تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

عالم ما بعد أميركا

مصدر الصورة
وكالات

"اسمحوا لي بأن أكون واضحاً: مشاهد الفوضى في الكابيتول لا تعكس الصورة الحقيقية لأميركا... لا تمثّل ما نحن عليه"، هذا ما قاله الرئيس الأميركي المنتخَب، جو بايدن، في أعقاب غزوة الأربعاء. تكرَّرت بيانات إدانة الصورة على نحوٍ يجعل مَن يراقب الحدث متشكِّكاً إزاء مكان وقوعه: "السلوك الذي شهدناه في مبنى الكابيتول الأميركي، غير أميركي"؛ "نحن الولايات المتحدة الأميركية نختلف حول الكثير من الأمور، ولدينا الكثير من الجدل الحماسي... لكنّنا نتحدّث، ويكرّم بعضنا بعضاً - حتى في خلافاتنا. وبينما نختلف على بعض الأمور - ونختلف بشدّة في أحيان كثيرة - فإنّنا لا نشجّع ما حدث اليوم، بالمرّة"؛ "هذا ليس ما نحن عليه"، وهي "ليست أميركا" التي تعرفها غالبية الليبراليين والمحافظين.

لطالما مثّل الإنكار جزءاً مِن الهوية الأميركية، أو نبض الولايات المتحدة، كما ترسمها مجلة "أتلانتيك". إنكارٌ يوازيه، من حيث العمق، واقع الديموقراطية المأزومة، التي انبرى الكُتّاب، على مدى الأيام القليلة الماضية، لرثائها، بعدما قرَّر أنصار رئيسٍ "لا يراعي القِيَم" الأميركية اقتحام مبنى الكونغرس في السادس من الشهر الحالي. هذا التاريخ الذي صُنع في أميركا 100%، يراد تحويله إلى ذكرى مؤسِّسة، يتحمَّل تبعاتها حصراً دونالد ترامب الذي علّم مناصريه، لأشهر طويلة، ما يعنيه أن يَحلّ في مقعد الخاسر، وأيّ فوضى ستنجم عن إزاحته. سلكت الفوضى طريقها حتى قبل موقعة "الكابيتول"، وقبل تفجير ناشفيل الذي تجاهلته عمداً وسائل الإعلام الأميركية، لكن الأزمة التي تطرق باب البيت الأميركي أعمق بكثير من بعض الحوادث المتنقّلة، وهي انفجرت على شكل اقتحام "الصرح الديموقراطي الأعرق"، أو "المذبحة الأميركية"، كما وصفتها مجلة "فورين أفيرز" في مقالة للكاتبين جيمس غولدغير وبروس جينتلسون، بعنوان "الولايات المتحدة بحاجة إلى قِمَّة ديموقراطية داخلية". يأمل الكاتبان أن يعلن جو بايدن "عودة أميركا" التي يعرفانها، على رغم إدراكهما أن الرئيس المقبل "سيواجه عالماً لديه تحفّظات هائلة بشأن إذا ما كان ينبغي على الدولة التي تولّت زمام القيادة العالمية منذ الحرب العالمية الثانية، الاستمرار في القيام بهذا الدور. وفي حين أن حلفاء الولايات المتحدة في حلف شمال الأطلسي وفي آسيا سيشعرون بالارتياح إزاء العودة الأميركية، فإن القيادة العالمية ليست استحقاقاً أميركياً. أمّا المشاكل التي ستخلقها خطّة بايدن لاستضافة قمة عالمية للديموقراطيات، فستكون أكثر بكثير من الفوائد". يبدو بايدن أبعد ما يكون عن الواقعيّة؛ حديثه عن "الأخلاق والاحترام والتسامح ــ هذا ما نحن عليه، هذا ما كنّا عليه دائماً"، وكأنّ أنصار ترامب الذين اقتحموا "الكابيتول" جيء بهم من عالم آخر ــ لا يراعي حساسية المرحلة الراهنة.


إزاء ذلك، يدعو الكاتبان، الإدارة الأميركية المقبلة، إلى إلغاء فكرة عقد قِمَّة دوليّة للديموقراطيات، واستضافة "قِمَّة محلّية تعيد التزام القيادة السياسية للأمة بمؤسّسات النظام، وتبذل بعض الجهد للتغلّب على الظلم وعدم المساواة. يمكن لمثل هذا المسعى أن يجمع قادة الكونغرس من الحزبَين ورؤساء البلديات للتعهّد بتجديد الديموقراطية الأميركية". طرحٌ يتبنّاه أيضاً رئيس "مجلس العلاقات الخارجية"، ريتشارد هاس، الذي يرى أنه "سيكون من الحكمة أن تقوم إدارة بايدن بتعليق خططها المعلَنة لعقد اجتماع للديموقراطيات، إلى أن يصبح منزل الولايات المتحدة في وضع أفضل". تداعيات "الغزوة" ستشغل مفاصل القرار السياسي لوقتٍ طويل، ليس في البعد المحلي فحسب، بل على المستويات الخارجية أيضاً. أشار هاس إلى تلك المسألة حين سخر من المستقبل الأميركي، بالقول إن "الانتقال السلمي للسلطة، والاستثنائية الأميركية، وإيماننا بأننا نموذج مدينة مضيئة قائمة على تلّة، كثير علينا"، متحدّثاً عن سقوط النموذج الذي شغل العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
لكن الضرر الذي أحدثه اقتحام "الكابيتول" على السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وكذلك على الديموقراطية، كبير جداً، بحسب ما يرى هاس، الذي يعتبر أيضاً أن "ما حدث الأسبوع الماضي كان فشلاً أميركياً واضحاً، لكن عواقبه تذهب إلى أبعد من الشواطئ الأميركية. إن عالم ما بعد أميركا لن يكون محدّداً بأولوية الولايات المتحدة. عالمٌ بدأت ملامحه تظهر في وقتٍ أقرب ممّا كان متوقعاً - ليس بسبب الصعود الحتمي للآخرين، ولكن أكثر بسبب ما فعلته الولايات المتحدة لنفسها". في مقالته المنشورة على موقع "فورين أفيرز"، أمس، يلفت هاس إلى أن كلّ ما فعلته إدارة ترامب في السياسة الخارجية سيؤدّي إلى تراجع ملحوظ في نفوذ الولايات المتحدة لمصلحة الصين وإيران وروسيا. نتيجةً لذلك، لن يكون لدى حلفاء واشنطن خيار سوى "التشكيك في قرارهم تكليفها بأمنهم. كانت هناك شكوك بالفعل على هذه الجبهة، نتيجة لبعض الإجراءات خلال إدارة أوباما وحتى أكثر من ذلك في عهد ترامب (مهاجمة الحلفاء، والتمسك بالديكتاتوريين...). وتعني هذه الشكوك ميلاً أكبر من جانب الدول الأخرى إلى تجاهل طلبات الولايات المتحدة، وأخذ الأمور بأيديها... والعلامات على ذلك واضحة بالفعل في الشرق الأوسط وأوروبا وآسيا: الحرب السعودية في اليمن، وتدخل تركيا في سوريا، ودعم آذربيجان في ناغورنو قره باغ، ومعاهدة الاتحاد الأوروبي الاستثمارية مع الصين، والكتلة التجارية الإقليمية للشراكة الاقتصادية الشاملة في آسيا. وستكون النتيجة عالماً أكثر عنفاً وأقلّ انفتاحاً على الصعيدَين السياسي والاقتصادي، حيث تحتفظ الولايات المتحدة بنفوذ، لكنها لن تكون مهيمنة".

مصدر الخبر
الأخبار

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.