تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

الدكتور وائل عواد يتابع الكتابة من الهند من وحي الحجر الصحي عن كورونا و -يوميّات قنّاص كركرونا - تزبّبت وأنت حصرم- 41 -

مصدر الصورة
خاص

تذكّرنا وسائل التّواصل الاجتماعيّ بما قمنا بنشرهِ قبل سنواتٍ في مثل هذا اليوم، وكثيراً ما نعاود نشره ونضيف تعليقاً عليه لأنّ الكثير منها مازال سارياً ومرتبطاً بالواقع الذي نعيشه، خاصّةً في ظلّ جائحة فيروس كورونا التي فرضت علينا الحجر المنزليّ لأكثر من شهرين، إذ لم يعد العالم الخارجيّ يعني لنا الكثير للاختلاط والتردّد على الأماكن العامّة المكتظّة بالنّاس، سيّما وأنّه لم يتمّ اكتشاف لقاحٍ بعدُ لهذا الفيروس اللّعين، ويخفّفُ البقاء في المنازل وكذلك التّباعد الاجتماعيّ من حدّة الإصابات، خاصّةً في  العاصمة دلهي التي تضمّ 22 مليون نسمةٍ في ساعات النّهار.

وثمّة منشورٌ ممّا نشرته قبل سنتين يحمل العنوان ذاته للمثل الشّعبيّ القائل " تزبّبت وأنت حصرم " في إشارةٍ إلى شجرة العنب التي أثمرت والعنب مازال حصرماً عليها، أي لم ينضج بعد.

قصّتي مع العنب عشقٌ أبديٌّ، إذ رافقتني منذ براعم الطفولة التي لا يمكنني أن أنساها في منزلنا بضّيعة تلتوت والتي كانت تعرف بالسباعيّة أي التي تحمل العنب سبع مرّاتٍ، وحبّتها حمراء كبيرةٌ بحجم حبّة فاكهة المشمش، ويتدلّى العنقود منها ووزنه يتجاوز الكيلو غراماً، وكانت العناقيد كثيفةً نقطفها وتنمو عناقيد أخرى من جديدٍ وهكذا دواليك.

كنت أتردّد على الضيعة لزيارة التّربة (المقبرة) سنويّاً في كلّ زيارةٍ للقطر، وكان أبي  رحمه الله ووالدتي أطال الله بعمرها يقفان بجانبي تحت العريشة لنستمتع بالظّلّ ونتذكّر أيّام الطّفولة.حصرم

كان جذع الشّجرة قد كبر وامتدّت الغصون على طول العريشة وحتّى إلى بيت جيراننا حيث تشرئبُّ شجرتا التّين والرّمّان. لقد يبست الشجرة وتمّ إنعاشها من جديدٍ، وزُرعت شجرةٌ أخرى بجانبها.

وأتصفّح شريط ذكرياتي وأنا أبحث بين الصّور القديمة عن صورٍ التقطتها هناك مازلتُ أحتفظ بها، وتعود بي الذّكريات إلى أيّام الطّفولة وعطلة الصّيف التي كنت أقضيها في الحقول والبساتين وكروم العنب. مازالت رائحة الأرض تداعب أنفي وقد رشّت أمّي الماء تحت العريشة بعد عودتي من البستان وبحوزتي صيدٌ وفيرٌ من العصافير، ووالدتي على ثقةٍ من أنّني سأعود لها بصيدٍ وفيرٍ، ولم أخيّب ظنّها قطّ. كانت النّسمة باردةً في الصّيف الحارّ، وكنت أستحمّ وأجلس لأرتشف كأس متّةٍ وأنتظر الغداء؛ وشرب كأس المتّة ليس له وقتٌ محدّدٌ في بلادنا، ونشربه في أيّ زمانٍ ومكانٍ وفي جميع المواسم  وحتى تحت برج إيفل في باريس، على عكس عادتي حاليّاً في الصّباح فقط.

كان كلُّ شيءٍ جميلاً حولنا،  وكان الوقت يسرقنا، رغم بساطة  الأشياء من حولنا مثل عشّ العصافير والدّبابير والنّحل والحمام وصوت موتور مياه البئر بجانب الحائط وصراخ العطاشى والروّاد لجلب مياه الشّرب. كنتُ أنام تحت العريشةِ وقد فرشت حصيرةً صغيرةً وأنا متّكئٌ على الوسادة من التّعب، وأغطّ في النّوم حتّى توقظني والدتي أو والدي إذ يكون قد عاد وحان وقت الغداء ومن ثمّ القيلولة  للوالد، رحمه الله. كانت أيّاماً جميلةً لا تعوّضها جنان العالم بأسرها.

كانت قريتنا تشتهرُ بزارعة العنب والتّين والزّيتون والتّوت، وكانت  مدينتي – السّلميّة – في واقع الأمر مظلّلةً بأشجار الزّيتون وكروم العنب على مدّ النّظر حتّى جاء الاستعمار الفرنسيّ وبدأ باقتلاع الأشجار وحفر الآبار عشوائيّاً مما أدّى إلى شحّ المياه الجوفيّة وتعرّض منطقتنا للجفاف لسبع سنين عجافٍ مات فيها الشّجر والزّرع، واقتُلعت الكرومُ وأشجار التّين والزّيتون  التي حرقها  أيضاً الاستعمار الفرنسيّ عمداً بسبب اختباء الفدائيّين والمناضلين الثّوّار الشّرفاء المناهضين للاحتلال الفرنسيّ لسورية بينها.

كان كرم العنب في المنطقة الشّمالية من البيت، وكنّا نذهب لقطف العنب بأنواعه وحلاوته وقد اكتنزت الأشجار وانحنت الدّوالي من ثقل العناقيد وتمدّدت على التّربة. نحن نسمّي حقل العنب الكرْم لأنّ الكرْم هو سبيلٌ من الكَرَم، وكان  أهل الضيعة مشهورين بالكَرَم.

للعنب أنواعٌ وأسماؤها عديدةٌ لا حصر لها مثل البياضي، والأسود، والجحافي، والأشهب، وأصابع زينب، وأطراف العذارى، وبيض الحمام، والتبوكي ، والحرشي الدولاي، والزبيبي، والسكّري، وغيرها من الأسماء والأنواع التي لا تحصى.عنب ناضج

كانت تلك الأيّام ممتعةً على الرّغم من أشعة الصّيف الحارّ، وعندما نقوم بقطف العنب ونختار ما سوف نأخذه للبيت، كانت الدبابير تطاردنا إذ نقوم بتحريك أعشاشها من على الشّجيرات الصّغيرة، وكنا نتعرّض للسعها وتتورّم وجوهنا وأيادينا .

كانت والدتي تغسّل العنب وتقوم بتجفيفه لصناعة الزّبيب، بينما تصنعُ من عناقيد الحصرم العصير ونضع عليه الملح ونشربه. وللعنب فوائد جمّةٌ فهو من ثمار الجنة (جنّاتٍ من أعنابٍ)، وكنّا نتناول العنب في جميع المناسبات رطباً، مجفّفاً، يابساً، أخضر، يافعاً، فهو دواءٌ لكلّ داءٍ ومقوٍّ للبدن، إذ يعدّ علاجاً طبيعيّاً للصّداع النّصفيّ وعسر الهضم وتهيّج المعدة، ويخفض نسبة الكوليسترول  في الدّم ويستخدم في معالجة الرّبو.

بدأ الفقر يخيّمُ على قريتي تلتوت تدريجيّاً، وهاجر الكثير من سكّانها بحثاً عن عملٍ وحياةٍ أفضل وكنت في كلّ مرّةٍ أزورها أتألّم كثيراً للبيوت المهجورة والفقر والغبار الذي يملأ شوارعها، ولم تعد تلك الضّيعة التي كنت أعيش بها في طفولتي، وكنت أذرف الدّمع كلّما مررتُ بالمقبرة وأنظر إلى بيتٍ من حجر الصّوّان لأقربائنا من بيت الضّحّاك قد تحوّل إلى ركامٍ وبجانبه منزلين تهدّما، ولكنّني أسلّم على كلّ من أراه في طريقي إلى الأرض من العمّال والفلّاحين وسكّان القرية حتى دون أن أتذكّر أحداً منهم، وهذه عادةٌ متّبعةٌ في القرية، وأتابع طريقي مع إخوتي إلى مدينتنا – السّلميّة - وأنا أنظر على جانبَيّ الطّريق وآثار الفقر والهجر ظاهرةٌ في كلّ زاويةٍ أو بيتٍ من طينٍ كانت تدبُّ به الحياة من قبلُ...

وكنتُ قد كتبتُ قبل عامين في مثل هذا اليوم عن الدّالية في شرفتي، و ها هو الصّيف يحلّ من جديدٍ وتثمر الشّجرة. إنّ زراعة أشجار العنب والتّين والياسمين هي من عادتي أينما حللتُ في العاصمة دلهي، وفي كلّ مرةٍ أنتقل إلى منزلٍ جديدٍ أترك الشّجرةَ في مكانها ولا أقوم بنقلها، بل أزرعُ الأشجار من جديدٍ، وهذا ما فعلته في نادي الصّحفيّين في جنوب آسيا حيث توجد حديقةٌ كبيرةٌ، إذ قمت بشراء الشّتلات من العنب وزرعتُها في الحديقة وواظب البستانيّ على العناية بها، والآن تراها تتسلّق على مدخل النّادي وهي مليئةٌ بالعنب وأوراق العنب الكبيرة التي يعمد عمّال المطبخ في النادي إلى قطفها لي كلّما زرت النّادي أسبوعيّاً،  وهم لا يعلمون ماذا أفعل بها بينما أترك لهم عناقيد العنب.وائل والعنب

وفي الكثير من الأحيان يحتفظون بها في البرّاد لأنّهم يعرفون مدى تعلّقي بالأشجار، وكثيراً ما أساعد في رفع ومدّ الأخشاب والأعمدة لتعرّش الأغصان. ولا يوجد في الهند ورق عنبٍ، لذا نطلب ممّن يزورون الهند جلبه لنا أو نستورده لصنع طبق اليبرق (ورق العنب المحشيّ بالأرزّ) الذي نعشقه، وقد تعلّمت زوجتي طبخه على الطّريقة السّوريّة، وبدأ أصدقاؤنا الهنود يتذوّقونه ويستسيغونه ويقطفون ورق العنب من حدائقهم ليشاركوننا في تناول هذا الطّبق عندما يزورننا.

عندما نتحدّث عن الرّبيع في زمن السّياسة، نتّمتّع ببراعم الرّبيع ونتعجّل بقطف الثّمار في عالم السّياسة لقناعتنا بأنّنا انتظرنا الكثير، وأنّ المحاصيل حان قطافها كما كنّا نتوقّع لإيماننا بأنّ الصبر هو المفتاح الرّئيسيّ للفرج، وثقتنا كبيرةٌ بأنّنا سنجني ما زرعته أيدينا .

أعود إلى شرفتي في بيتي وأراقب خصلاتٍ من الحصرم قد تدلّت على السّياج ، أحاول أن أحميها من أشعّة الشمس الملتهبة في العاصمة دلهي والتي وصلت إلى 48 درجةً مئويّةً في الظّلّ، فورق العنب يمنحها ما أمكن من الظّلّ.

زرعتُ العنبَ في غربتي وكنتُ أتأمّل الحصرم وأتذكّر منظرهُ على الدّويلة في قريتي، وأتذكّر الكثير والكثير، ويعود بي شريط الذّكريات إلى أيّام الطّفولة وشقاوتها، فلم تكن حرارة الشّمس تهمّنا ولا أعشاش الدّبابير تخيفنا ونحن نذهب إلى الكرم لنقطف العنب ونتناول بعض الحبّات النّاضجة ونرى البعض منها وقد التهمت العصافير والدّبابيرُ نصفها، والبعض الآخر أصبح زبيباً، ونعود وقد امتلأت السّلّة، والفرحة لا تفارقنا مع أنّ أيدينا تجرّحت قليلاً وسيقاننا امتلأت من آثار الوخز والقرص كذلك الأمر، ولم نتألّم .

ومن روائع الأديبة السّوريّة غادة السّمّان التي تحظى كتاباتها بجمهورٍ غفيرٍ من عشّاق الأدب في بلدتي – السّلميّة - ممّن ينتظرون بشغفٍ كتاباتها، أقتطف من ثمارها عناقيداً لهذه المناسبة:

"مترفٌ أنت أيّها الرّبيع ....ومخمورةٌ أنتِ يا عناقيد العنب...

لتوقف أفكارك عن النّموّ .....المرعى يعجُّ بالصّعاليك.

كُفّي أيّتها الغيمة عن البكاء......السّحاب لا يعرف الرّحمة

الحصرم واللّيمون .. يتنازعان على الحامض

وبينهما تكسّرت أضلاع العريش".

لكلّ حبة عنبٍ في نضجها حكايةٌ، ولكلّ ورقة عنبٍ على العريشة سردٌ بلغةٍ مختلفةٍ، ربّما تختلف عن قصّة (الثّعلب والعنب) .

أنتظر نضوج العنب بشغفٍ، ومِنجلي هو الوقتُ، ولن أتسرّع في أكله، وتلك هي السّياسة، ففي كلّ مرّةٍ نرى بصيص أملٍ، نتسرّع بالحلّ ونأكل الحصرم ونضرس ...ولكنّني هذه المرّة سأنتظر حتى ينضج العنب، فقد امتلأت أيدينا بالأشواك دون أن نقطف شيئاً، وكذلك اعتصر الألم قلوبنا لما حدث ويحدث لأنّ خسارة حبّة عنبٍ واحدةٍ تضنينا، ويتألّم العنقود وتبكي الأوراق بصمتٍ وتبسط نفسها بفخرٍ رغم العطش لتحمي ما تبقّى من العنقود في بقعة ترابٍ صغيرةٍ عالقةٍ في أقدامنا تصارع على البقاء والصّمود في وجه الرّياح العاتية التي تعصف في بلادي وإطفاء حريق الصّيف كي لا نتحوّل جميعاً إلى حطبٍ يُكنَسُ من مكانه الآمن..

وسأبقى أشعرُ بما قاله جبران خليل جبران: "إذا تعاظم حزنك أو فرحك صَغُرَتْ الدّنيا."

لقد تعاظم حزننا، وأنا بانتظار الفرح وأشحن عزيمتي، ولا أحبّ أن يضيق أفقي، وأردّد ما قاله العظيم جبران:

"كرمي على دربٍ، فيه العنب وفيه الحصرم. فلا تلمني يا عابر السّبيل إن أنت أكلت منه فضرست"،

وبما أنّنا نخاطب سورية المهدُ من الهند ونتألّم لآلامها، نستذكر ما قاله الأديب الكبير رابيندرا طاغور عن وطنه :

"إيه يا وطني، أطلب إليك الخلاص من الخوف، هذا الشّبح الشّيطاني الذي يرتدي أحلامك الممسوخة، الخلاص من وقر العصور، العصور التي تحني رأسك وتقصم ظهرك، وتصمّ أذنيك عن نداء المستقبل".

ونقول للبعض : تزبّبت وأنت حصرم، علماً أنّ الزّبيب الطيّب يأتي من العنب النّاضج البلديّ الأصليّ على أيّة حالٍ .         وللقصّة تتمّةٌ...

                                                   الدّكتور وائل عوّاد

                                        الكاتب والصّحفيّ السّوريّ المقيم في الهند

مصدر الخبر
محطة أخبار سورية

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.