تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

دمشق تكرم أمير البزق محمد عبدالكريم

مصدر الصورة
العرب

تحفل الحياة بالمواهب الفنية لكن قلة منهم يصنعون فنا خالدا لا يقلد أو يشكل فتحا فنيا خلاقا. من هؤلاء محمد عبدالكريم موسيقي سوري لقّب بأمير البزق، كان نابغة في التأليف الموسيقي والعزف. عاش وحيدا منعزلا في دمشق ورحل دون أن تلقي عليه الشهرة أضواءها. في مشروع نوافذ ثقافية الذي تقيمه وزارة الثقافة السورية قدمت ندوة عنه بمشاركة عدد من المختصين الذين سلطوا الضوء على تجربته وفرادتها.

الموسيقار محمد عبدالكريم الذي غنت من ألحانه سعاد محمد وفايزة أحمد ونجاح سلام أغنيتها الشهيرة “رقة حسنك وسمارك” التي يعرفها أغلب محبي الطرب في العالم العربي، كان موهبة فنية لافتة رغم العديد من العوائق التي واجهته. ولد لأسرة غجرية في ريف حمص (1911 – 1989) تقتات الفن بعفوية. كان والده عازفا على آلة العود ومغنيا في بعض المرابع المنتشرة في المنطقة، وكانت والدته صاحبة صوت رخيم. وبسبب حادث في عموده الفقري توقف نموه الجسماني، فلم يتجاوز طوله المتر الواحد، لكن ذلك لم يمنع موهبته الموسيقية من التطور، بل ربما كان صغر جسمه سببا في تحدي الظروف وصناعة مجد موسيقي هائل جارى به كبار الموسيقيين العرب والعالميين.

ارتحل بفنه في إقليم الشام الكبرى فعمل في حمص وحلب وبيروت والقدس ثم في العراق ومصر وسجل أعمالا في أوروبا. تعامل مع أساطين الفن العربي في الشام ومصر ولبنان وفلسطين منهم كميل شامبير في حلب ومحمد القصبجي ومحمد عبدالوهاب وفريد الأطرش في مصر الذين قدروا حجم موهبته.

لم يكن إبداعه الموسيقي منحصرا في التلحين والعزف، بل إنه أدخل آلة البزق في عهد جديد. فهي قبله كانت آلة موسيقية بسيطة قاصرة عن تقديم القدرة على العزف الموسيقي الكامل وصارت بجهده آلة كاملة القدرة على تقديم كل المقامات الموسيقية الشرقية.

لآلة البزق التقليدية ذراع طويلة يشد عليها وتر وتحته سبعة عشر من الدساتين أو الحبسات، التي تتغير نغماتها كلما تغيرت حركة يد عازفها، لكنه بعبقريته الموسيقية زاد وترا ثانيا ورفع عدد الدساتين إلى ثمانية وثلاثين، مما أغنى الآلة ووضعها في مصاف كل الآلات الشرقية الأخرى من حيث قدرتها على تقديم أي معزوفة موسيقية في كل المقامات، كما اكتشف مقاما موسيقيا جديدا سماه “مريوما”.

 

الفنان السوري محمد عبدالكريم هو من أوائل الموسيقيين العرب الذين مزجوا بين الموسيقى الشرقية والغربية

الفنان السوري محمد عبدالكريم هو من أوائل الموسيقيين العرب الذين مزجوا بين الموسيقى الشرقية والغربية

 

بعد عزفه على آلة البزق التي طورها، ذهب بها إلى لبنان وعزف أمام محيي الدين بعيون وكان أهم عازف على آلة البزق حينها، وكانت نتيجة ذلك اللقاء أن اعتزل ذلك الموسيقي العزف وقال للجمهور “إنني أرى أن مستقبل العزف على هذه الآلة بين يدي هذا العازف الموهوب”.

عنه قال الموسيقار محمد عبدالوهاب “إذا كانت الموسيقى الغربية تفتخر بالعازف أغانيني كأشهر عازف للكمان، فإن الموسيقى الشرقية تفتخر بمحمد عبدالكريم كأشهر عازف للبزق”.

تحدث فنان الشعب السوري رفيق سبيعي ذات مرة عن أنه وضع مجموعة من كؤوس الشراب على طاولة وراح ينقر عليها بملاعق صغيرة وهو يزيد هنا وينقص هناك، ويغير شرابا هنا أو هناك. وكأنه يقوم بدوزان آلة موسيقية. بعد دقائق كان قد أوجد آلة موسيقية عفوية مؤلفة من مجموعة هذه الكؤوس راح يعزف عليها بملعقتين بيديه وسط دهشة الجميع.

وتصادف أن زار ملك العراق فيصل الثاني باريس، وكان فيها الفنان محمد عبدالكريم لإحياء بعض الحفلات وتسجيل أعمال خاصة به، فأقيم حفل موسيقي كبير دعي إليه كبار الموسيقيين ووجوه المجتمع العربي والفرنسي. عزف محمد عبدالكريم أمام الملك وضيوفه مجموعة من الألحان، فشدت موهبته الملك فيصل الثاني وجعلته يصيح في الناس “إنك أمير العزف على هذه الآلة”. فما كان من محمد عبدالكريم إلا أن قال له “أريد بذلك كتابا يا جلالة الملك”. وفعلا، أصدر الملك فيصل الثاني فرمانا رسميا بأن العازف محمد عبدالكريم هو أمير آلة البزق وهو اللقب الذي عرف به في حياته وبعد مماته.

في اطلاق موسمه السادس، نظم مشروع نوافذ ثقافية بالتعاون مع مديرية الثقافة بدمشق ومديرية المسارح والموسيقى ندوة تكريمية للفنان محمد عبدالكريم أمير البزق، بمشاركة الصحافيين سامر الشغري وعلي الراعي اللذين قدما بعضا من ملامح حياة الموسيقي الشهير وكذلك من أعماله.

قدم علي الراعي في مداخلته نبذة عن نشأة “أمير البزق” وتعلمه للعزف ثم ارتحاله إلى دمشق وغيرها من الحواضر، مبينا بعض الملامح الشخصية التي تميز بها ودور إعاقته الجسدية في خلق تميزه الموسيقي ودوره في إذاعة دمشق وأنهى المداخلة بالنهاية الصامتة التي عاشها والعزلة التي أحاطت به قبلها.

أما سامر الشغري المختص بالموسيقى والغناء السوريين فقدم استعراضا لما تميز به الموسيقار محمد عبدالكريم من قدرات خلاقة في العزف والتلحين وتوقف عند بعض النماذج من المعزوفات التي ألفها، وتوقف بشكل خاص عند تحفته “رقة حسنك وسمارك” التي قال إنها تمثل مناجاة روحية بين مؤلف موسيقي عاشق ومحبوبته المغنية، كما لفت إلى التميز الموسيقي الذي أوجده في الأغنية بتقديمه أربعة مقامات موسيقية في أغنية يطول زمنها على بضع دقائق.

كما شارك في الندوة عزفا على آلة البزق بحري التركماني الذي قدم مجموعة من المقطوعات الموسيقية التي قدمها أمير البزق.

Thumbnail

يقول إدريس مراد مدير مشروع نوافذ ثقافية عن الحدث والانطلاق في الموسم السادس “مشروع نوافذ ثقافية انطلق منذ ستة أعوام لكي يقدم التجارب المتميزة في الثقافة السورية، قدم خلالها العديد من الفعاليات المتعلقة بالفن والإبداع السوري. فقدمنا الشاعر الكبير نزيه أبوعفش والصحافي الأديب وليد معماري، كما قدمنا موسيقى سورية هامة وغائبة بشكل فعلي عن الوجود في المشهد الفني السوري إلا من خلال مشاركات بسيطة هنا أو هناك، لكن لا وجود لندوة كاملة تقدم بشكل ممنهج عن التراث السوري، والمقصود هنا التنوع الجميل في سوريا. كالتراث العربي والسرياني والأرمني والكردي والشركسي وغير ذلك، حتى موسيقى المنطقة الوسطى مثل حمص وحماة لا تقدم بشكل مدروس. عبر ست سنوات كانت نوافذ ثقافية حافلة بنشاطات تقدم موسيقى غنية وثرية واستطعنا من خلال ذلك تسليط الضوء على موسيقى هامة وغائبة”.

وعن حضور شخصية الفنان محمد عبدالكريم وسبب وجوده في افتتاح الموسم الجديد قال “شخصية محمد عبدالكريم حاضرة بقوة في المشهد الموسيقي السوري والعربي وهي جديرة بأن نحتفل بها بشكل أكثر من احتفال سنوي، فهناك أمور عنه لا تعرف من قبل الكثيرين. فهو أول من أدخل آلة البزق إلى ثقافة المنطقة والعالم وهو من أوائل الموسيقيين العرب الذين مزجوا بين الموسيقى الشرقية والغربية. سافر إلى أوروبا وتفاعل مع موسيقاها، وتحديدا في المنطقة الشرقية ومنها موسيقى الغجر. هو منعطف في تاريخ الموسيقى العربية، فهو أول من أدخل هذه الآلات الغربية إلى الموسيقى الشرقية الصرفة. والطنبور التي هي أم آلة البزق كانت تستخدم في الأعراس والمناسبات المحلية، خلق منها أشياء كبيرة، أولا وضع لها تآليف موسيقية شرقية وغربية وعرفها الجمهور العربي. آلة البزق غير معروفة قبل محمد عبدالكريم، هو من أخرجها من الخيم والصالونات إلى المسارح العامة والجمهور”.

يتابع عن الجديد في ما قدمته الندوة فيقول “في نوافذ ثقافية وجدنا أن نقدم خطوة جديدة في ندوة محمد عبدالكريم، فلم نكتف بتقديم معلومات وفيديوهات عنه، بل عمدنا إلى تقديم موسيقاه حية من خلال عازف بزق هو بحري تركماني الذي يعتبر العازف الوحيد في العالم المتمثل لهذه المدرسة بالكامل. محمد عبدالكريم قامة موسيقية كبرى، ولأن شريكنا في الموسم السادس هي مديرية المسارح والموسيقى فإننا سنقدم خلال الموسم عددا من المسرحيين والموسيقيين السوريين منهم محمد الماغوط وسعدالله ونوس وممدوح عدوان وغيرهم”.

مصدر الخبر
العرب

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.