تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

الدكتور وائل عواد يتابع الكتابة من الهند من وحي الحجر الصحي عن كورونا و -يوميّات قنّاص كركرونا -لمن تُهدى العطور؟ كلّما لاح طيفكم فاح عطركم - 42 –

مصدر الصورة
خاص

نعم، لقد مدّدت الحكومة الهنديّة فترة الحجر المنزليّ حتى الثّامن من شهر حزيران/ يوليو والحجر على باقي القطّاعات حتى نهاية الشّهر ذاته، ولم يعد يزورنا بائع الزهور الذي كان يتردّد إلى منزلنا أسبوعيّاً وبحوزته أجمل انواع الزّهور الموسميّة. كان يتّصل بي قبل المجيء للتّأكد من أنّني موجودٌ، خصوصاً عندما يحملُ زهور النّرجس ولا أحد يشتريها منه سواي، وكنتُ أنتظره في المنزل حتّى يأتي على درّاجته الهوائيّة (البسكليت) قاطعاً مسافة أكثر من 30 كم وهو يحمل طاقاتٍ من الزّهور إلى حيّنا ...  وعلى أيّة حالٍ فهو لن يأتي في هذا الصّيف الحارّ فقد انتهى الموسم، ولكنّ غيابه الملحوظ هذا لا يمنعني من الصّحو باكراً، والاستمتاع برائحة العطر الطّبيعيّ من النبتات التي أزرعها، والتّوجه إلى الشّرفة لمراقبة أزهار الياسمين وهي تتفتّح ليغمرَ عبقها شرفتي، وأستمتعَ بشرب فنجان القهوة الصباحيّ، وأفركَ بعض حبيبات الحبق (الرّيحان) بكفّي وأشمّها وأضعها في جيب قميصي حتّى تبقى الرّائحة أطول مدّةٍ ممكنةٍ. أراقب أزهار ملكة اللّيل التي كنت أحاورها في المساء وقد سقطت وفاح شذاها لتجتاحَ روحي وذاكرتي قصصُ العطور والعطّارين والحدائق المتنوّعة لزراعة الزهور والورود والمسك والعنبر والعود.زهور

كنت قد اصطحبت راجيش سوني، أحد الأصدقاء الهنود القدامى  إلى سورية خلال إحدى زيارتي للقطر، و قمنا بزيارة حارات وأسواق دمشق القديمة، واصطحبتهُ إلى سوق العطّارين، وهو أحد أشهر الأسواق في دمشق القديمة، ويتفرّع عن سوق البزوريّة، شرق الجامع الأمويّ الشهير، وهذا السّوق متخصّصٌ ببيع جميع أنواع العطور والأعشاب الطّبيعيّة بأنواعها، وأصحاب المحلّات هناك توارثوا المهنة أباً عن جدٍّ. كان الطّريق ضيّقٌ، ودخلنا من سوق الحميديّة الشّهير الذي يعود للقرن الثّاني عشر الميلاديّ، وقد تفاجأ صديقي بهذه المحلّات التّجارية الصّغيرة والازدحام غير المعتاد والمختلف عن باقي المناطق من دمشق، وقد أعادته هذه المناظر والمحلّات الخشبيّة الصّغيرة إلى الأسواق الهنديّة في دلهي القديمة بالقرب من جامع مسجد الشهير. كانت رائحة الأعشاب والعطور تفوح في كلّ زاويةٍ حيث تُباع كافّة أنواع العطور والأعشاب لمعالجة الأمراض، وهذا ما يحبّه الهنود لأنّ الأدوية العشبيّة من اختصاصهم.

 لا أعرف ما هي الخلطة السّحرية التي جذبت راجيش، فهو لم ينسَ بعد أكثر من عشرين عاماً مرّت على زيارته لسورية هذا السّوق الشّهير والعطر الذي اشتراه من هناك. وكنت أشرح له سبب شهرة هذا المحلّ وكثرة الأعشاب والعطور، والسّبب يعود إلى غنى التّربة السّوريّة بالأعشاب التي تتجاوز ثلاثة آلاف نوعٍ وتنمو بشكلٍ طبيعيٍّ في السّهول والوديان والجبال السّوريّة، فالتّربة السّوريّة غنيّةٌ بالسّمادات الطّبيعيّة، لذا تعطي أنواعاً مميّزةً من الأعشاب، ويتمّ قطفها وبيعها في السّوق، ومن ثمّ يقوم أصحاب المحلّات بتجفيفها وصناعة العطور والأدوية الشّعبيّة المتنوّعة لمعالجة كافّة أنواع الأمراض.زهور 1

 كانت الزّيارةُ تاريخيّةً بالنّسبة له حيث كان أصحاب المحلات يقدّمون له الشوكولا والتّوابل والمكسّرات ويغرونه بالشّراء، و قد تفاجأ أنّ أحد أصحاب المحلّات كان  خرّيج جامعة دمشق  ويعمل في المحلّ، وترجمتُ له ما قاله لي بأنّ هذه التجارة قد توارثها عن أبيه وجدّه وأنّ هذا المتجر عمره أكثر من مائتي عامٍ، واشترينا الكثير من المنتجات. وفي كلّ مرّة كنت أنزل بها دمشق، كان صديقي يطلب منّي أن أجلبَ له قاروراتٍ صغيرةً من المسك والعطر الدّمشقيّ، فيصوّر لي الزّجاجة وأجلب له عدداً منها. وبالمناسبة، فمن عادتنا في الأسفار أن نشتري العطور الفرنسيّة من الأسواق الحرّة في المطارات، ولكن أن تشتري عطراً طبيعيّاً فهذا لا يفضّلهُ إلّا قلّةٌ من النّاس، ولا مانع لديّ في إحضارها لأنّ حملها سهلٌ، وأشعر بالسّعادة عندما أهديها لراجيش، وأفتخر أنّني نجحت بنقل قارورة عطرٍ دمشقيّةٍ صغيرةٍ ألخّص بها روائح دمشق الياسمين، مدينة الحبّ والعشق،  وأوقظ عشقه لسورية ورغبته بزيارتها من جديدٍ هو والكثير من الأصدقاء الهنود الذين زاروا دمشق، أقدم عاصمةٍ في التّاريخ، وأسواقها القديمة، وجلبوا معهم بعض التّحف  الشّرقيّة والمنتجات  اليدويّة وغيرها من التّوابل الدمشقيّة والمكسّرات الشهيرة.زهور 1

تشتهر معظم الدّول العربيّة والعالميّة بصناعة العطور الطّبيعيّة، وكثيراً ما تغنّى بها الشعراء، وأطربتنا الأصوات الجميلة في الأغاني عن الورد والعطر والعطّارين، وأتذكّرُ هنا أغنيتين، الأولى جزائريّةٌ كان يغنّيها المطرب الجزائريّ  الرّاحل الشابّ حسني – رحمه الله -  تقول كلماتها:

عطّار يـا العطّار قالولي دوايـة عندك نسيبو

عطّار كي داوي لفراق حبيبو

 قالولي دوايـة عندك نسيبو

عطّار كي داوي لفراق حبيبو

و يـا بدواك يـا العطّار يـا بدواك يـا العطّار سيدي العطّار

كونك طبيب أعطيني دواء الحب

 صعيب باش نشفي من دون أضرار

 عطّار يـا العطّار سيدي العطّار

كونك طبيب أعطيني دواء الحب

 صعيب باش نشفي من دون أضرار

عطّار يـا العطّار

والأغنية الثّانية ترعرعتُ على حبّها بصوت المطرب العراقيّ الشّهير الرّاحل ناظم الغزاليّ – رحمه الله - كانت ومازالت تحتفظ والدتي الكريمة بأسطوانةٍ له، وتقول بعض كلماتها:   

عمّي يبياع ألورد كلي الورد بيش كلي

بالك تدوس على الورد وتسوّي خله خله

 باجر يصير حساب يبه

والله شتكله الله مو هذا الله

 ورد الزرعته خوش ورد

 وبيدي زرعته زرعته

 والمور يهل مخلوك تره

 لأجله جرعته لأجله

مو كلّ ورد زرعوا ورد

والريحه طيبه طيبة

ومن المعروف أنّ كلمة (عطّار) عربيّةٌ أصيلةٌ، وتُطلقُ على صانع العطور الطّبيعيّة، وبمجرّد أن تبوح بكلمة (عطر) تفوح نفحةٌ من العطور .

والقصص لا تنتهي من المدن العربيّة الشّهيرة بالعطور، وكذلك تشتهرُ الهند بصناعة العطور الطّبيعيّة التي تعود إلى أكثر من ألفي سنةٍ، إذ ارتبطت هذه الصّناعة بالسّلاطين والمهراجا، وانتشرت زراعة الورد في مناطق عديدةٍ من شبه القارّة الهنديّة، ممّا جعلها محطّ أنظار العديد من السّيّاح والزبائن، خصوصاً من دول الخليج الذين يتوافدون لشراء دهن العود.

 وكثيراً ما تزور الأسواق الشعبيّة في مدينة مومباي، العاصمة التّجاريّة للهند، وتجد أسماء العطور مكتوبةً باللّغتين العربيّة والأردو، وما يسترعي انتباهك وفضولك هي الرّوائح الزكيّة التي تفوحُ، فكلّما دنوت من السّوق، كلّما زادت الرّوائح الزّكيّة الموضوعة في قاروراتٍ زجاجيّةٍ لا تقلّ جمالاً وأناقةً حتّى في طريقة صفّها على الرّفوف لتجذب الزّبائن ويضمن البائعون شراءك عطراً واحداً على الأقلّ من شذى المسك والعنبر والخزامى (اللّافندر) وزهر البرتقال والياسمين والزنبق وغيرها من أنواع الطِّيب، ويشرح لك البائع عن فوائد كلّ عطرٍ ورائحته لمعالجة العديد من الأمراض النّفسيّة كذلك الأمر بسبب رائحته الزّكيّة. وهذه العطور كانت تستخدم للعلاجات النّفسيّة والعصبيّة في قديم الزّمان. وكما هي الحال في باقي الدّول، لكلّ بائعٍ خلطةٌ خاصّةٌ تميّزه عن باقي المحلّات التّجاريّة.

قُمت بإعداد تقريرٍ مصوّرٍ لبرنامج (محطّات) على تلفزيون الشّرق الأوسط (MBC)، والذي كان مقرّه لندن، وقمت بزيارة الأسواق الشّعبيّة الهنديّة والتّعرف على سوق العطور وعلى أماكن زراعتها وصناعتها، وقادتني الزّيارة إلى قرية كانوج الصّغيرة شمال الهند، والتي ارتبط تاريخها بصناعة العطور، وكانت الرّحلة شاقّةً، وعمليّات قطف الزّهور بدائيّةً من بتلات القرنفل وأوراق الخزامى (اللافندر) والبنفسج وجذور السّوسن (الآيرس) وخشب الأرز والصندل وثمار أشجار الموالح، وتجد وكلاء من جميع أرجاء الهند قد قدموا لشراء الزّهور، وتشعر بأنّك في عالمٍ آخر غارقٌ بين البتلات المتساقطة أمام لجنة الجمارك التي تقُيّم المنتجات السّنويّة، وتُباع الورود بالقنطار، وتُصدّر إلى جميع أرجاء الهند والعالم.

وتوضع هذه الزّهور والأوراق والورود في أحواضٍ كبيرةٍ وتُغمر بالمياه، وتبدأ عمليّة الغلي والتّقطير، وتُجمع في أوانٍ خاصّةٍ لنقلها إلى المحلّات التّجاريّة لتعبئتها في زجاجاتٍ صغيرةٍ، أو تصديرها إلى الخارج ببراميل.

وقمنا بزيارة معمل  مونا لال وأولاده ( Munna Lal & Sons) الذي يعود تاريخه لعام 1879، ويمتلكون قرابة 30 مصنعاً، وكانت  طرق الإنتاج بدائيّةً ولم  تدخلها التّقنيات الحديثة، ويبرّر أصحابها ذلك بأنّ النتائج أفضل باستخدام الطّرق البدائيّة للحصول على نسبةٍ عاليةٍ من مستخلصات الورود والزّهور المركّزة.

وكان صاحب المصنع – برافول - قد ورث المهنة عن أبيه، وهو يمثّل الجيل السابع للعائلة التي بدأت هذه الصّنعة أواخر الحقبة المغوليّة؛ ومع قلّة العمالة لانخفاض الأجور وصعوبة العيش على الدّخل المحدود، وابتعاد جيل الشّباب عن العطور الطّبيعيّة، بدأت هذه الصّناعة بالتّلاشي، وكاد المعملُ أن يُغلقَ لو لم يبدأ برافول بإنتاج مركّباتٍ صناعيّةٍ إضافيّةٍ.

كانت شجرة العود هي الأكثر متعةً، ليس فقط لطيبها، ولكن لطرق غشّ هذه الصّناعة. وتُستخرج زيوت دهن العود من قشرة شجرة العود ذات اللّون الدّاكن، والتي تكوّنت بسبب إصابة  جذع الشّجرة بأنواعٍ من الفطريّات، ويتمّ غشّها بصبغ الخشب وخلطه بنوعيّةٍ معيّنةٍ من الدّهون، وهناك طرقٌ عديدةٌ للكشف عن الغشّ، ويفضّل العاملون في هذا المجال حاسّة الشّمّ وحرق العود بالفحم، أو وضع قطعة الخشب في كأسٍ من الماء، فتغوص للأسفل إذا كان النّوع جيّداً، بينما تطفو إذا كانت مغشوشةً.

كنت أشتري العطور خلال تردّدي على الأسواق الحرّة في مطارات العالم، ولكن لا شيء يعوّض العطر الطّبيعيّ وعبق الزّهور،  وبما أنّنا في موسم قطاف الورد، أعود بذاكرتي لأيّام الدّراسة عندما كنّا نخفي في كتبنا الورد الدمشقيّ (الجوريّ) والفلّ والحبق والنّرجس وغيرها ونتبادلها مع من نحبّ. وأودّ أخيراً أن أستذكر معكم  ابن دمشق شاعرنا الكبير، شاعر الياسمين الرّاحل  نزار قبّاني - رحمه الله -  في هذه المقتطفات الشّعريّة:

أنا عصفوركم الأخضر.. يا أهل الشام
فمن وجدني منكم.. فليطعمني حبّة قمح ..
أنا وردتكم الدّمشقيّة .. يا أهل الشام
فمن وجدني منكم ، فليضعني في أول مزهريّه
أنا شاعركم المجنون .. يا أهل الشام
فمن رآني منكم .. فليلتقط لي صورةً تذكارية
قبل أن أشفى من جنوني الجميل ..
أنا قمركم المشرد .. يا أهل الشام
فمن رآني منكم .. فليتبرّع لي بفراشٍ .. وبطّانية صوف .. لأنني لم أنم منذ قرون ...
فيا أهل الشام..
من وجدني منكم.. فليردّني إلى (أم المعتز)
وثوابه عند الله...

وتبقى أرواحنا كالوردات الدّمشقيّة تتعطّش مياه الوطن وتتفتّحُ في ربوعه، وتبقى أغصان الزّيتون لغتنا في عشق السّلام والأرض. ولنتذكّر أبداً رسالة الإله بعل لكلّ سوريٍّ قبل 5000 عامٍ والتي اكتشفت على الرّقم في مدينة أوغاريت (رأس شمرا): "حطّم سيفك وتناول معولك واتبعني لنزرع السّلام والمحبّة في كبد الأرض... أنت سوريٌّ وسورية مركز الأرض"...

 

وللقصّة تتمّةٌ

                         الدّكتور وائل عوّاد

               الكاتب والصّحفيّ السّوريّ المقيم بالهند

مصدر الخبر
محطة أخبار سورية

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.