تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

هذه هي قصة الشراكة السورية ـ الأوربية

مصدر الصورة
النور

تناقلت أجهزة الإعلام، في الأيام الأخيرة أنباء حول دعوة الاتحاد الأوربي لسورية من أجل توقيع اتفاقية الشراكة الأوربية المتوسطية، وطلب سورية التريث ريثما تعيد دراسة بنود الاتفاقية التي كانت قد وقعت عليها بالأحرف الأولى، فما هي قصة الشراكة السورية ـ الأوربية.

قصة الشراكة السورية ـ الأوربية، هي قصة العلاقات العربية ـ الأوربية، بخلفياتها التاريخية، وتعقيداتها المعاصرة، وتطلعاتها المستقبلية. وهي قصة تلخص طبيعة العلاقة بين بلد نامٍ يتطلع إلى التنمية والنهوض، والبلدان الصناعية المتقدمة (المتغطرسة).
لن نتحدث عن حروب (الفرنجة) إلا على سبيل التذكير، ولن نفصّل في التاريخ الأوربي الاستعماري منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى الاحتلالات والانتدابات فيما بين الحربين العالميتين (الأولى والثانية) إلا لأن ذلك يشكل الخلفية التاريخية للمطامع الغربية المعاصرة، التي انتهت بتفكيك الأرض العربية وإقامة دويلات عربية مستقلة سياسياً، وزرع دولة إسرائيل في قلب الأرض العربية، بعد الحرب العالمية الثانية التي تموضع فيها الصراع بين النفوذين الأمريكي والأوربي. فقد تمخض هذا الصراع عن انتصار الولايات المتحدة، التي اعترفت بالمصالح الأوربية في المنطقة العربية، لكن من تحت عباءتها، ومن أجل القيام ببعض الأدوار لخدمة أغراض الاستراتيجية الأمريكية في مواجهة النفوذ السوفييتي، وللحد من انتشار الشيوعية.
في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، حصلت مجموعة من الأحداث (الدراماتيكية) التي عُدّت مفصلاً تاريخياً هاماً في التاريخ البشري. فقد انهار الاتحاد السوفييتي، وتفكك إلى ما يُدعى الدول الاشتراكية السابقة، وسقط جدار برلين وتوحدت ألمانيا، ونشبت الحرب اليوغسلافية، وتفككت يوغسلافيا، وانقسمت تشيكوسلوفاكيا، وسبق ذلك غزو العراق للكويت، فجنّدت الولايات المتحدة جيوشاً من أكثر من ثلاثين دولة لإخراج العراق من الكويت، وعندما تحقق ذلك أعلن الرئيس الأمريكي بوش الأب قيام نظام عالمي جديد بزعامة الولايات المتحدة. وكانت نهاية الحرب الباردة، وفشل التجربة الاشتراكية السوفييتية إيذاناً بالإعلان عن الانتصار (الأبدي) للرأسمالية، ونهاية التاريخ. وبدت الساحة مهيأة لانتصارات أخرى على الصعيد الاقتصادي، فكان استكمال مشروع الليبرالية الاقتصادية الجديدة، بالإعلان عن قيام (منظمة التجارة العالمية) في منتصف التسعينيات استكمالاً لمؤسسات العولمة الاقتصادية. وكانت مراكز الدراسات والبحوث الاستراتيجية الأمريكية قد استكملت أيضاً بناء الإطارات المؤسساتية لإلحاق دول المنطقة بالنظام العالمي الجديد والعولمة، بالإعلان عن تأسيس (الشرق الأوسط الجديد) بمشروع صهيوني أعلنه شمعون بيريز بمباركة أمريكية. فما كان من أوربا، إلا الإعلان عن مشروعها الخاص تحت عنوان (الشراكة الأوربية ـ المتوسطية).
دعت أوربا إلى عقد اجتماع في (برشلونة) 27ـ28/11/1995، وقد حضر هذا الاجتماع 25 دولة شملت الاتحاد الأوربي (12 دولة) ودول حوض البحر الأبيض المتوسط الجنوبي والشرقي (عدا ليبيا) مضافاً إليها الأردن. (والمفارقة هنا هي في استبعاد ليبيا، وضم الأردن). أما المفارقة الثانية، فهي في ضم دول الاتحاد الأوربي غير المتوسطية إلى الشراكة، واستبعاد الدول العربية غير المتوسطية، وفي إصرار أوربا على التمسك بوحدتها، من جهة، والتمسك بالتعامل مع الدول العربية فرادى، من جهة ثانية. لكن المشكلة هنا ليست في أوربا، بقدر ما هي في الجانب العربي، الذي قبلت دوله راضية بهذه العلاقة. وهذه أول بوادر عدم التكافؤ في الاتفاقية.
المهم، أن اجتماع برشلونة تمخض بما يدعى (إعلان برشلونة) الذي وافقت عليه الدول المشاركة في الاجتماع الذي ضم إلى جانب الدول العربية المتوسطية (عدا ليبيا ومع إضافة الأردن) إسرائيل وتركيا.
تضمن إعلان برشلونة، الإعلان عن شراكة بين الدول الموقعة، تشمل جوانب ثلاثة هي:
1ـ الجانب السياسي والأمني، ويتضمن تكثيف الحوار على أساس من القيم والمبادئ:
ـ احترام السيادة الوطنية.
ـ عدم التدخل في الشؤون الداخلية.
ـ احترام حقوق الإنسان.
ـ دولة القانون والديمقراطية.
ـ عدم اللجوء إلى القوة.
ـ السيطرة على التسلح.
ـ محاربة المخدرات.
2ـ الجانب الاقتصادي والمالي، ويتضمن:
ـ إقامة منطقة تجارة حرة (حتى عام 2010).
ـ إزالة العوائق من أمام التبادل التجاري.
ـ إجراءات لقواعد المنشأ والضمان وحماية الملكية الفكرية.
ـ تطوير السياسات القائمة على مبادئ اقتصاد السوق والاندماج بالاقتصاد العالمي.
ـ إعطاء الأوّلية للقطاع الخاص والاستثمار.
3ـ الجانب الاجتماعي والثقافي والإنساني، ويتضمن:
ـ التقارب والتفاهم بين الشعوب.
ـ الحوار بين الثقافات.
ـ التبادل على المستوى الإنساني والعلمي.
ـ دور الإعلام.
ـ أهمية قطاع الصحة في التنمية.
ـ احترام الحقوق الاجتماعية.
ـ الحد من الهجرة.
إن مشروع الشراكة المتوسطية، من وجهة النظر الأوربية، يأتي في سياق التطورات الحاصلة على صعيد النظام العالمي لما بعد انتهاء الحرب الباردة، في محاولة لإعادة ترتيب المنطقة بما يخدم أهدافها الاستراتيجية، وهو في الوقت ذاته يأتي في سياق تطور النظرة إلى التكتلات الاقتصادية الدولية. وهنا نتوقف قليلاً لإيضاح هذه النقطة بالذات.
فبعد الحرب العالمية الثانية، اتسعت دائرة التكتلات الاقتصادية الدولية وتزايد عددها، خاصة في الستينيات من القرن الماضي، وقد نظرت أوربا إلى السوق الأوربية المشتركة، كصورة مثلى للتكتل الاقتصادي الناجح، وأصبح ينظر إلى هذه التكتلات كضرورة ملحة بسبب تطور القوى المنتجة، وتطور العلم والتكنولوجيا، الذي أصبح عنصراً من عناصر الإنتاج، إلى جانب تزايد الإنتاج وتعميق عملية تقسيم العمل الدولي، فزادت الحاجة إلى الأسواق الخارجية، لضمان تصريف الإنتاج المتزايد. وفي ضوء المستجدات على الساحة الاقتصادية العالمية، وبعد التطور الهائل في التكنولوجيا، برزت الحاجة إلى استعادة أفكار الستينيات في التكلات الاقتصادية وتطويرها بما يخدم الأهداف المستجدة، في ضوء تزايد تحرير التجارة العالمية، وإزالة العوائق الجمركية. فأعيد إحياء السوق المشتركة لأمريكا، وكذلك اتحاد أمم جنوب شرق آسيا، والسوق المشتركة الجنوبية في أمريكا اللاتينية. فقد أمست الإقليمية الجديدة، تشكل علاجاً للمشكلات الاقتصادية الحرجة على الصعيد الدولي، فهي إلى جانب المكاسب السياسية، تحقق عدداً من المزايا الاقتصادية، وتساعد على رفع الكفاءة الاقتصادية وزيادة حجم الإنتاج وتوسيع السوق وتحسين القدرة التفاوضية للدول المنضمة إلى التكتل، بما يحقق النمو الاقتصادي المستمر، نتيجة للآثار الديناميكية التي يخلقها التكتل بفعل اتساع الأسواق.
لكن الشراكة الأوربية ـ المتوسطية، فضلاً عما تحققه من مزايا اقتصادية، فإنها تلخص نظرة الغرب الأوربي إلى العرب وإلى المنطقة العربية.
لقد حكم، ولا يزال يحكم، هذه النظرة مسألتان على جانب من الأهمية هما:
ـ المحافظة على وجود إسرائيل وحمايتها.
ـ النفط العربي.
ولهذا فإن الغرب يسعى، ومعه الآن أو قبله الولايات المتحدة، إلى ترسيخ وجود إسرائيل وتطبيع هذا الوجود من جهة، والمحافظة على تدفقات النفط العربي إلى الغرب الأوربي والولايات المتحدة، بما يخدم قضية النمو الاقتصادي الرأسمالي ويحقق استمرار الازدهار.
إن تحقيق ذلك يقتضي:
1ـ منع وحدة العرب. والمحافظة على انقسامهم وتكريس دولهم القطرية، وإذا أمكن تفكيك هذه الدول مرة أخرى.
2ـ إبقاء الدول العربية في حالة من التخلف الاقتصادي والتكنولوجي والحضاري والتفتيت المجتمعي بإثارة النعرات المذهبية والطائفية والعنصرية.
وهكذا يأتي مشروع الشراكة الأوربية المتوسطية، محققاً لقبول إسرائيل في نسيج المنطقة، وفي موقع الريادة فيها، مع المحافظة على انقسام الدول العربية، على أن تكون الشراكة الأوربية بديلاً عن مشروع التوحد الاقتصادي العربي، شأنه في ذلك شأن مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي أصبح كبيراً بعد احتلال العراق. إلى جانب بعض الأهداف الأخرى التي يسعى الأوربيون إلى تحقيقها، كاستخدام الدول العربية المتوسطية كشرطة لمنع الهجرة إلى أوربا، ووسيلة لتحسين وتعزيز موقعها الاستراتيجي على الصعيد العالمي. فهم ينظرون إلى جنوب وشرق المتوسط على أنهما منطقة استراتيجية هامة ومجال حيوي لأوربا.
واندفعت الدول العربية المتوسطية (عدا سورية، وليبيا المستبعدة) في الدخول بمفاوضات منفردة مع الاتحاد الأوربي، ووقعت اتفاقية الشراكة، على أمل أن تحقق لها هذه الشراكة الآمال العريضة الموعودة، وأن تعطيها (جواز المرور) للعبور من حالة التخلف إلى ساحات التقدم العريضة التي تكفلها عملية الالتحاق بأوربا كما يروج لها. لكن الأهم من ذلك، أن الأنظمة في الدول العربية التي انضمت إلى الشراكة الأوربية، تصورت أنها بهذا الالتحاق بأوربا تكون قد حصلت على الاعتراف الدولي بشرعيتها، وبشهادة حسن سلوك بممارساتها، وأنها حققت بذلك تصنيفها دولةً ديمقراطية تتمسك بحقوق الإنسان ومعترفاً بها في المجتمع الدولي (الحضاري).
والواقع أن الدول الأوربية والولايات المتحدة، في رفعها لشعار الديمقراطية وحقوق الإنسان، لا تكترث، فيما إذا كانت (أنظمتنا) تحقق الديمقراطية وتعترف بحقوق الإنسان، بقدر ما هي متمسكة بتحقيق مصالحها، وتأكيد تبعية الأنظمة لها، وبعد ذلك لتفعل هذه الأنظمة ما شاءت، شرط استمرار التزامها بالبقاء أسيرة المصالح الغربية، متشبعة بقشور الثقافة والقيم الغربية، هي ومجتمعاتها.
بقيت سورية خارج إطار الشراكة ومفاوضاتها، لأسباب سياسية بالدرجة الأولى, واقتصادية بالدرجة الثانية. والأسباب السياسية كانت (وهي لا تزال قائمة) وجود إسرائيل في صلب عملية الشراكة، وتجاهل الاتفاقية وشراكتها لاحتلال إسرائيل للأراضي العربية، وكذلك لممارساتها اليومية العدوانية تجاه الشعب العربي في فلسطين. أما عن الأسباب الاقتصادية، فقد لاحظت القيادة السياسية السورية، أن ما يؤمل أن تحصل عليه سورية من مزايا اقتصادية، لا يوازي ما ستخسره لقاء ذلك، كما أن تلك المزايا عبارة عن وعود، في حين أن ما سيتحقق من سلبيات سيكون واقعاً فور سريان الاتفاقية.
ومع التغير في المناخ الدولي والإقليمي في مطلع الألفية الثالثة، وفي إطار الحصار الجائر الذي فرضته الولايات المتحدة، عاودت سورية الدخول في مفاوضات الشراكة، إلى أن تم التوافق بتاريخ 19/10/2004 على مشروع اتفاقية، أشر عليه الجانبان بالأحرف الأولى، سورية من جهة، والاتحاد الأوربي الذي أصبح يضم 25 دولة أوربية في ذلك الوقت، من جهة ثانية.
ولم تنشر بنود الاتفاقية في سورية، ليطلع عليها الرأي العام، ولكن ما سرى منها يفيد بأن غايات الاتفاقية حددت كما يلي:
1ـ توفير إطار ملائم للحوار السياسي بين الطرفين، يمكّن من تطوير علاقات سياسية وثيقة في جميع المجالات التي يريانها مناسبة لهذا الحوار.
2ـ تحديد شروط التحرير التدريجي للتبادل التجاري للسلع والخدمات والرأسمال.
3ـ تطوير المبادلات ورعاية علاقات اقتصادية واجتماعية متوازنة، بين الطرفين، وخاصة من خلال الحوار والتعاون بهدف تحسين الازدهار والتنمية الاجتماعية في سورية.
4ـ تشجيع التعاون ضمن إطار أوربي ـ متوسطي شامل، وعلى المستوى دون الإقليمي من خلال التكامل بين سورية وشركائها الإقليميين.
5ـ ترويج التعاون في الحقول الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وتركزت المحاور الرئيسية للاتفاقية على:
1ـ التبادل الحر للسلع والإلغاء التدريجي للرسوم عليها، فالرسوم الجمركية التي تطبق على المنتجات المستوردة إلى سورية وذات المنشأ في المجموعة الأوربية، تخضع إلى تفكيك ينتهي بالصفر خلال مدة أقصاها 12 سنة طبقاً لمخطط وجدول زمني. أما المنتجات ذات المنشأ السوري والمستوردة إلى المجموعة فتكون معفاة من الرسوم الجمركية (فور تطبيق الاتفاقية).
2ـ إزالة قيود المنع على انسياب السلع.
3ـ الاهتمام بالصناعات الناشئة.
4ـ قواعد المنافسة: لا إغراق، ولا دعم، ولا استغلال، ولا احتكار.
5ـ قواعد المنشأ.
6ـ المقاييس والمواصفات والمطابقة.
7ـ التعاون في مجالات:
ـ التطوير الصناعي والمشاركة في دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة.
ـ التعليم والتدريب.
ـ تطبيق المواصفات (الأوربية طبعاً).
ـ برامج البحث والتطوير ونقل التكنولوجيا.
ـ الاستثمار المشترك وتمويل الاستثمارات الإنتاجية في سورية.
علماً أن برامج البحث والتطوير ونقل التكنولوجيا، هي كما تضعها أوربا، وأنه لا التزام بتقديم أية استثمارات أوربية، إنما يعود ذلك للمبادرات الخاصة بالمستثمرين.
وقد ترافق ـ زمنياً ـ مع المفاوضات حراك حواري داخل المجتمع السوري، حول الإصلاح الاقتصادي، وكان هناك تيار داخل النظام وفي المجتمع يطالب بالإصلاح الاقتصادي والإداري باتجاه الإبقاء على مرتكزات النظام الاقتصادي والاجتماعي، ويحافظ على القطاع العام بعد إصلاحه وتطويره، مع انفتاح واسع على القطاع الخاص بهدف إشراكه في عملية التنمية مشاركة جدية، وتحقيق نوع من الانفتاح الخارجي التجاري التدريجي، والتمسك بالتوجهات التنموية للدولة. وكان هناك اتجاه آخر يدفع باتجاه تحرير التجارة والانفتاح الاقتصادي والالتحاق بالأسواق العالمية، والانخراط بالعولمة، تحت عنوان اقتصاد السوق، واحتل رموز هذا الاتجاه بعض المفاصل البيروقراطية، مدعومة بالمؤسسات الدولية، وبغرف التجارة والصناعة، ومدعومة خاصة بهذا الضخ الإعلامي والتثقيفي الواسع الذي تقوم به المؤسسات الدولية، وخاصة بالنشاط الذي قام به مركز الأعمال الأوربي في كل من دمشق وحلب، والذي تركز في الدعوة إلى اقتصاد حرية السوق وتعميم الثقافة الليبرالية في أوساط المثقفين والبيروقراطية الحكومية.
وهكذا يمكن أن نلمس هدفاً غير معلن لاتفاقية الشراكة فيما يتعلق بسورية، ألا وهو الدفع باتجاه إجراء تغيير بنيوي في الاقتصاد السوري، وفي الفكر الاقتصاد السوري، وفي المجتمع السوري، بالتحول نحو اقتصاد السوق وتغيير الحامل الاجتماعي للنظام.. لكن القيادة السياسة حسمت مسألة خيار الإصلاح، بإقرار اقتصاد السوق الاجتماعي، الذي يجمع ما بين آليات السوق والتوجهات الاجتماعية وتحقيق عدالة التوزيع. إلا أن أعضاء في الفريق الاقتصادي الحكومي بقي يعمل في إطار الشق الأول، بتشجيع من المؤسسات الدولية والاتحاد الأوربي، وهو اقتصاد حرية السوق، واستطاع تمرير العديد من القرارات الانفتاحية التي أخذت الاقتصاد السوري بعيداً نحو الليبرالية الاقتصادية الجديدة. إذ استغلت دعوة الشراكة الأوربية المتوسطية إلى اعتماد صيغة اقتصاد السوق، وتولي القطاع الخاص المهام الرئيسية في الاقتصاد إلى أبعد الحدود، وبشّر هؤلاء بأن الشراكة السورية - الأوربية، سوف تكون المفتاح الذي سيفتح آفاق المستقبل للاقتصاد السوري، وراهنوا على الشراكة للعبور إلى المستقبل. وهكذا فقد دفع الاقتصاد السوري الأثمان غالياً، قبل أن يبدو في الأفق ما يشير إلى تحقيق المكاسب الموعودة من الشراكة. رغم تنبيه العديد من الباحثين والاقتصاديين والمنظمات العمالية والفلاحية، وكوادر عديدة في حزب البعث العربي الاشتراكي وأحزاب الجبهة، بأن انتهاج سياسات اقتصاد حرية السوق وتحرير التجارة قبل تمكين الاقتصاد، هو خطر جسيم. إلا أن الاقتصاد السوري بدأ (يقطف ثمار) ذلك الانفتاح والتحرير، بأزمة اقتصادية ومالية عميقة تمثلت في تدهور أحوال معيشة قطاعات واسعة من السكان، وبالبطالة والتضخم الحاد في الأسعار، وفي عجز الموازنة والعجز التجاري المتفاقمين.. وجاءت الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، وجاء الجفاف، مع وجود الإخوة العراقيين، ليشكلوا (المشجب) الذي يعلق عليه أقطاب النظام الرأسمالي المعولم ودعاة اقتصاد السوق الآمال في إنقاذ (تورطهم) في انتهاج سياسات اقتصادية ومالية وتجارية، لا تنسجم لا مع تطلعات الشعب ولامع قرارات القيادة السياسية، ولامع طبيعة الاقتصاد الوطني.
في ظل هذه الأجواء، كانت دول الاتحاد الأوربي لا تزال تدرس التوقيع النهائي على اتفاقية الشراكة مع سورية، واستمر ضغط الفريق الاقتصادي من أجل تسريع عملية التوقيع، فكان أن وقع على الاتفاقية مرة أخرى بالأحرف الأولى، بعد أن جمدت الاتفاقية لمدة تزيد على أربع سنوات بضغط من الرئيس الفرنسي شيراك، الذي وقف إلى جانب اتهام دمشق في مؤامرة اغتيال صديقه رفيق الحريري، مستخدماً ذلك إلى جانب الولايات المتحدة، وسيلة ضغط على سورية لحرفها عن مسارها الوطني والقومي، مستخدمين تيارات معينة في لبنان، تضمر لسورية الحقد والكراهية، بما تمثله من قيم قومية، مستغلين بعض الأخطاء التي ارتكبها بعض المسؤولين السوريين خلال الوجود السوري في لبنان.
ومع تولي ساركوزي للرئاسة الفرنسية، تولى أيضاً الدفع باتجاه توقيع الشراكة مع سورية، على خلفية قناعته بضرورة الحوار معها، لما لها من (دور أساسي في المنطقة)، إلا أن هولندا تولت من جانبها تجميد الاتفاقية بإثارتها لبعض الأمور التي تراها سورية تدخلاً في الشأن الداخلي.
في هذه المرحلة، يقوم الرئيس الفرنسي الجديد، بطرح مشروعه الجديد تحت عنوان (الاتحاد من أجل المتوسط)، إذ توصل اجتماع عقد في باريس لمنتدى باريس الأور-متوسطي، حضره أكثر من ستين شخصية سياسية ودبلوماسية ومسؤولين ومن المجتمع المدني، إلى اتفاق (يكاد يكون تاماً) حول المسائل الرئيسية التالية:
- إن حالة البحر المتوسط ومحيطه حالة سيئة بسبب الانقسامات الاقتصادية والبيئية والاجتماعية.
- يسكن المنطقة المحيطة بالبحر شعوب غنية وأخرى فقيرة، وهناك فجوة كبيرة بين الشمال والجنوب، وهي من أوسع الفجوات في العالم، وتقدر الفجوة بـ1 إلى 10 والبعض يقدرها بـ1 إلى 12.
وفي هذا يقول ساركوزي إن الفجوة ازدادت على مدى الــ15 سنة الماضية، مما يثير مخاطر عدم الاستقرار في منطقة المتوسط وما وراءها.
وحسب تقديرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فإن هناك حاجة لتوفير 40 مليون فرصة عمل في بلدان جنوب المتوسط خلال السنوات الـ15 القادمة، للحفاظ على مستوى البطالة في مستواه الحالي.
وأشار اجتماع منتدى باريس إلى أن الاستثمارات من شمال المتوسط إلى جنوبه تمثل 2% فقط من إجمالي الاستثمارات الأوربية فيما وراء البحار.
وأكد ساركوزي في طرحه لمشروعه أن مهمة الاتحاد هي إيجاد مشاركة أصيلة لبناء مشروعات محددة وإيجاد روابط وثيقة بين شركاء يعملون على قدم المساواة.
إن الدعوة إلى الاتحاد من أجل المتوسط، وإن بقيت في إطار مسار برشلونة، لأسباب أوربية، إنماهي دليل ساطع على فشل الشراكة الأوربية المتوسطية، وقد تمثل هذا الفشل في عدم تحقيق أهداف الشراكة، مع ازدياد الفجوة الاقتصادية والحضارية والتكنولوجية بين الشمال والجنوب، وكذلك على مستوى تحقيق الازدهار والنمو في بلدان الجنوب، الأمر الذي تمثل مؤخراً في المظاهرات التي وقعت في الجزائر، وفي مطالبتها بإعادة النظر بهذه الاتفاقية.
ورغم ذلك، استمر الفريق الاقتصادي الحكومي بالدعوة إلى الشراكة، إذ تم التأشير عليها مرة أخرى بالأحرف الأولى في كانون الأول 2008، بعد التجميد الثاني الذي تزعمته هولندا، إلى أن تلقت سورية من وزير خارجية السويد بتاريخ 14/10/2009 بأن الاتحاد الأوربي قرر دعوة سورية لحضور مراسم التوقيع في لوكسمبورغ مع وزراء 27 دولة أوربية على اتفاقية الشراكة في 26/10/2009، هكذا وبأسلوب فوقي، كما عودتنا أوربا، يتم الإبلاغ على طريقة الأوامر المتغطرسة والمشبعة بروح التعالي. مما دعا الحكومة السورية إلى إبلاغ الوزير السويدي بأن دمشق بحاجة إلى بعض الوقت لدرس بنود اتفاق الشراكة، ومدى انعكاسها على عملية الإصلاح والتحديث الجارية في البلاد.
الجدير بالذكر أن هولندا أثارت مسألة حقوق الإنسان في سورية، كمبرر لتجميد الاتفاقية للمرة الثانية، وفي الوقت ذاته صوتت هولندا ضد تقرير القاضي غولدستون في مجلس حقوق الإنسان الذي أدان إسرائيل لممارساتها الوحشية في غزة، مما يفقد هولندا (وتالياً دول الاتحاد الأوربي) أي مصداقية بشأن حقوق الإنسان بعد أن أثبتت ازدواجية مواقفها بهذا الشأن، مما يشير إلى أن أوربا تستخدم التوقيع على الاتفاقية مع سورية من أجل تحقيق أهداف سياسية بقصد التأثير على مواقف سورية الوطنية والقومية.
على أي حال، لعلها فرصة للقيادة السياسية السورية لإعادة تقويم موقفها من الشراكة الأوربية المتوسطية، وبناء هذا الموقف على المعطيات والمستجدات على الساحتين الإقليمية والدولية، وخاصة على مدى انعكاس هذه الاتفاقية على الاقتصاد السوري، مع الأخذ بالحسبان تجربة الدول العربية (والأجنبية) التي انضمت في ظروف مغايرة لهذه الاتفاقية، وكذلك في ضوء المزايا العديدة التي منحتها أوربا لإسرائيل، وخاصة اتفاقاتها الأخيرة التي سمحت لإسرائيل بموجبها الاستفادة من نتائج بحوث المراكز العلمية الأوربية، ومعاملتها كباقي دول الاتحاد الأوربي. ونشير هنا إلى احتضان أوربا لإسرائيل وتقديمها جميع التسهيلات والمساعدات التي تبقيها متفوقة عسكرياً واقتصادياً وتكنولوجياً على جميع الدول العربية، عدا مساندتها سياسياً ودبلوماسياً في المحافل الدولية، كي تستمر في عدوانها على شعب فلسطين، ولتستمر في احتلالها للجولان السوري.
من زاوية التداعيات الاقتصادية على الاقتصاد السوري، فإن لاتفاقية الشراكة نتائج كارثية حتماً على جميع القطاعات الاقتصادية، ذلك أنه من حيث المبدأ فإن الاتفاقية هي بين عملاق اقتصادي يتمثل في الاتحاد الأوربي (27 دولة) وبلد صغير هو سورية، فهي علاقة غير متكافئة وستؤدي إلى إضعاف أكثر للبلد الصغير، وتقوية أكبر للكتلة القوية.
من جهة أخرى، فإن الاتفاقية التي تتضمن تحرير التجارة الخارجية لسورية قبل تمكين الاقتصاد ستولد مخاطر كبيرة على القطاعات الإنتاجية، وخاصة قطاع الصناعات التحويلية. إذ إن الإعفاءات الجمركية للبضائع الأوربية، وإلغاء القيود غير الجمركية، سيتولد عنها منافسة غير متكافئة للمنتجات الوطنية القائمة. والأخطر من ذلك، أنها ستمنع قيام صناعات جديدة، كان يمكن أن تقام لمواجهة الطلب المحلي لبعض المنتجات الصناعية، مادامت هذه المنتجات يمكن تأمينها عن طريق الاستيراد من الدول الأوربية (في ظل أوضاع داخلية يغلب عليها تأثير التجار على السياسات الاقتصادية). وهذه المسألة بالذات، تغيب عن المداولات الجارية في الأوساط الحكومية، وفي أوساط الباحثين والقطاع الخاص. إن إمكان دخول المنتجات الصناعية (خاصة المتطورة) بموجب الاتفاقية، ستقطع الطريق على إمكان تصنيعها محلياً، وهكذا فضلاً عن التأثير على الصناعة القائمة، فإن الاتفاقية ستمنع قيام صناعة متطورة وحديثة، مما يبقيها في دائرة التخلف، وسوقاً لتصريف المنتجات، إلى جانب تطوير قطاع السياحة الذي سيحول البلاد إلى منتجعات للترفيه والتسلية.
إذن.. التأثير السلبي للاتفاقية على الصناعات التحويلية سيتحقق فعلاً، في حين أن الوعود بأن هذا التأثير مؤقت (باعتراف أوربا نفسها)، وبالتالي فإن المستقبل يحمل وعوداً بأن (تنهال) الاستثمارات الأوربية لتقيم الصناعات المتطورة، إن هذه الوعود في عالم الغيب، ولم نجدها تتحقق في البلدان التي سبقتنا بأعوام طويلة في توقيع الاتفاقية.
عدا ذلك.. إن ما ستولده الاتفاقية من توقف لبعض المصانع الوطنية، ومن بطالة، ومن ركود في الحياة الاقتصادية، سيولد في ذات الوقت ديناميته الخاصة، بحيث يتفاقم هذا الوضع إلى الأسوأ في المستقبل.
أما انهيال الاستثمارات الأوربية علينا، وتزايد حركة السياحة، فإنه ليس فقط بعلم الغيب، وإنما هو مجرد تمنيات غير واقعية، فالأوربيون يقولون إنه من الناحية الرسمية لا تستطيع الحكومات توجيه المواطنين إلى الاستثمار أو السياحة في بلد معين، وأن ذلك يتوقف على مدى الإجراءات والظروف التي يخلقها ذلك البلد لجذب الاستثمار ولجذب السائحين، وبالتأكيد فإن ذلك صحيح.
في المقابل، فإن البضائع السورية ستتعرض في الأسواق الأوربية لمنافسة غير متكافئة مع بضائع مختلف البلدان الأخرى، وبضمنها البضائع الأوربية، والحال نفسها يمكن أن تطبق على الاستثمارات والسياحة الأوربية، والتي أمامها أسواق العالم ودوله المفتوحة.
أما فيما يتعلق باستفادة سورية من تصدير عدد من المنتجات الزراعية، كالحبوب والخضار والفاكهة، فلا أعتقد أن هناك صعوبات تحول دون تصدير هذه المنتجات إلى مختلف دول العالم، فيما إذا توفرت لها أساليب التسويق المناسبة، إلا أن تصديرها إلى الأسواق الأوربية تعترضه بعض الصعوبات حتى مع وجود الاتفاقية، فالتشابه في المنتجات السورية الزراعية مع منتجات دول أوربية أخرى أو دول ترتبط مع أوربا باتفاقيات شراكة، ودقة المواصفات والمقاييس والمعايير الأوربية، هذا كله يحول دون إمكانات التوسع في تصدير المنتجات الزراعية السورية إلى الأسواق الأوربية.
من جهة أخرى، فإن الإعفاءات الجمركية التي ستمنح للبضائع الأوربية، ستؤدي بلا شك إلى فقدان الخزينة السورية لموارد هامة، مما يزيد من عجز الموازنة، فضلاً عن العجز المتولد في الميزان التجاري الناجم عن زيادة المستوردات السورية من أوربا.
أخيراً، فإن اندفاع الفريق السوري المفاوض، قد أدى إلى الوصول إلى نصوص في الاتفاقية غير مؤاتية أو ملائمة للاقتصاد السوري، وجاء هذا تحت تأثير الثقافة الليبرالية الاقتصادية الجديدة والرغبة في تطبيق إصلاحات اقتصادية جوهرها التوجه نحو اقتصاد السوق الذي تفرضه الاتفاقية. هذا عدا بعض النصوص التي تعدّ تدخلاً بالشأن الداخلي، وربما تكون الفرصة متاحة الآن لإعادة النظر من حيث المبدأ في الانضمام إلى المشروع الأوربي، خاصة أن أمام سورية خيارات أخرى أهم وأكثر واقعية وفائدة من النواحي الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، كما أن الفرصة متاحة الآن لدراسة تجارب الشراكة في الدول العربية التي سبقتنا، وفيما إذا كانت الوعود التي أُعطيت لهم قد تحققت، خاصة أن هذه الدول تتفاقم فيها المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، بالمقارنة مع أوضاعها قبل الانخراط بالشراكة.
على أن هذا لا يعني أن على سورية الانعزال أو الابتعاد عن التعامل مع أوربا، فقد كانت العلاقات التجارية تاريخياً متنامية بين سورية والدول الأوربية، وربما يكون الوقت مناسباً لطرح صيغ أخرى للتعاون، لا تنتقص من سيادتنا، ومع المحافظة على استقلاليتنا، ومع عدم التدخل بشؤوننا الداخلية.. والأصل في كل هذا، أن يكون عنوان علاقاتنا الاقتصادية والسياسية الخارجية، تغليب مصالحنا الوطنية على مصالح الخارج.. مهما كانت صفة هذا (الخارج). وهذا يقتضي أن يتحلى كل من يعمل في دوائر لها صلة بالخارج، بحساسية وطنية فائقة تجعله يرفض كل ما يسيء إلى الاقتصاد الوطني وإلى الأهداف العليا للبلاد.
 
د. منير الحمش - النور  

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.