تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

في دمشق بعد ثلاثة عقود

 
عندما تعود الى مدينة بعد اثنين وثلاثين عاماً من فراقها, فإنك تدخلها في عمر يقل كل هذا الزمن من عمرك الان, وقبل اسبوع حملني ثلاثة زملاء اعزاء الى دمشق, وكنت اعرف ان المدينة مدينتان, واحدة هي المدينة القديمة التي تزيد حضوراً في العقل والقلب ومدينة جديدة لا تختلف عن اية مدينة عصرية تتشابه شوارعها ومبانيها وابوابها ونوافذها مع كل المدن الاخرى, ولحظة تحاول استعادة ذكرياتك عن دمشق التي انتسبت الى جامعتها لدراسة الفلسفة مطلع الستينات, ونزلت فنادقها وتناولت طعامك في مطاعمها, وقطعت شوارعها وأزقتها على قدميك أو في احدى حافلاتها, تشعر أنك لم تغادرها ثلاثة عقود, وانك كنت فيها البارحة, تسلم على الناس وتجلس في المقاهي, وتلتقي بأجدادك الامويين, وتزور المكتبات, وتتخذ من (مطعم النجمة) بيتاً تتناول فيه غداءك وعشاءك, وبالكاد تغادر جامعة دمشق حيث الالاف من الطلبة العرب الذين يتلقون في ممراتها وقاعاتها الدروس الاولى في الانتماء القومي الذي يحضك ضد القطرية والاقليمية والوطنية الزائفة.
كنت في العشرين من العمر عندما ذهبت طالباً منتسباً في جامعتها الاكبر والاعرق, وكنا نتقدم للامتحانات أول الصيف, لم نكن اغنياء الا بالشباب والصدق والانتماء, وحتى نغطي تكاليف الشهر المقرر للاقامة على ضفاف بردى, كما نحصل على سلفة ايتام بحجم مرتبنا الشهري المتواضع–حوالي عشرين ديناراً–لكنه كان يكفي اقامتنا في فندق رخيص ونظيف في المرجة او نسكن عند عائلة شامية تقدم لنا ضمن ما ندفعه لها وجبة غداء وقبل ان نغادر الى اقطارنا نخرج على سوق الحميدية لشراء قمصان واقمشة سورية تفصل منها بذلات بدنانير قليلة، لم يكن هناك صحف كثيرة ولكن الصحف العربية كانت تدخل كل الاسواق العربية وجهاز التلفزيون الوحيد في الفندق كان موضوعا في قاعة الاستقبال ولم تكن هناك ساعات نهار وساعات ليل وانما ساعات قراءة ومراجعة حتى اذا قررت اقتحام العمل الصحفي لم اذهب لتقديم المادة الاخيرة من السنة الرابعة لاتخرج بشهادة جامعية لم اكن احتاج اليها في القيام بعملي.
استعدت كل ما سبق عندما توجهنا الى سوق الحميدية ثم سيرا بين محلاته الملونة حتى الجامع الاموي كم من القرون مرت على بنائه وما زلت تشم جدودك الامويين في حجارته وبواباته ونوافذه، ثم عبر ازقة بالكاد تتسع لمرور اثنين بحثنا عن مطاعم الشام القديمة حيث تجلس وحولك الماء والياسمين والنساء والاطفال والاراجيل والروائح التي تكفي لاشباع جوعك حتى لو لم تأكل، شعرت بذنوب من نوع خاص انني غبت عن دمشق لاكثر من ثلاثة عقود، وقلت للزملاء لتكن رحلاتنا اليها مرة واكثر كل شهر، حيث هناك رائحة مدينة عربية مختلفة، وحيث الامويين يسيرون امامك وخلفك ومن حولك وحيث تتساءل في سرك: ماذا لو كان معاوية بن ابي سفيان يترأس اجتماعا وزاريا او يخطب في فضائية.
كان طول الزيارة يوماً واحداً–لكنه يوم لا يشبه بقية الايام، اذ شعرت انني احتاج الى اسابيع وايام كثيرة، كي اعتذر لدمشق عن عقوقي الذي اذا حاولت التكفير عنه وجدت دمشق لا تذكره وتحضنني بالدفء القومي المفقود.

 

                                                                                                خالد محادين : جريدة الرأي
kmahadin@hotmail.com

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.