تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

أمريكا وأوروبا وأزمة أوكرانيا

مصدر الصورة
عن الانترنيت

عبد الاله بلقزيز

اعتادت الولايات المتحدة - منذ قرن تقريباً - أن تخوض حروبها بعيداً جداً عن أراضيها. ما من حرب خاضتها داخل حدودها (منذ حربها الأهلية في ستينات القرن التاسع عشر)، أو على حدودها. حاربت في كل مكان بالعالم: في ألمانيا وأوروبا، في كوريا، في فيتنام، في العراق، والصومال، وصربيا، وأفغانستان، وشاركت غيرها (حلف شمال الأطلسي، بريطانيا...) حروباً، وأوكلت عنها قوى محلية في حروب (آخرها الجماعات الإسلامية المسلحة في مغازي «الربيع العربي»)، وهندست مخابراتها حروباً ومولتها وسلحت قواها، ولكن من بعيد. ومع أن سقوط أي جندي أمريكي، قتيلاً أو أسيراً، كان باهظ الكلفة عليها، دائماً، إلا أن ذلك أهون عليها خارج الحدود مما لو كان في الداخل الجغرافي الأمريكي.

يمكن فهم هذه «النازلة» في ضوء المفهوم الإمبراطوري الكوني للأمن القومي الأمريكي، حيث الأخير يمتد ليشمل قارات الأرض الخمس (وهذا ما يفسر انتشار ما يقارب ألف قاعدة عسكرية أمريكية في عشرات البلدان بالعالم). ولكن، يمكن تعليلها - أيضاً - بحساسية العقيدة العسكرية الأمريكية تجاه أي مواجهات على حدودها، فالأمريكيون يدركون - أكثر من غيرهم - أن انتصاراً في حرب تقع في الداخل هو هزيمة، في المقام الأول، لمجرد أنه نشبت حرب في الداخل، أو عجزت الدولة والجيش عن منع نشوبها فيها. وهذه هي خلفية مفهوم الحرب الدفاعية في العقيدة الأمريكية، إذ ليست حروب الدفاع هي التي تخوضها الدولة على حدودها المهددة من الخارج، بل هي كل حرب تخوضها ولو على بعد آلاف الأميال. لذلك كانت حروب أمريكا، دائماً، حروباً ل «للدفاع عن النفس»!

هذه خلفية ضرورية لفهم الانخراط الأمريكي الراهن في الحرب الغربية، غير المباشرة، الدائرة ضد روسيا، الحرب التي تستعير اللحم الأوكراني والجغرافيا الأوكرانية تحت عنوان - وبدعوى - دعم أوكرانيا في مواجهة روسيا. ولكنها خلفية ضرورية، أيضاً، لفهم الأسباب التي تقود إلى استعارتها أوروبا - مجدداً - مسرحاً جغرافياً لهذه الموجة الأولى من المواجهات العسكرية، ولما قد يتلوها من موجات قادمة أشد وطأة إن خرج الضغط الغربي على روسيا عن حده، فألجأها إلى توسعة رقعة استهدافاتها في الجوار. ها هي الولايات المتحدة تخوض، كعادتها، حرباً خارج حدودها على نحو من «الدهاء» يوحي بأنها تقوم بواجب نصرة أوكرانيا وحلفائها الأوروبيين. وها هي أوكرانيا ودول أوروبا، يا للمفارقة، تستدرجان أمريكا - بكثير من الكلام المعسول - إلى مزيد من التوغل في العمق الأوروبي وفي أتون مشكلاته، من غير انتباه إلى أنها ترتضي أن تكون جغرافيتها مسرحاً لمواجهات موسعة.

 حتى الآن، تحرص الولايات المتحدة على أمرين: أن تظل أوكرانيا مسرح المواجهات العسكرية، فلا تتوسع الأخيرة إلى حيث تنتقل إلى شرق أوروبا المحاذي، ثم إلى غرب أوروبا، معقل الحلفاء الرئيسيين، وأن تظل مشاركتها في الحرب غير مباشرة، عن طريق الدعم العسكري لأوكرانيا، بحيث لا تنزلق إلى مواجهة مباشرة أمريكية - روسية (من خلال حلف الأطلسي). غير أن هذا الحرص يصطدم بحقيقتين: أولاهما أن المواجهات، اليوم، تُجرى في جزء من أوروبا (أوكرانيا) - وليس في مكان آخر من العالم - وتؤثر، كبير تأثير، في باقي الجوار الأوروبي، وثانيتهما أن واشنطن لا تملك أن تضمن عدم توسع رقعة الحرب وشمولها أوروبا كلها، لأن قرار توسيعها قرار روسي بالتعريف، حتى وإن كانت أفعال أمريكا ودول الأطلسي تساعد عليه أو تخفض من احتمال اللجوء إليه.

 في كل حال، أوروبا وحدها الخاسرة و «الاتحاد الأوروبي» على نحو خاص، لأن الحرب تدور على أرضها، سواء في فصلها الحالي (الروسي - الأوكراني - الغربي غير المباشر) أو في فصول أخرى قد تندلع إذا حصلت المواجهة العسكرية المباشرة بين روسيا والمنظومة الأطلسية. وعليه، ما من مصلحة لدى دول أوروبا الأعضاء في «حلف شمال الأطلسي» في الاندفاع وراء الأمريكيين في هذه الحرب، لأن الحرب لن تجري في أمريكا الشمالية، بل في أوروبا حصراً، ولن يدفع أثمانها إلا الأوروبيون، من أرواح جنودهم، ومن مقدرات بلدانهم، ومن استقرار أوطانهم وأمنها.

إذا كان من مصلحة حقيقية لدول أوروبا، فهي أن تحفظ أمن أوروبا من أخطار تأتيها من خارجها، وأمن أوروبا ليس مهدداً من روسيا - فروسيا جزء من أوروبا - بل إن حفظه مما لا يتأتى إلا بتفاهم بين دوله كافة، وفي جملتها روسيا، أو- إن شئنا الدقة - لا يكون إلا باتفاق بين روسيا ودول أوروبا.

مصدر الخبر
الخليج الإماراتية

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.