تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

الدكتور وائل عواد يتابع الكتابة من الهند من وحي الحجر الصحي عن كورونا ويوميّات قناص كركرونا– لِمَاذَا بَكَى أَبِي ؟ - 65 -

مصدر الصورة
خاص

حاولت النوم باكراً ليلة أمس لإعادة الساعة البيولوجية إلى مسارها الطبيعي بعد مشاركتي  قبل يومين ،في  حوار تلفزيوني في الساعات المبكرة من الصباح  حسب التوقيت المحلي للهند ولم أنم جيداً، لأن الحوارات الطويلة تحتاج إلى تركيز وتحضير الحجج والبراهين والرد على المشاركين في الحوار والأسئلة المتنوعة ويصعب بعدها العودة للفراش . صحوت باكراً على صراع بين القطط بالقرب من شباك غرفة النوم مع خيوط أشعة الشمس الذهبية التي بدأت تتسلل إلى غرفتي وقررت النهوض من السرير والتوجه إلى غرفة المكتب لمتابعة الأحداث اليومية  بعد تناول كأس من المتة وفنجان القهوة الصباحي ، كي توقظ شعوري الدافئ وتغسل عن عيوني تعب السهر وتبعث النشاط والحيوية من جديد.

تعودت شرب كأس المتة في الهند في الصباح فقط وسماع صوت فيروز التي تعودنا على سماعها من إذاعة دمشق في برنامج "مرحباً يا صباح "، وبعدها نستمع إلى إذاعة لندن لسماع الأخبار وهذه العادة ورثتها عن أبي رحمه الله بعد عودته من صلاة الصبح وبقيت عليها إلى أن جئت للهند واختلفت المواعيد والأولويات لكن الشبكة العنكبوتية وفرت لنا فرصاً كثيرة لسماع الأغاني المفضلة ونشرات الأخبار في أوقات متفاوتة حسب فرق الوقت وأهمية الحدث .

لقد كانت الساعة الخامسة  صباحاً وجهزت إبريق المتة  وجلست إلى جهاز الحاسوب أطلع على الرسائل البريدية الالكترونية وصوت فيروز الهادئ يملأ الأجواء من حولي وأبدأ بإرسال الرسائل الصباحية للأصدقاء والأحبة  واتجنب فتح الفيديوهات التي تهز البدن بسبب تردي الأوضاع المعيشية في وطني والمعاناة اليومية للمواطنين بسبب الخناق الاقتصادي المفروض على سورية والحرب المدمرة التي يشتد سعيرها  في شمال سورية .

 كنت أستمتع كثيراً عندما تجري الإذاعة البريطانية وإذاعة دمشق وبقية المحطات  لقاءاً معي، حول حدث هام في الهند ودول الجوار ، و أعلم أن  والدي  يستمع لرسالتي في الصباح أو يذهب إلى بقالية جارنا  ويجلس مع أصدقائه  ويقولون له لقد استمعنا لحديث ابنك على إذاعة دمشق أو لندن أو التلفزيون السوري.

لم تكن الاتصالات سهلة من الهند في بداية الأمر ومكلفة وكنت أتصل مع الأهل مرة في الأسبوع ونرسل لهم الرسائل البريدية الأكثر تفصيلاً عن أوضاعنا ومعاناتنا وحياتنا اليومية .بيد أن عملي الصحفي وفرّ لي فرصة لطمأنة الأهل أني بخير والفرحة لأن والدّي يستمعان لرسالتي الصوتية والتقرير الذي أعددته أو إلى الحوار مع الاذاعة .

أحاول أن أخلق جواً وطاقة إيجابية ،تنعشني من جديد ولكن الأخبار ليست سارة كالعادة وأنا استمع لراديو  بي بي سي عن الحروب الطاحنة  الدائرة التي تحصد الابرياء في أكثر من منطقة ودولة عربية ومع ذلك دخلت على تسجيل مسبق لبرنامج قديم  وملأت الدموع عيني  بعد أن استمعت لمقابلة اجرتها معي هيئة الإذاعة البريطانية في برنامج بي بي سي اكسترا وتذكرت والدي،رحمه الله ، كيف كان ينتظر سماع صوتي في حوار مع الإذاعة ، وتصورت نفسي مكانه وأنا أسمع اللقاء وانتابني شعور غريب وتراءى لي والدي وهو متكئ على الأريكة يسحب نفساً من سيجارته الملفوفة بورق الشام الوطني، و كان يشتري الدخان  من مدينة حماه و كان قوياً جداً ويحتسي فنجان القهوة المرّة ويصرخ بأعلى صوته كي تأتي والدتي من المطبخ وتسمع معه حديثي فقد بقي طويلاً يستمع للإذاعة وكان على علم بأن حدثاً هاماً وقع في جنوب آسيا ومحظوظ لسماع صوتي قبل مغادرته المنزل ولم يخب ظنه .

لقد أعطاني أبي وقتاً إضافياً كي يستمع لي ويدعو الله أن يحميني هو ووالدتي أطال الله بعمرها وينتهي اللقاء بالحديث بينهما أني طالع لأبي و آل عواد  وأمي تقول له لبيت الضحاك وقد يودعها على باب الدار،قبل الشجار، وكل طرف متمسك برأيه .

كبر أبي فجأة بسبب المرض وكان يرفض ذلك وهو القوي المفتول العضلات في شبابه وحاول مقاومة المرض والتكابر عليه وممارسة حياته اليومية لكنه ضعف في أيامه الاخيرة جسدياً بينما حافظ على رباطة جأشه وذهنه كان متفتحاً وذاكرته قوية . بدأت أشعر به يكبر بسرعة وأخاف عليه وأخاف أن أفقده. كنت أتصل به يومياً لسماع صوته وأحياناً اتصال فيديو إذا كانت شبكة الاتصالات جيدة ، وأطلب منه موالاً كنا نستمع إليه  على صوت الربابة بصوت ملك الربابة صادق حديد وابنه  رحمهما الله في المنزول في ضيعتنا تلتوت.كان صوته خشناً لكنه مازال يتمتع بروح المرح ويحفظ المواويل وهي طريقة اطمأن بها أنه لم يصب بمرض الشيخوخة الألزهايمر أو الباركينسون .

أسندت ظهري بقوة على الكرسي وأغمضت عيناي لأرى والدي جيداً وهو يذرف الدمع وكان نادراً ما  يبكي أمامنا عندما يكون هناك مأساة و في مواقف معينة . أتذكر الدموع في عينيه عندما رحل جدي عن الدنيا وكان فوق شقتنا بالطابق  العلوي من البناية التي بناها لأولاده .

وعندما أصبح أبي طريح الفراش كان أكثر حزناً وتألماً لما يحدث حولنا من حرب جهنمية دمرت البلاد وشردت الملايين وقتلت الآلاف وبكى أبي خلال مكالمة هاتفية معه ذات مرة وهو يطلب مني عدم الحضور إلى زيارته في مدينتي السلمية في آخر زيارة لي إلى سورية في بداية الحرب عام 2011 . وقال لي يا بني  هذا الدمار لتخريب البلد ،لقد بنينا لكم هذا الوطن ولكن الحرب بدأت تدمر ما بنيناه وماذا ستتركون لأطفالكم  كي يعيشوا بكرامة ورفاهية وحرية  ؟

لم يسمح لي الوالد ، بالحضور من دمشق إلى السلمية وطلب مني العودة للهند وحلفني يميناً ألا أعود إلى سورية قبل أن تنهي الحرب ، وألا أعود لو اضطر أخوتي لنقله إلى المقبرة ،وبنفس اليوم استشهدت طالبة جامعية سورية كانت في الباص من دمشق إلى السلمية عندما استهدف قنّاص باص النقل وأصابتها رصاصة الغدر .

بقيت لعدة ايام في دمشق وعدت أدراجي إلى الهند حزيناً لعدم قدرتي على لقاء والدي الذي وافته المنية ولم أقدر على المجيء إلى سورية .

عدت إلى سماع صوت فيروز وكانت أغنية هالسيارة مش عم تمشي، بدها حدا يدفشها دفشة وساقني شريط الذكريات إلى المسرحية وكم استمتعنا بمشاهدتها و أطربتنا بأغانيها .

  لكن الصور القديمة للأغنية تغيرت ووضعت صوراً لطوابير السيارات التي تنتظر على الكازيات بسبب أزمة الوقود الحادة التي تعاني منها سورية ويعود الفضل بذلك إلى الولايات المتحدة التي تحاول تضييق الخناق و تجويع الشعب السوري وسرقة خيراته  على مرأى من العالم دون رادع .لا أتذكر على مدى السنين التي قضيتها في سورية أننا كنا نقف على طابور للخبز أو الوقود وحتى على أسطوانات الغاز وأتذكر جارنا الذي كان يجلب شاحنات الأسطوانات وتفرغ أمام محله  ونقوم بنقلها للبيت دون الحاجة للانتظار طويلاً .

ترى ما الذي تغير ؟ هل حقاً هذا ما كنا نتطلع إليه؟ كانت الدراسة ومازالت مجانية وكذلك المعالجة الطبية  ودفاتر التموين للمواد الضرورية لكل عائلة واستمرت الحالة لأكثر من خمسين عاماً على الرغم من المصاعب الاقتصادية التي واجهتها سورية بسبب الحصار الاقتصادي من الدول العربية والغربية  بين الحين والآخر .

أطرح التساؤلات هنا ولا أريد أن أشعر بالإحباط ولكن أردت أن أكون اكثر واقعية وعقلانية في قراءة ما يجري في سورية .لماذا بكى أبي ولماذا ينتابني شعور بالعذاب، ألا تكفيني وحشة الغربة وفراق الأهل ؟لماذا نتحول إلى أشباح تحترق من الداخل ؟هل جفت مآقينا  ولم نعد نقدر على البكاء ولم تعد دموعنا قادرة على شفاء الجراح، على الرغم من الغصة المصحوبة بالألم ، التي تقطع أحشاءنا لما آلت إليه الامور ؟

كم أنا بحاجة إلى حنان أبي وكلماته التي تتردد في ذهني وأشعر بالدفء والأمان من جديد وبدأ رأسي يميل على جانب كرسي المكتب  وكتفي يستند على كتف أبي ،وكأني في أحضان والدي وهو يضمني برفق ويقبلني وأخمد الصراخ في أعماقي بعد أن مزق حنجرتي على مدى السنين الفائتة ونحن ندافع عن الوطن بكل ما أوتينا من قوة .وأردد نعم مازال عالمنا صالح للعيش ونحن نولد من قلب الازمة .

سامحك الله يا أبي مازال طيفك يحوم حولي وكلماتك مازالت تنبض في ذاكرتي، كان وجع رحيلك قوياً وأحن إليك ، فلم أتعود على التشاؤم ولا مجال للاستسلام .أنتظر الحدث الذي سينبت من التراب ،من تحت الرماد، هذا المخلوق الجديد الذي سيولد من قلب المعاناة، سوف يكون أكثر وعياً ويوقظ فينا شعوراً مبهجاً منشطاً  نتجاوز به المخاطر ويبعث فينا سّر الحياة  من جديد ويعيدنا إلى مسارنا الطبيعي .إني ارى نوراً يضيء بقعة سر الوجود ويبدد الظلام ويسود النور...

ونحن في انتظار رحمة الله وليس غودو

هكذا تستمر و تنتصر الحياة على الموت ، اللهم أرسل برداً وسلاماً على قبور آبائنا وامنحهم الرحمة والأمان إلى يوم يبعثون ...

وللقصة تتمة ،

                                       الدكتور وائل عواد

                             الكاتب والصحفي السوري المقيم بالهند

مصدر الخبر
محطة أخبار سورية

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.