تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

«بريكس» ما بعد التوسّع: «نادٍ مفتوح» أم منافس عتيد؟

مصدر الصورة
وكالات

منذ الإعلان الرسمي عن تأسيسه قبل عقد ونيّف، بدا تكتُّل «بريكس» متوافقاً مع «ترند» سياسي عالمي ينشد إقامة نظام دولي جديد، متعدّد الأقطاب، مع تبنّيه ما كثر الحديث عنه في شأن ضرورة إصلاح هياكل النظام القائم، ربطاً بمعايير تمثيليّة أكثر واقعية. وأمام تعذُّر تحسين مستوى الاستجابة الغربية عموماً، والأميركية خصوصاً، للدعوات المطالِبة بإعطاء صوت أكبر لـ«الجنوب العالمي» في المحافل الدولية، تحوّلت هذه الدعوات من نهج العمل الجماعي الرامي إلى تحسين التمثيل العادل للدول، والذي تجلّى ابتداءً في اكتفاء الدول المعنيّة في المجموعة (روسيا، الصين، الهند والبرازيل قبل انضمام جنوب أفريقيا عام 2010) بتنسيق مواقفها داخل المنظّمات الدولية (التجارة العالمية والبنك الدولي)، نحو نهج تعاوني «أكثر ثورية»، عبر السعي إلى خلْق منظّمات بديلة من تلك التي تعود إلى نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية.


«بريكس» بين الأمس واليوم
ضمن مسار تاريخي ممتدّ، جاء انعقاد أول اجتماع لبلدان المجموعة، على مستوى وزراء الخارجية، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2006، ليعقبه تنظيم أول قمّة رسمية لزعمائها عام 2009. وشهد عام 2015 انطلاق «بنك التنمية الجديد» (بنك بريكس) ليمثّل أحد أبرز إنجازاتها على الصعيد المالي، علماً أن إجمالي القروض الممنوحة من جانب البنك الوليد تجاوَز 30 مليار دولار. ويكاد «الدور التمثيلي» الراهن لـ«بريكس»، باعتبارها «صوت العالم النامي»، يتكامل أو يتقاطع مع دور تكتّلات إقليمية أو اقتصادية أخرى، على غرار «مجموعة العشرين»، و«ميركوسور» اللاتينية، و«الاتحاد الأفريقي». وممّا لا شكّ فيه، أن خطوات الإعلان عن تأسيس «بنك بريكس»، إضافة إلى إنشاء صندوق ما يسمّى «احتياطي الطوارئ» بهدف معالجة أزمات السيولة، برأس مال قدره 100 مليار دولار، تستلهم تجربة «صندوق النقد والبنك الدوليَّين»، بهدف تقديم بدائل معيارية لدوريهما ضمن شروط «فُضلى» من قِبَل المجموعة.
أمّا على الصعيد السياسي، تعكف «بريكس» على إعطاء دفعة لحضورها الدولي، مستفيدةً من كون الصين، التي يُنظر إليها على أنّها «القائد الفعلي» للتكتل، والتي يفوق ناتجها المحلّي الإجمالي الناتج المحلي لشركائها في «بريكس» بأكثر من الضعف، الشريك التجاري لعدد كبير من دول العالم، بخاصّة بلدان «العالم الثالث». وبعدما كان توطيد التعاون الاقتصادي بين أعضاء المجموعة، وتيسيره بوسائل شتّى، من ضمنها ترسيخ آليات التبادل التجاري بالعملات المحلية، أولوية على أجندتها بدءاً من عام 2017، حيث نما هذا التبادل خلال الفترة المشار إليها بنسبة 56%، لتصل قيمته إلى 422 مليار دولار، فإن تركيز قادة «بريكس» راهناً ينصبّ على توسيع مروحة التعاون إليه، ضمن إجراءات من بينها فتح باب العضوية أمام دول جديدة للمرّة الأولى منذ عام 2010، فضلاً عن محاولة خلْق عملة جديدة لدول التكتُّل.

توازنات أم تباينات؟
على رغم حرْص الرئيس الجنوب أفريقي، سيريل رامافوزا، خلال قمّة جوهانسبورغ، على إبراز وحدة المجموعة حيال مسألة توسيع العضوية، لا تبدو «بريكس» كتلة متجانسة «على طول الخطّ»؛ إذ اعترتها تباينات في المصالح السياسية والأمنية تحكّمت بواقع التوازنات داخلها على مرّ الأعوام الماضية، سواء بسبب الخلافات الثنائية بين الصين والهند، أو على خلفية انسياق البرازيل خلال عهد الرئيس السابق، جايير بولسونارو، وراء السياسات الأميركية.
وكثيراً ما «تصطاد» واشنطن في تلك التباينات، وتحديداً لناحية العمل على استمالة نيودلهي، المحسوبة على «الحلف القِيمي الغربي»، لتوظيف حضورها الوازن داخل المنظّمة ضدّ «الجمهورية الشيوعية»، بالنظر إلى تقاربها الاقتصادي، ناهيك عن الديموغرافي مع الصين، فضلاً عن امتلاكها حصصاً متساوية معها في «بنك التنمية الجديد». ولعلّ هذه الاعتبارات تندرج في صميم السياسة الأميركية لمواجهة الصين، ومنافستها على خطب ودّ «الجنوب العالمي»، والذي تمظهرت أحدث صوره في الدعوة التي وجّهتها «مجموعة السبع» إلى الهند، وكذلك إندونيسيا، والبرازيل، لحضور قمّتها الأخيرة. ولربّما تفسّر السياسة المشار إليها، وإن جزئياً، بقاء تطوّر روابط الصين التجارية مع الهند عند مستويات أقلّ بالمقارنة مع شركائها الآخرين في «بريكس»، كروسيا وجنوب أفريقيا.
المفارقة أيضاً أن التقارير الغربية بدأت تسبغ ملامح اقتصادية على هذا «الانشقاق» أو «الفَرادة» الهنديَّين من منطلق نسب النمو المرتفعة التي أصبح يسجّلها الاقتصاد الهندي خلال السنوات الأخيرة، بمستويات تقارب ما كانت تحقّقه الصين قبل نحو 15 عاماً، في مقابل تباطؤ اقتصادي تسجّله اقتصادات المجموعة، كروسيا الخاضعة لعقوبات غربية.
وشأنها شأن «هند مودي» التي لطالما سكنها خوف من تحوّل المنظّمة إلى «ناطق باسم المصالح الصينية»، أبقت البرازيل في عهد الرئيس «اليميني» السابق نفسها على مسافة من «زملاء بريكس»، لأسباب تتعلّق بعدم الرغبة في استفزاز الغرب، في حين لا يكفّ خلفه، الرئيس الحالي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، عن إعطاء إشارات في شأن سيره في الاتجاه المعاكس. وهي إشارات ضمّنها في خطاب حماسي ألقاه في مقرّ «بنك التنمية الجديد»، في شنغهاي، في نيسان الماضي، شدّد فيه على ضرورة الحدّ من دور الدولار في التبادلات التجارية الدولية.

من شأن ضمّ بلدان نفطية مهمّة إلى «بريكس» أن يربط اقتصادات كبريات الدول المنتجة للنفط في العالم، مع اقتصادات أكبر الدول المستهلكة للخام


دلالات توسيع العضوية: نجاح روسي - صيني

وفي انتظار الانضمام الرسمي لدول شرق أوسطية عدّة، في طليعتها مصر وإيران، العام المقبل، يتفّق محلّلون على أن توسيع «بريكس»، لتضمّ دولاً نفطية مهمّة، من مثل السعودية والإمارات، على وقع انتظار دول أخرى ذات اقتصادات وازنة (نيجيريا وإندونيسيا) دورها أيضاً، من شأنه أن يربط اقتصادات كبريات الدول المنتجة للنفط في العالم، مع اقتصادات أكبر الدول المستهلكة للخام، وعلى رأسها الصين. وقد يسهم ذلك في تعزيز النفوذ الاقتصادي والسياسي لهذا المنتدى الدولي الصاعد، من خلال إتاحة فرص أكبر أمامه لتحدّي هيمنة الدولار في تجارة النفط والغاز، والتحوُّل إلى عملات دولية أخرى، فضلاً عن تدعيم حظوظه في فرض إعادة تشكيل الاقتصاد العالمي.
وما يسترعي الانتباه، هو أن أعضاء المجموعة «الأوائل» الذين تكتّلوا بادئ الأمر حول بعض المشتركات الاقتصادية (تماماً كما هو حال «مجموعة السبع» المحسوبة على الشمال الغني) - عند تفعيل عمل المنتدى في أعقاب الأزمة المالية العالمية عام 2008 -، كأرقام الناتج المحلّي المتصاعدة بوتيرة قياسية، ومعدّلات النمو المرتفعة، تبدو اليوم الخلفية السياسية واضحةً في موافقتهم على ضمّ أعضاء جدد ممّن يتمتّعون بمؤشرات أداء اقتصادي متفاوتة إلى حدّ كبير، في الوقت الراهن. ولعلّ ذلك يعدّ بمثابة دليل على أن توسيع التكتّل بات أولوية في حدّ ذاته، لأسباب جيوبوليتيكية واقتصادية في آن، أقلّه بالنسبة إلى أعضائه البارزين، كروسيا والصين، ولا سيما أن كلا الدولتَين تحيكان، منذ سنوات، استراتيجية طويلة الأمد للحدّ من استخدام الدولار في التعاملات التجارية الدولية، بغية حرمان الأميركيين من استخدامه كسلاح للإضرار بمصالحهما.
على أي حال، توسيع «بريكس»، والذي وصفه الرئيس الصيني، شي جين بينغ، في خطابه أمام قمة جوهانسبرغ، بـ«التاريخي»، وذلك توازياً مع انتقاده الضمني للسياسات الأميركية ذات النهج «الإقصائي»، فضلاً عن تكراره الاتهامات لواشنطن بـ«تقويض سلاسل التوريد»، يراه الباحث في «صندوق مارشال الألماني»، وهو مركز بحثي مقرّه الولايات المتحدة، أندرو سمول، بمثابة «الاندفاعة الأكثر وضوحاً وصراحة من جانب شي لتحويل بريكس إلى إحدى أدوات مناهضة الهيمنة (الغربية)»، المتمثّلة بصورة أساسية في النظام المالي العالمي، الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة. وبحسبه، فإن ما جرى ينذر ببدء العمل على «تأسيس هياكل (اقتصادية) بديلة غير غربية» للتجارة بين دول العالم النامي، كسبيل أساسي لتجاوز العقوبات التي تفرضها واشنطن وحلفاؤها على كثير من الدول.
وعلى رغم إشارته إلى اختلافات في الرؤى بين بلدان المجموعة، يعتقد سمول أن توسيع «بريكس» «يشكّل جزءاً من الرهانات طويلة الأمد للصينيّين»، لافتاً إلى أن الأخيرين «يعتقدون أن علاقاتهم مع الغرب ستواصل تدهورها قدماً»، وأن «مستقبل العلاقات مع العالم سيكون متركّزاً إلى حدّ كبير في العالم النامي، ما يجعلهم يسعون خلف إيجاد طرق لإضفاء الطابع المؤسّسي على الأنظمة (المالية البديلة) المرنة وترسيخها».
وفي مقابل انتهاج بكين «استراتيجية كسب صوت العالم النامي (الجنوبي)»، من منطلق خلافاتها مع الأوروبيين والأميركيين، يَعتبر بعض الباحثين الصينيين أن الولايات المتحدة صرفت انتباهها عن الدول النامية، بخاصة «مجموعة العشرين»، لمصلحة التركيز على أهدافها ضمن منتدى «السبعة الكبار» لدعم كييف، في وجه روسيا من جهة، ومواصلة «حروبها التجارية» مع الصين من جهة ثانية، ما مهّد الطريق أمام «بريكس» لتقديم نفسها كمنبر أفضل للدول النامية الكبيرة للتعبير عن تطلّعاتها وأهدافها. في هذا الصدد، يلفت المحلّل السياسي الصيني، مينغ جينوي، إلى أن فعاليات قمّة جوهانسبرغ بعثت برسالة واضحة إلى الولايات المتحدة وحلفائها، مفادها بأنه «لا يمكنكم احتواء الصين أو قمعها، لأن لديها أصدقاء في جميع أنحاء العالم».
على المقلب الآخر، تحذّر مصادر ديبلوماسية من أن «قبول انتساب دول جديدة إلى التكتّل، من دون معايير واضحة، بخاصّة على الصعيد الاقتصادي، قد ينطوي على مخاطر تحوُّله إلى هيئة غير فاعلة تتنازعها تباينات جوهرية في مصالح أعضائها، كما حدث في حالة الاتحاد الأوروبي لدى توسّعه بين عامَي 2004 و2007».

ماذا عن البرازيل وجنوب أفريقيا والهند؟
في ما يخصّ موقف أعضاء المجموعة الآخرين، كالبرازيل وجنوب أفريقيا، من مخرجات قمّة جوهانسبرغ، تشير مجلّة «نيوزويك» إلى أن تكتُّل «بريكس» «أصبح محور جذب حالياً لجميع الدول التي ترى أنه يمكنها اكتساب المزيد من مقوّمات القوّة، إذا ما تحالفت مع بلدان التكتّل الأخرى لمواجهة التدابير القسرية والجزائية التي دأب عليها الغرب لسنوات خلت»، مشيرة إلى أن «ثمّة وجهة نظر تلقى تأييداً متزايداً بين قادة بريكس، بمَن فيهم الرئيس البرازيلي، تتلخّص في أن وجود مجموعة أقوى، يعني بالضرورة وجود مجموعة أكبر من حيث عدد الأعضاء». وفي هذا الإطار، يتوقّف مدير برنامج الأميركيتَين في «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» (CSIS) في واشنطن، ريان بيرغ، عند ما يصفه بـ«الاهتمام المتزايد بالطبيعة الجيوبوليتيكية للتكتُّل» من قِبَل أعضاء هم أقرب تاريخياً إلى تيار عدم الانحياز في التكتُّل، كالبرازيل، واضعاً الأمر في إطار محاولة برازيليا الردّ على تهميشها وتجاهلها من قِبَل العواصم الغربية.
أمّا بخصوص دلالات موقف حكومة رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، المؤيّد لتوسيع التكتّل، على رغم كونه أحد أبرز حلفاء واشنطن، فقد لاحظ «مركز أبحاث السياسة العامة»، ومقره نيودلهي، ما سمّاه «ظاهرة التنافس بين القوى الكبرى على خطب ودّ بلدان الجنوب العالمي»، وأن «الجزء الرئيس» ممّا شهدته قمّة جوهانسبرغ، «لم يكن في خيار التوسُّع في قبول طلبات العضوية فحسب، بل في تبلور رؤية لتأسيس عملة مشتركة، ما من شأنه أن يعزّز التزام المجموعة بالتقدّم المستدام طويل الأمد لدول الجنوب العالمي، إضافة إلى تعزيز التجارة بين دول التكتّل، والتخلّص من الأعباء الباهظة المترتّبة على تحويل الدولار لإجراء التعاملات التجارية الدولية (مع دول من خارجه)».
بدوره، يعتقد مدير برنامج «CSIS Africa» للبحوث الاستراتيجية، مفيمبا فيزو ديزوليلي، أن ضمّ أعضاء جدد إلى التكتّل «عزّز مكانة جنوب أفريقيا بين دول عدم الانحياز». ويرى أن الهدف الرئيس للمشاركين في القمّة تعلّق بـ«مناقشة خيبة أملهم حيال دور الولايات المتحدة القيادي في النظام العالمي، والتحالف الدولي (الغربي) الذي تتزعّمه، وتبعاته السلبية على دول الجنوب العالمي»، في إشارة إلى إخفاق السياسات «التنموية» لـ«صندوق النقد» و«البنك» الدوليَّين، وكذلك الهيئات الأميركية الحكومية، معتبراً أنّه «آن الأوان الذي يبدأ فيه هؤلاء سعيهم خلف بديل لتلك القوّة الدولية المتمثّلة بالولايات المتحدة».
في المقابل، وعلى رغم ما تبديه دوائر صنع القرار في إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، من ردود فعل فاترة حيال فعاليات التكتُّل، لا تخفي دوائر أكاديمية أميركية قلقها من التداعيات السلبية لمضيّ واشنطن في تجاهلها لبلدان الجنوب العالمي، معتبرة أن حجم نفوذ بلادهم في تلك الهياكل سيرتبط إلى حدّ بعيد، بمدى استعدادها للاستماع إلى هواجس البلدان المشار إليها.

مصدر الخبر
الأخبار اللبنانية

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.