قسيم دحدل
لو تمعّنا في الزيادات المتكرّرة والمطردة في الأسعار، كما الحال عندنا، لوجدنا أن الغاية منها غير ربحية إلى حدّ كبير، بل هي محصلة لسياسات اقتصادية ومالية ونقدية، أدّت لزيادة تراكمية وتصاعدية في التكاليف والضرائب وغيرهما، الأمر الذي دفع بالشركات العاملة في السوق إلى زيادة أسعار منتجاتها أيّاً كانت!
ولعلّ هذا ما يفسّره النظام النقدي الحديث، الذي لا يعتبر أن ارتفاع الأسعار ربحاً، لأن هذا الارتفاع يضعف العملة الوطنية، ويؤدي إلى اختلالات لا تعالجها أرصدة الشركات التي تشفط الأموال من الناس، ولاسيما تلك الشركات التي لا توظف عمالة بأجور عالية أو تستوعب جزءاً من البطالة الوطنية.
هذا ما يراه خبراء اقتصاديون، كما يرون أن الاقتصاد الفردي الريعي يضعف قيمة العملة، أي أن هذا النوع من الاقتصاد يحقّق الربح دون أن يكون هناك إنتاج، ومثال على هذا عمليات المضاربة بالأراضي التي تعدّ عنصراً من عناصر الإنتاج للقطاع العقاري (لا الزراعي)، والتي يتعيّن أن تكون متاحة لكلّ من يريد السكن أو الاستثمار في القطاع التجاري.
إن النظام النقدي يعتمد على النظرية النقدية التي تركز بشكل كبير على دراسة العلاقة بين كمية الأموال في الأسواق وجيوب الناس والأسعار، لكن هذه النظرية لا تركز على كفاءة الإنفاق الحكومي والقطاع الخاص والمستهلكين وسلامة ميزان التجارة الخارجية، بل ترى أن كمية النقد هي التي تؤدي إلى الازدهار أو الانكماش وتعالج الاختلالات ضمنياً في الاتجاهين، أي النمو أو الركود، ولعلّ هذا ما ابتلينا به!.
وعليه فالمشكلة في الأزمات الاقتصادية الحالية، أن منشأها يرجع إلى الإفراط في حلّ المشكلات الاقتصادية بالنظرية النقدية، لهذا فحتى يعمل النظام النقدي بكفاءة ودون مشكلات، يرى أهل الخبرة أنه يتعيّن على الشركات إعادة جزء كبير من أموالها إلى الناس بصورة رواتب أو أرباح لاستثماراتها وفق حساب الناتج المحلي، وإذا لم تفعل ذلك فلا تستحق تلك الشركات أن تسحب الأموال من جيوب الناس أو من الحكومة، أية حكومة، لأنها بذلك تحدث خللاً في مضاربات الأصول (المضاربة هي شراء أصل من الأصول مثل الأسهم والسندات والسلع الأولية كالحديد أو المواد الغذائية مثل الحبوب والعقارات على أمل أن يصبح سعرها أعلى في موعد لاحق لبيعها لتحقيق ربح سريع)، وتجعل الأموال تدور في دائرة ضيّقة، وبعد فترة تصبح الشركات وحملة الأموال أقوى من المستهلكين ومن قوتهم الشرائية، فتخرج الشركات من البلاد أو من السوق، وهذا الأمر ينسحب على مضاربات الأفراد في الأراضي والعقارات، حيث صنّف بعض الاقتصاديين أن المضاربة في الأراضي واحتكارها شكل من أشكال الاستثمار الريعي، لأن شراءها والاحتفاظ بها وإعادة بيعها والربح منها دون قيمة مضافة، هي ريعية فردية ترفع التكلفة دون مبرّر اقتصادي.
ولفهم المشكلة الأساسية، يجب نسيان قضايا مثل تمويل السندات، والتركيز بشكل مباشر على كيفية تمويل الدولة للعجز عن طريق طباعة النقود، وهنا دعونا نفترض أن الإنفاق الحكومي والعائدات الضريبية ثابتة بالقيم الحقيقية (المُعدلة حسب التضخم)، فإن العجز الحقيقي الناتج بموجب ذلك، سيعادل الزيادة في الحجم الحقيقي للقاعدة النقدية التي يجب أن يكون القطاع الخاص على استعداد لاستيعابها في كلّ فترة، حيث بإمكان الدولة تشكيل القاعدة النقدية عبر إمكانية طباعتها للنقود أو إنشاء ودائع للبنوك التجارية في البنك المركزي.
بناء عليه نجد أن النظرية النقدية الحديثة، تتناول كيفية بحث الحكومات وبشدة عن أدوات لإنقاذ اقتصادياتها من الانهيار، لذا على صنّاع القرار -بحسب أهل الخبرة- ولتجنّب مواجهة الكارثة (التضخم والعجز الهائل) اتباع الفكرة الرئيسية للنظرية النقدية الحديثة، والتي يمكن تلخيصها: بأن “العجز ليس أمراً سيئاً، وما علينا سوى تعزيز الإنفاق العام أو خفض الضرائب، ثم تحويل عدم التوازن الناتج إلى نقود”.
والسؤال الذي طالما سألناه دون أن نلقى جواباً هو: أيّ من النظريات التي نشتغل في هديها كي نخرج من عنق الزجاجة الذي وصلنا إليه؟، وهل نمتلك ما يمكننا من تطبيق الفكرة الرئيسية للنظرية النقدية الحديثة؟