تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

الدكتور وائل عواد يتابع الكتابة من الهند من وحي الحجر الصحي عن كورونا ويوميّات قناص كركرونا  – ربّ أخٍ لكَ لم تلده أمّك :عيد الأخوّة - 60  -

مصدر الصورة
خاص

لعلّ من نافل القول أن ينطبق المثلُ علينا نحن من نعيش في الغربة في الهند لأنّ كل من تعرّفنا عليهم كانوا بمثابة الإخوة الذين ولدتهم الأيّام. ويتفاجأ الكثيرون أنّنا ما زلنا نتواصل معهم حتّى بعد مرور السنّين، ونتذكّر محاسن الكثيرين والمقالب والمساعدات والوقوف إلى جانب بعضنا البعض. ولم يكن أصدقاؤنا مجرّد عابري سبيلٍ بل جزءاً من حياتنا اليوميّة بغضّ النّظر عن باقي دول العالم التي هاجر إليها الكثيرون من الأصدقاء. والهند لها طعمٌ خاصٌّ، فكلّ من عاشرناهم تركوا أثراً طيّباً في نفوسنا ونحن جميعاً متّفقون على هذا. لقد وقفنا إلى جانب بعضنا البعض، وسافرنا مع الأصدقاء إمّا إلى جامعةٍ لتحصيل القبول الجامعيّ في مدينةٍ بعيدةٍ عن العاصمة أو أثناء الوقوع في ورطةٍ لنسارع إلى مساعدته. وحتّى في قصص الغرام، هناك من خاطر بحياته وسافر مع العاشق إلى دول الجوار رغم المخاطر والمشقّة. نفرح لفرح الأصدقاء ونحزن لحزنهم، و يعترينا الخوف والهلع لو فقدنا الاتّصال بهم. يحبّوننا في الله ونتعلّم الكثير من بعضنا البعض. لقد أصبحوا جزءاً من حياتنا وتلك كانت مشيئة القدر. نتواصل مع بعضنا البعض ونتذكّر الأيّام الجميلة. ولا أتذكّر أنّنا استغبنا أحدهم على الرّغم من بعض العيوب فيه. بيد أنّ الأيّام الصّعبة في الغربة وتقاسم العيش المشترك والمصير الواحد فرضت جميعها ضرورة البقاء إلى جنب بعضنا البعض، فأصبحنا إخوةً أكثر من كوننا أصدقاء، وارتقينا بهذه العلاقة الحميمة وحكينا القصص لأطفالنا عن الصّديق الصّدوق والصّحبة الطيّبة.

يصادف اليوم، الثّالث من آب/ أغسطس 2020 عيد الأخوة بالهند (راكشا باندهان-Raksha Bandhan) وبهذه المناسبة أصدرت محكمة إندور في ولاية ماديا برادش شرطاً فريداً من نوعه لمنح كفالة لأحد المتّهمين بالاعتداء على امرأةٍ، إذ طلبت المحكمة من المتّهم أن يربط خيطاً على يد المرأة المشتكية بهذا اليوم و يتعهّد بحمايتها طيلة حياتها، وطلبت من المتّهم فيكرام باغري إعطاء المراة ما يعادل 150 دولاراً أمريكيّاً كعربون وفاءٍ حسب العادات المتّبعة بهذه المناسبة للأخت، وأن يطلب منها السّماح والمباركة.عيد الأخوة

راكشا باندهان -عقدة الحماية

لكلّ مناسبةٍ في الهند قصّةٌ في الميثولوجية الهنديّة، كما هي الحال في الرّوايات التي نتداولها والمناسبات التي نحتفل بها في جميع المجتمعات، وإحداها قصّة عيد الأخّوة في الهند راكشا باندهان أو راكشا بورنيما،  أي عقدة الحماية، والتي تقوم به الفتاة بربط خيطٍ على رسغ شخصٍ تعتبره أخاً لها، ويتعهّد بتقديم الحماية والمساعدة لها طيلة الحياة، وهي من المناسبات الجميلة في الهند والتي تعبّر عن المحبّة والإخاء والمودّة  والتواصل الاجتماعيّ بين الأحبّاء.

وهناك الكثير من القصص والرّوايات التّاريخيّة حول أصل هذه الاحتفالات، وهناك من يقول إنّها  تعود إلى قصّة ماهابهاراتا في الميثولوجية الهنديّة عندما جرح اللّورد (الإله) كريشنا  إصبعه وهو يقطّع قصب السّكّر في الحقل وطلبت المساعدة  الملكة روكميني  لإسعافه، وهنا سارعت دروباتي إلى قطع جزءٍ من قماش السّاري الذي كانت ترتديه، وربطت إصبع كريشنا، فتوقّف النّزيف. وتعهّد كريشنا بحمايتها وأن يكون بقربها  في السّرّاء والضرّاء، وقال الكلمة المشهورة اكشيام ((akshyam التي تعني الأبديّة /اللّا نهاية.

ومن الرّوايات الأخرى قصّة الأرملة ملكة تيشور - راني كارناواتي - و الإمبراطور المغولي - همايون عندما تعرّضت مملكتها للهجوم من قبل الإمبراطور المغولي بهادور شاه سلطان غوجرات، وعندما علمت أنّها غير قادرة على الدّفاع و حماية مملكتها من السّقوط بيد قوّات الإمبراطور - بهادور شاه، بادرت بإرسال عقدة الأخوّة إلى الإمبراطور همايون الذي تأثّر بشكلٍ كبيرٍ بهذه المبادرة الطّيّبة وسارع إلى إرسال قوّاته لحماية المملكة من الهجوم، ولكن للأسف وصلت القوّات متأخّرةً، وكانت المملكة قد سقطت وانتحرت الملكة ومعظم النّساء داخل القلعة. قاتلت قوّاته القوّات الغازية للامبراطور بهادور  شاه  وتمّ طردهم من القلعة، وقام بتسليم المملكة إلى  فيركا ماجيت سينع، ابن الملكة كارناواتي، ومنذ ذلك الحين يتمّ الاحتفال بهذه المناسبة التي تعزّز التكاتف والعلاقة المتينة  بين الأخوّة. وهناك رواياتٌ أخرى تتحدّث عنها الأساطير الهنديّة كالعلاقة الأخويّة بين ياما - إله الموت – ويامونا - إلهة الحياة - وهو النّهر المقدّس الذي يجري في الهند، عندما قامت يامونا بربط العقدة الأخويّة على رسغ يد إله الموت ياما الذي شعر بالعطف الشّديد عليها، وأعلن أنّ كلّ فتاةٍ تربط العقدة على رسغ أخٍ لها ستكون هذه الروابط خالدةً.  وهناك الكثير والكثير من الرّوايات في الميثولوجيا الهندية التي كرّستها أفلام بوليوود أيضاً مثل زواج فارفاتي من شيفا بمساعدة الإله فيشنو، وقصّة الإله كاسنا - عمّ الإله فيشنو، وغيرها. و بهذه المناسبة تلبس الإناث الثّياب الجميلة والمزركشة، ويقمن بأداء الصّلاة والدّعاء بمستقبلٍ زاهرٍ وعامرٍ لإخوانهم، ويتوجّهن إلى منازل إخوانهنّ مصطحباتٍ معهنّ الحلويات الشّعبيّة، وتقوم الأخت بربط الخيط على معصم أخيها الذي يقوم بدوره بتقديم الهدايا لأخته والتي تقتصر هذه الأيّام  على المجوهرات التي تحبّها الفتيات أوالنّقود للتّعبير عن حبّهم وعهدهم لهنّ من جديدٍ.عيد الأخوة1

بيد أنّ الحجر المنزليّ وانقطاع سبل التنقّل بين الولايات بسبب جائحة فيروس كورونا يجعل من الصّعب هذا العام إحياء هذه المناسبة الميمونة بطرقها  التّقليديّة ما بين السّاعة 9:17 - 9:28 في الصّباح، و يقتصر ربط العقدة  والتّراتيل على العالم الافتراضيّ عبر وسائل التّواصل الاجتماعيّ في الشّبكة العنكبوتيّة  ريثما تفرج الأمور.

ما أردته في هذه المناسبة هو التّركيز على الأواصر الأسريّة  التي تفاقمت بسبب الحرب الجائرة على وطننا، والتي تسبّبت بمقتل وفرار وتشريد الآلاف من العائلات السّوريّة في شتّى أرجاء المعمورة، ومنهم من قضى نحبه، ومنهم من وجد من يسانده ويقف إلى جنبه، ومن النّساء من لم تجد مأوىً لها واستغلّت وتعرّضت للاعتداء والابتزاز .

 هناك الكثير من المآسي والآلام عن قصص المُهجّرين واللّاجئين على كلّ لسانٍ، وفي معظم وسائل الاعلام التي تحاول عرض المآسي وتغض الطّرفَ عن المسبّبين الحقيقيّين لهذه الكارثة التي حلّت بنا. ولم يقتصر حجم الكارثة على المُهجّرين، بل طالت الأهالي والأسر داخل الوطن الجريح والنّازحين المُبعَدين من ديارهم. وممّا زاد الطّين بلّةً غلاء المعيشة وضيق الحال، وتوّجتها جائحة فيروس كورونا لتزيد من الهمّ والأعباء على الشّعب السّوريّ الذي أنهكته الحرب والدّمار والخراب.

كنت أقول  منذ بداية الحرب إنّه لابدّ من إنهاء الأزمة بأقرب فرصةٍ ممكنةٍ لأنّها بدأت تلقي بأوزارها على النّسج الاجتماعيّة وتدمّر الأسر والرّوابط الاجتماعيّة وتدمّر مجتمعنا ممّن نجا من الحرب اللّعينة وصمّم على البقاء والمقاومة والاستمرار والموت في الوطن وليس في المنفى. هناك وزر الرحيل والتشرد ووزر الألم  النّفسيّ للتّجربة المريرة، وفوق كلّ ذلك وزر فقدان الأحبّة والإخوة والأخوات.

لقد كثرت حالات المعاناة النفسيّة وحالات الاكتئاب  من جراء الحرب، وفقد مجتمعنا الكثير من القيم والرّوابط الاجتماعيّة التي اعتدنا عليها. كثر المتسوّلون والمتسكّعون في الطّرقات، وارتفعت نسبة الجريمة والقتل المتعمّد والسّرقات وحالات الطّلاق والقتل والثّأر، وقام البعض ببيع أعضاء من أجسادهم مقابل المال، ولجأ كبار السّنّ إلى العمل لكسب لقمة العيش وإعالة أسرهم في ظلّ الظّروف الاقتصاديّة المتردّية بما يكفل لهم كرامتهم ، ممّا زاد من العقد النّفسيّة والشّعور بالقهر وانعدام الأمن والأمان .

تكاد المآسي لاتنتهي يا وطني؛ وما كنت أرغب بهذه المناسبة أن أزيد من هموم النّاس والقرّاء، ولكن لا يمكننا أن نتجرّد عن الواقع. ولعلّي أزيد من التّمنّي والأمنيات بأن أعلّق على أفواه البنادق عقدة الأخوّة، وأربط فوّهة المدافع وأعلن نهاية الحرب والدّمار والقتل المتعمّد والقهر والذلّ... أركض بين البيوت المهدمة وأربطها بخيوط عقدة الأخوّة، وأضع زهرةً بيد كل أنثى أصادفها وأشدّ أزرها بالأمن والأمان، وأن لا خوف عليها بعد الآن... أسقي بذور المودّة والمحبّة والإخاء خلف البيوت المدمّرة وفي الحدائق العطشى... أحمل كتباً مدرسيّةً وأعلّم المشرّدين في المعتقلات ومخيّمات اللّاجئين... أشدّ على أيدي الشّباب والفتيات بأنّ الوطن للجميع فلا تيأسوا واصمدوا كالسّنديانة، وانشروا بذور الحُبّ والانتماء.

وهذا يذكّرني ما قاله ابن الرّوميّ :

أَملي فيه ليأسي قاهرُ  *           فلذا قلبي عليه صابرُ

وهو المحسِن والمجمِل بي   *   وأنا الراجي له والشاكرُ

طرفُه يُخبرني عن قلبه  *        أنّني يوماً عليه قادرُ

 

لستُ الوحيد الذي يحلم بذلك، فهناك الكثيرون أمثالي يأملون ويعملون في هذا الاتّجاه، ونحتاج إلى جيلٍ كاملٍ لإعادة تأهيل الأسر المنكوبة والمتضرّرة والمعاقين والمعذّبين جسديّاً.

ولا مانع من أن نبدأ المشوار ونزرع ابتسامة الأمل على وجوهنا، فهل من وجوهٍ ضاحكةٍ يافعةٍ قادرةٍ على القيادة  تشارك الجميع في بناء الوطن والإنسان من جديدٍ؟ لنبحث عن المدمنين بحبّ الوطن والتّآخي والمسامحة والّذين يفضّلون الإيجابيّات على السّلبيات، ولنبدأ مشوار التّغيير بركائز متينةٍ على هذه الأرض المقدّسة، أرض الأنبياء والحضارات ...

لنفتح شبابيك الأمل، ونطرد اليأس والقنوط والإحباط إلى غير رجعةٍ، ونزرع الثّقة من جديدٍ بأنّ القادم أفضل... وأختتم ببعض الأبيات ممّا قالته الأديبة غادة السّمّان في قصيدتها الرّائعة "أنشودة الفرح":

سأغسل وجهي هذا الصباح عشرات المرات

سأبتسم ابتسامةً مشرقةً

كالفجر الذي عرفتك فيه

سأتلو آيات التّفاؤل

وأردّد أغنيات الفرح

التي حفظتها عنك

سأخلع عنّي سواد الأيّام وحزن الماضي

وأرقص على أنغام كلماتك

العازفة بأوتار قلبي

ثم أرتشف قهوتي

دون أن أضع فيها مزيداً من السكّر

فعذوبة الأمس تمنحني أيّما عذوبة

وفي زحام الطّريق

سأبحث عنك في كلّ الوجوه

وكلما افتقدتك

سأخرج صورتك من حنايا الفؤاد

وأنظر إليها بشوقٍ كبير

ثم أدسّها ثانيةً بين الضّلوع

...

وللقصّة تتمّةٌ

                                   الدّكتور وائل عوّاد

                    الكاتب والصحفي السوري الأصل المقيم في الهند

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.