس الجواب وهزّ برأسه.

بلى، لم تكن الحياة المعيشيّة في الهند سهلةً على الإطلاق، وهي قاسيةٌ حتّى الآن رغم كلّ التطوّرات. بيد أنّ الهند تعلّمك الصّبر بامتيازٍ وتتخرّج منها ليس كأكاديميّ وحسب، بل كفردٍ معدٍّ لمعترك الحياة مهما قست الظّروف وذي مقاومةٍ للأمراض والأوبئة الفتّاكة. وبقينا لعقدٍ من الزّمن لا نتجاوز العشرين طالباً، فقد التحق الكثيرُ بالدّراسة ضمن برنامج التّبادل الثقافيّ، لكنّهم رجعوا إلى سورية قبل انتهاء السّنة الأولى، وبقي عددٌ من المناضلين الأشاوس الذين ضاقت بهم الظّروف، وفضّلوا التّضحية من أجل التّحصيل العلميّ، والبقاء في الهند، وكنت واحداً منهم.

كانت السّفارة السوريّة ملاذنا الوحيد، وعدد الموظفين فيها لم يتجاوز الأربعة حينئذٍ، وكنّا نذهب كمجموعةٍ نتعرّف على السّلك الدبلوماسيّ، ونقضي معهم بعض الوقت، ونأخذ من عندهم الصّور السّياحيّة والروزنامات وأعلاماً صغيرةً (سورية وفلسطين )، وما توفّر من المواد الدّعائيّة والسّياحيّة عن سورية لعرضها في الاحتفالات التي تقيمها جامعاتنا، والتّعريف بحضارتنا وبلدنا العريق، سورية .

وفي المناسبات الوطنيّة، كانت السّفارة تستدعي الطّلبة، وبسرعة البرق كان الطّلبة السّورّيون يتجمّعون في دلهي، لنستقلّ سيارات أجرةٍ، ونتّجه فوراً إلى سفارتنا في حي فازنت فيهار. وفي إحدى الزّيارات كان القائم بالأعمال السّيد قاسم مردم بيك، رحمه الله، والدبلوماسي محمد عبّاس، السكرتير الأوّل، والمحاسب حاتم إدريس، والمترجم السّوريّ المرحوم كامل الرّواس – أبو صياح، وانطلقت مظاهرةٌ  في السّوق القريب من مقرّ السّفارة، وهرعنا إلى البوّابة، وكنّا نقف على أبواب السّفارة مثل الفدائيّين، مستعدّين للتّضحية من أجل الوطن، ومن أسماء هؤلاء الزّملاء نذكر: د. سليمان جاموس و د. سالم بشارة و د. نوري عجيل و م. باسل مقصوصة و د. عمر الأطرش و د. طالب عمران و د. عمّار طلس. وكانت الشّرطة الهنديّة، التي كان عددُها قليلاً، تحاصر المظاهرات وتمنع المتظاهرين من الاقتراب من مبنى السّفارة، ويتمّ تسليم مذكّرةٍ، ويغادر المتظاهرون، ونبقى في السّفارة حتّى انتهاء الدّوام يصطحبنا الأستاذ محمّد عبّاس، الذي كان يشغل منصب السّكرتير الأوّل بسفارتنا، إلى منزله، لنقضي ساعاتٍ بضيافته نتناول فيها وجبة الغداء من طبق البامياء باللّحم والأرزّ، إذ كانت زوجته طبّاخةً ماهرةً، وكان يصرُّ على بقائنا أطول مدّةٍ، ويقدّم لنا كأس المتّة البلديّ كمان،  بعد إشاعاتٍ عن احتمال اقتحام مبنى السّفارة من قبل المتظاهرين، وقد يقضي الطّلبة اللّيل بكامله في السّفارة لحمايتها، لكنّ القائم بالأعمال قلّل من هذه الاحتجاجات، واتّخذت الشّرطة الهنديّة الاحتياطات اللّازمة، لنعود أدراجنا إلى السّكن الجامعيّ .

تصوّروا كم تغدو اللّحظاتُ جميلةً عندما نُكرَّم من قبل دبلوماسيّينا الّذين أرادوا تكريمنا لاستجابتنا لنداء الوطن.

لقد كانت مرحلةً عصيبةً في تاريخ سورية، حيث تصاعدت المواجهات المسلّحة في لبنان ووقعت الحرب الطائفيّة في أواخر السّبعينيّات من القرن المنصرم.

بدأت وتيرةُ المظاهرات تخفّ على السّفارة السّوريّة، لكنّنا نحن  المغاوير كنا  مشتهيّين أكلة بامياء؛ "شباب على بالكم طبخة بامياء؟" يسأل أبو الوفا الشّباب، والجواب واحدٌ مع التأكّيد، "طيّب استنّوا شوي"، ونذهب إلى غرفة الهاتف ونتصّل مع السّيّد محمّد عبّاس، نسلّم عليه ويدعونا إلى السّفارة.

  • "ولك تعالوا... تعالوا،  تفضلوا  نتغدّى عندي سوا."
  • "طيّب، رح خبّر الشّباب، ونجي لعندكم."

ونشّد الرّحال إلى السّفارة  التي كانت تبعد قرابة 35 كم عن مكان السّكن بالقرب من جامعة دلهي.  وبرغم قلّة عددنا، لكنّنا لم نتوانَ قطّ عن مهمّتنا الوطنيّة، حتّى ولو كنّا نحن الشّباب على بالنا طبخةٌ سوريّةٌ من أيادٍ طيّبةٍ، ونعود أدراجنا إلى الصّديق الودود د.نوري عجيل في سكن الطّلبة الأجانب، وتبقى هذه القصص جزءاً من شقاوة الشّباب وأيّام الزّمن الجميل .

لم تكن سوريّة معروفةً كثيراً هنا في الهند، وكان علينا ان نسهب بالشّرح للهنود عن موقعها الجغرافيّ، وبماذا تشتهر، وعدد سكّانها، ويطول الحديث بالعديد من المواضيع خلال رحلاتنا الطّويلة في القطارات الهنديّة بسبب المسافات الشّاسعة بين العاصمة وأماكن دراستنا، ونتعرّف على الكثير من الركّاب الذين يشاركوننا مقطورة القطارات.

  • "ما اسمك الجميل؟"، سؤالٌ يُوجّه إليك من قبل الهنود للبدء بمحادثةٍ.  
  • "وائل عوّاد"
  • "أوّاد(Awwad)  ، إنّها سلالةٌ حاكمةٌ في الهند من ولاية أوتر برادش."، يردّ قائلاً.
  • "لم اكن أعلم ذلك! حدّثني ماذا تعرف عنها، لقد أثرت فضولي" أجيب على سؤاله، فحرف العين يلفظ ألف ولذلك هناك تشابهٌ بالكنية، وطالما أنّها سلالةٌ من النّبلاء فلا مانع أن أكون منها، فيشرح لي ما يعرفه عن حقبة الأواد في الهند أبان حكم المغول.
  • "لكنّك لست هنديّاً ؟"، وينظر إلى وجهي باستغرابٍ.
  • "لا، أنا من سورية."
  • "جميلةٌ سورية، لقد زرت إيران من قبل." يردّ قائلاً، وبالنّسبة له فإنّ سورية جزءٌ من إيران .
  • "أجل، الطّبيعة جميلةٌ، والشّعب طيّبٌ مثلكم ودولتنا علمانيّةٌ ..."
  • "هل تحبّ الهند؟"
  • "نعم، إنّها جميلةٌ."
  • "لماذا أتيت إلى الهند؟"
  • "للدّراسة والتعرّف على الشّعب الهنديّ الطيّب.".
  • "جميلٌ جدّاً، سررتُ بلقائك ..."
  • "وأنا كذلك ..."

هذا هو النّموذج المتعارف عليه للمحادثة، ويضيف الهنديّ كلمة "الجميل" على اسمك، وهي طريقةٌ مهذّبةٌ ومحبوبةٌ، لكنّ مقاربة سورية بإيران تعود للجهل بالجغرافية، و باعتبار أنّ النفوذ الإيرانيّ كان قويّاً في شبه القارّة، وكانت اللّغة الفارسيّة متداولةً، ناهيك عن التّقارب الجغرافيّ والزّيارات المتبادلة مع الهند، ولم يكن أحدٌ  من العامّة يعلم أين هي سورية. وكنا نقول سوريا وليس كما تلفظ باللّغة الانكليزيّة، الأمر الذي سهّل على الهنود حفظ الاسم باعتبار أنّ كلمة سوريا تعني باللّغة السانسكريتيّة الشّمس (إله الشّمس)، ولذلك نقول لهم تذكّروا سوريا لأن الشمس تشّرق من الشرق أي من سوريا، وهناك هي بلدي. ورغم كلّ الأحداث الدّامية التي مرّت بها سوريّتنا في هذا العقد، والتي جعلتها معروفةً من قبل كلّ من يستمعُ إلى الأخبار السّياسيّة، مازال البعض هنا جاهلاً بجغرافيّة بلدنا وإرثها الحضاري. وقد روت لي إحدى الطّالبات اللواتي قدمن حديثاً إلى الهند للدّراسة في منحة التّبادل الثّقافيّ الجارية، أن سألها أحد الزّملاء عن وطنها الأمّ، ولم يكن قد سمع بسورية، ففتحت له الموقع على (غوغل ماب) لتريه وطننا الجميل، فما كان منه إلّا أن هتف: "أجل، سورية تقع بجوار إسرائيل." ممّا أثار غيظ الطّالبة وأجابته: "إنّها تقع بجوار دولة فلسطين، نحن لا نعرف دولةً تدعى إسرائيل." وروت لي أنّ ذلك الزّميل امتنع إثر ذلك عن تحيّتها ولكنّها ليست نادمةً كما وصفت لي ذلك، بل تشعر بالفخر، إنّهم أبناؤنا السّوريّون الذين رضعوا العروبة والوطنيّة في المهد، وحملوا رسالتنا وقيمنا.

أذكرُ مرّةً أنّي كنتُ عند الدّكتور نوري، وتزامنت زيارتي مع زيارة مخرجٍ سينمائيٍّ هنديٍّ، وبعد تبادل الحديث مع أبي النّور، نظر المخرج إليّ قائلاً: "تعال معي إلى مدينة بومباي، حيث عالم سينما بولييوود الهنديّة  وسوف أصنع  منك بطلاً كبيراً." حاول إغرائي بشتّى الوسائل وهو يؤكّد أنّني وسيمٌ، قولوا ما شاء الله، وسوف يعشق الهنود أدواري البطوليّة، وأتحوّل إلى نجمٍ بين ليلةٍ وضحاها. لم أكن قد التحقت بعد بدراسة الطّب، وشجّعني د.نوري وقال لي: "روح يا أبو ربيع، فرصة لا تعوّض." اعتذرت من المخرج، وقلت له: "سأفكّر بالموضوع وأعود إليك ".

يعني لو صرت نجماً سينمائيّاً على الشّاشة الهنديّة، يمكن كنت سوف أنافس كبار الأبطال مثل اميتاب باتشان ودهارميندر وفينود كومار وغيرهم من عمالقة الشّاشة الهنديّة، ولرقصت وغنّيت بين الأشجار مع البطلات أمثال نرجس وهيما ماليني وزينات أمان، وغدوتُ بطلاً أسطوريّاً يصنع المعجزات في دقائق، ويلفّ العالم في ثانيةٍ ليخلّص حبيبته من الأشرار، ولتفوّقتُ على مائتي رجلٍ وربّما انتخبوني ملك جمال العالم، وامتلكت القصور لأجد الغانيات يتهافتن على التقاط الصّور معي. ولكنّ حلمي كان قصيراً، وغدوتُ بطلاً بقلمي وكلمتي اللذين حاربت بهما ملايين الأشرار في عالمنا الذي يعجّ بالفساد. وهكذا فضّلت التّمثيل الحقيقيّ ولعب دوري في المجتمع وبين النّاس.

كان ثمّة ممثّلٌ سوريٌّ في السّينما الهنديّة،  يوسف أبو شعر، رحمه الله، كان شابّاً وسيماً مفتول العضلات، لعب دور البطولة في فيلم (طرزان)، ولكنّه كان يلعب دور الشّرير في بقيّة الأفلام، ويأكل ضرب ويموت في معظم الأفلام الهنديّة، وقد ولد في الهند ومات شابّاً إثر تعرّضه لذبحةٍ صدريّةٍ، وحزنتُ كثيراً على وفاته.  حدث أن دعاه سفيرنا المحترم، الأستاذ محّمد خضر- أبو ماهر، إلى زيارة سوريّة لحضور  مهرجان الأفلام السّينمائيّة في الثّمانينات، وكرّموه هناك، فعاد وبجعبته ذكريّاتٌ طيّبةٌ عن وطنه الأمّ، سورية. سبق له أن زارني أكثر من مرّةٍ في مكان سكني الجامعيّ في دلهي كلّما زار العاصمة، وكان  محطّ أنظار أصدقائي الهنود الّذين كانوا يتجمّعون حوله، ويسلّمون عليه، فوجهه مألوفٌ في عالم السّينما الهنديّة، وأنا أقف إلى جانبه وأفتخر به، وأصطحبه إلى مطاعم دلهي الشّهيرة.  وما أردت ذكرهُ هنا أنّه كان يتميّز  في معظم أفلامه بارتدائه قلادةً عليها النّسر السوريّ.

بدت مواهبنا في التّمثيل واضحةً من خلال المقالب النّاجحة التي  قمنا بها في الهند، ولعلّنا قد تأثّرنا بالسّينما الهنديّة – بولي وود - من كثرة مشاهدة الأفلام الهنديّة، إذ كانت دور السينما ملاذنا الوحيد لقضاء بعض الوقت، ولنقوم بتقليد الأبطال وبعض المقاطع التي يضحك عليها أصدقاؤنا الهنود، فكنّا نرغب بتطبيق دورٍ من أدوار البطولة في حياتنا العاديّة وإنقاذ الضحيّة، كما يفعل أبطال الشّاشة الهنديّة، الذين ينتصرون في نهاية كلّ فيلمٍ، ولا يقبل الهنود بموت البطل، وبالمناسبة فقد يُجبَر المخرج على تغيير نهاية الفيلم لو مات البطل في النّهاية! لايجوز أن يموت البطل على الإطلاق! وهذا عرف بالسينما الهندية، وإلّا ستُحطّم دور السينما من قبل المشاهدين، عشّاق بطل الشاشة. كنّا نخرج من دور السّينما مع الزّميل عبد اللّطيف الشلبي في جبل بور في  في ولاية ماديا برادش  حيث كان يدرس هناك، وقد عشت معه فترةً قصيرةً كانت من أجمل الأيّام في الهند، وبقينا على تواصلٍ حتّى اليوم، ليس معه وحسب، بل مع أفراد عائلته كذلك الأمر. ونتذكّر الكثير من مغامراتنا والمقالب التي قمنا بها  في الهند ومعنا الزّميل حيدر حيدر - أبو علي - من مدينتي السّلميّة. كنّا نعودُ على درّاجاتنا الهوائيّة - أبو بشار وأنا - وصديقٌ عمانيٌّ على درّاجته الناريّة، ونحن نردّد بعض كلمات أغنية البطل أميتاب باتشان في فيلم (أمر أكبر أنطوني) والتي كانت خليطاً من الانكليزيّة والهنديّة، وتقول كلماتها: "ماي نيم از انطوني كونسالفيز، مي دُنيا مي اكيلاهو" أي (أنا اسمي أنطوني كونسالفيس وأنا وحيدٌ في هذه الدنيا ...)، حتّى نصل إلى أماكن سكننا، فنودّع بعضنا البعض. وبالمناسبة كان المرحوم الممثّل السّوريّ - يوسف أبو شعر - قد لعب دور الشّرير في الفيلم، وأكل دقّة ماكنة.

أُوردُ حادثةً ظريفةً وقعت مع زميلنا عبد اللّطيف - أبي بشّار - عندما كان يستقلّ القطار من جبل بور إلى دلهي، وكان معه رجلٌ وزوجته وشخصٌ ثالث، وكان يجلس  بمقعده في الطّابق العلويّ من المقطورة، والجميع نيامٌ. وعند الصّباح استيقظت المرأة، وفتحت الشبّاك، فقامَ أحد أفراد عصابة سرقةٍ بخلع سنسالٍ من رقبتها، وصرخت: "حرامي ... حرامي "، وعلى الفور نهض زوجها ليرى ماذا حدث، وسمع أبو بشّار الاستغاثة وكأنّها تقول: "وا عبد اللّطيف" (على شاكلة وا معتصماه)، ليقفز من الطّابق العلويّ ويجد رجلاً أمامه، فانهال عليه بالضّرب، والمرأة تصرخ، وهو يصرخ ويقول: "أنا زوجها... أنا زوجها" ولم يكن أبو بشّار  يدري ماذا يقول الزّوج، وأنيرت المقطورة فانتبه فعلاً أنّه الزّوج وليس الحرامي، وضحكوا معاً حتى سقطوا أرضاً من القهقهة، فنسوا أمر السنسال، وعادواإلى النّوم وهم يضحكون. وروى لي الحادثة وضحكنا ضحك طفلين معاً ...

والحادثة الثّانية كانت مقلباً وقعتُ فيه وأنا في طريقي على درّاجتي النّاريّة إلى كليّة مولانا آزاد للطبّ في دلهي، وكنتُ مسرعاً في الصباح عندما استوقفني رجلٌ قرويٌّ وامرأته حاملٌ مستلقيةٌ على الأرض تئنّ من الألم وتتوجّع وتمدّ يديها، وزوجها يناشدني بإيصالها إلى المستشفى. لقد طلب منّي نقوداً ليدفع لسيّارة الأجرة لأنّه لايملك فلساً، ونزلت من درّاجتي لأفحصها مثلاً، باعتباري في السّنة الثّانية من دراسة الطّبّ البشريّ، يعني أتباهى بأنّي أستطيع معاينة المريض، وورفضتُ إعطاءهما النّقود، وأوقفت ريكشا ناريّةً ذات ثلاث عجلاتٍ، واتّفقت مع السّائق على قيمة الأجرة لإيصالهما إلى أقرب مستشفى، وأعطيته 100 روبية هنديّة، وهممتُ بركوب درُاجتي لأغادر، وتتبّعت سير الرّيكشا (الطّرطيرة) حتّى مسافةٍ قصيرةٍ، إذ توقّفت ونزل الرجل والمرأة منها، وكانا يستردّان بعض النّقود من قيمة الأجرة، وأنا أراقب من بعيدٍ، وضحكتُ على هذا المقلب،  وتابعتُ سيري إلى الكليّة؛ وكنت ضحيّة خداعٍ بدأ ينتشر بشكلٍ كبيرٍ في المنطقة من قبل محترفين نصّابين  يتصيّدون سكّان الأحياء الغنيّة في العاصمة الهنديّة.

لطالما كانت رغبتنا بالتّمثيل جزءاً من حياتنا في الهند، ولم نحتج إلى تدريباتٍ لأداء الأدوار، وساعدنا وجود الزميل الدكتور طالب عمران بيننا حيث كان يكتب لنا السيناريوهات. وأتذكّر في إحدى احتفالاتنا بعيد الجلاء في مقرّ بيت الطّالب السّوريّ، أن قام د.طالب عمران بكتابة سيناريو قصيرٍ وقمنا بالتّدريب قبل نصف ساعةٍ فقط، وحضر الحفل السّفير السّوريّ - محمّد خضر - والأستاذ محمّد سعيد البنيّ - أبو فادي - والمرحوم سمير الدباس والدبلوماسيّ هيثم سعد ومثّلنا جميعاً دوراً صغيراً،  وكان من بين الطلبة الذين أذكرهم د.عمّار الصبّاغ ود.ماهر خضر ود. مهيار خلف ود.ناظم الشلبي و د.طلال البلاني و د.نصر خلوف و د.عبد اللطيف الدباغ ود.غازي عبد الغفور، و لعبتُ دورَ الطّبيب وأطلقتُ على نفسي د. معتّر أفندي.

نعم كنّا ومازلنا نفتخر بأنّنا سوريّون، أبناء حضارةٍ تعود لزهاء عشرة آلاف عامٍ، وقد استطعنا أن نكسب احترام أصدقائنا الهنود والجامعات التي تخرّجنا منها بسبب تفانينا في الدّراسة والتحصيل العلميّ والأدبيّ، وهذه الصّفة يذكرها الهنود ممّن عاشروا الطّلبة السّوريّين، وممّن اختلطنا بهم من الطّلبة الأجانب  لنتركَ انطباعاً جيّداً عن بلادنا وحضارتنا وثقافتنا وأصالتنا وهذا هو إرثنا وثروتنا في هذه الحياة.

وكما قال شكسبير: "الدّنيا مسرحٌ كبيرٌ." وكما قال بول فاليري: "لنجعل من قلوبنا صفحاتٍ بيضاء، يكتب عليها النّاس عبارات الحبّ، ولنجعل من عيوننا مرايا نوجّه من خلالها الضّوء لتقرأ ماعليها."

ولسوء الحظّ، فقد وردني خبراً بأنّ الحجر قد يتمدّد أيضاً، وكانت لديّ رغبةٌ عارمةٌ بدعوة الزّملاء المحجورين إلى طبق البامياء الشّهيّ من إعداد زوجتي، ومازالت الدّعوة قائمةً حين ينتهي الحجر في إشعارٍ آخر...

وللقصّة تتمّةٌ...

                                        الدّكتور وائل عوّاد

                               الكاتب والصّحفيّ السّوريّ المقيم بالهند

 

 

 

مصدر الخبر
محطة أخبار سورية

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.