تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

ثقافة الأمم بين قيم السلم وقيم العنف

 

محطة أخبار سورية

ظلت معضلة انتشار العنف بجميع أشكاله، إحدى أهم الإشكاليات التي استقطبت اهتمام الباحثين والدارسين في مختلف حقول المعرفة؛ كما شكّل أحد أهم المشاكل التي قضّت وتقضّ مضاجع الفاعلين السياسيين. فرغم ما حققته الإنسانية من تقدم علمي واقتصادي ورقيّ اجتماعي ظل مستوى ممارسة العنف، على المستوى العالمي في تزايد، بالرغم من أنّ بعض المناطق قد عرفت تراجعا لتلك الممارسة الإنسانية، إذ عرفت البلدان المتقدمة مثلا تراجعا في وتيرة العنف السياسي في الوقت الذي عرفته بعض دول الجنوب تكاثر هذا الشكل من العنف، في الوقت الذي تضاعفت فيه أنواع أخرى من العنف "العنف الاجتماعي أو المدرسي أو العنف ضد المرأة" في جل بلدان العالم تقريبا.

 

وتُعرِّف منظمة الصحة العالمية العنف بأنه "الاستعمال المتعمد للقوة الفيزيائية، سواء أكان ذلك بالتهديد اللفظي أو الاستعمال المادي الفعلي، ضد الذات أو ضد شخص آخر أو ضد مجموعة أو المجتمع ككل، ما ينتج عنه حدوث "أو احتمال حدوث" إصابة أو موت أو حرمان أو خسائر مادية... ومن الأشكال الأخرى للعنف هو العنف الرمزي الذي يتجسد في الكلام البذيء أو إطلاق الشتائم بين أفراد المجتمع في الشارع وازدراء الآخر ثقافياً، مثل التهكم على لهجته وطريقة كلامه أو لباسه أو مهنته...

 

وتؤكد أغلب البحوث والدراسات التي اهتمت بتشخيص أسباب العنف، على أن مظاهره ليست بمعزل عن الأوضاع السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة السائدة في المجتمع، فالدولة التي تنددّ بالعنف الذي يُمارسه أفراد المجتمع فيما بينهم وتكافح ضدّه في الغالب، لا تتردّد في ممارسته بدورها بل تُنتج بدورها أشكالا أخرى منه مثل العنف الاقتصادي "ارتفاع الأسعار وحجم الضرائب وتنوعها وغلاء المعيشة"؛ والاجتماعي "انتشار الفساد والواسطة والرشوة"؛ والسياسي "انتهاك الدولة للحقوق المدنية الأساسية للسكان". وتساهم كل تلك العوامل أو بعضها في تفاقم التوتر داخل المجتمع، الأمر الذي يؤدي بالضرورة إلى ردود فعل سلبية عنيفة.

 

فمع غياب الهياكل والمؤسسات التي تسمح للأفراد والمجموعات للتعبير عن آرائهم ومعارضتهم يعيد هؤلاء إنتاج العنف "المادي أو الرمزي" فيما بينهم بأشكال متعددة داخل العائلة أو في أماكن العمل أو مع الجيران والأصدقاء أو الباعة وفي الطريق العام..

 

ورغم أن ممارسة العنف بأشكاله المختلفة تظل نسبية ومتفاوتة "من حيث الحجم والنوع" من بلد إلى آخر سواء أكان بلدا متقدما أو متأخرا؛ فإن بعض الأقلام العربية تنزع باتجاه تضخيم مظاهر العنف في المجتمع العربي معتبرة أنّ الثقافة العربية هي في الأصل ثقافة عنيفة تهدد الكثير من المجتمعات العربية.

 

غير أنّ المتأمل للواقع والدارس للمعطيات لا يسعه إلا تفنيد هذه الآراء التي تعتمد مبدأ الإطلاقية، وذلك على خلفية أفكار استعمارية مسبّقة حاول بعض المستشرقين والمتغربين العرب ترسيخها في سياق ثقافي فكري سياسي متكامل. فالعنف هو ظاهرة عالمية إنسانية، تبدو مظاهره وأشكاله وأحجامه مختلفة سواء بالنسبة إلى بلدان العالم العربي عامة أو لبقية بلدان العالم بغض النظر عن درجة تقدم تلك البلدان.

 

وفيما يخص العالم العربي تؤكد بعض الأبحاث حصول تطور نوعي لممارسة العنف؛ ففي الوقت الذي تراجع فيه عنف السلطة الاجتماعيّة "الأب والأم.. تجاه الأبناء، والكبار تجاه الصغار" والتربويّة "المدرّس والإطار التربوي" كميّا، ارتفعت نسب العنف لدى الفئات المهمّشة من الشباب خاصة، وعند التلاميذ والطلبة "فيما بينهم أو حتى تجاه مدرسيهم". ويمكن في هذا المجال فحص ثلاثة أشكال من هذا العنف تعرف اتساعا ملحوظا في جميع المجتمعات تقريبا.

 

ويتعلق الأول بالعنف ضد المرأة، إذ تشير بعض الدراسات ذات العلاقة بانتشار هذا الشكل من العنف في البلدان العربية، غير أنّ ذلك لا يعني غياب العنف المنزلي وخاصة ممارسة الضرب بأنواعه الذي ظل مستمرّا ومنتشرا مثل بقية الدول، غير أنه يبدو، حسب المختصين، أقل تواترا مما هو موجود في بعض البلدان المتقدمة، ليس فقط بسبب سيادة بعض القيم والعادات الإيجابية في المجتمع العربي بل لأن المرأة العربية أصبحت اليوم أكثر استعداد لحماية نفسها مستفيدة بحملات التوعية "دور الإعلام" بثقافتها وبالقانون وأحيانا بمنظمات المجتمع المدني..

 

صحيح أنّ بعض النساء العربيات ما زلن يتعرضن للقتل من بعض أفراد العائلة "جرائم الشرف" غير أن ذلك يبدو محدودا ويمارس في عدد قليل من البلدان العربية؛ في حين تبدو الأرقام ذات العلاقة بالعنف المسلط على المرأة في العالم مخيفة ومثيرة في نفس الوقت. فاستناداً إلى أرقام الأمم المتحدة، هناك امرأة على الأقل من كل ثلاث نساء "ثلث نساء العالم" تتعرض في حياتها للاغتصاب أو الضرب أو نوع آخر من الاعتداءات، وغالبا ما يكون المعتدي شخصاً من عائلتها. وتشير تلك المعطيات إلى أنّ العنف يمثل أحد الأسباب الرئيسية للوفاة أو العجز بالنسبة إلى النساء اللواتي تتراوح أعمارهن بين 15 و44 سنة. غير أنّ الأرقام تبدو مفزعة أكثر بالنسبة إلى العالم المتقدم، إذ تشير الإحصائيات الرسمية في الولايات المتحدة الأمريكية إلى أن 26 بالمائة من الفتيات القاصرات "دون سن السادسة عشرة" قد اعترفن بأنهن تعرّضن للاغتصاب. كما بينت نفس المصادر أنّ 80 بالمائة من جرائم القتل هي جرائم عائلية.

 

ويشكل البيت "نعم البيت وليس مكانا آخر" مكان حدوث تلك الجرائم العائلية وبنسبة 48 بالمائة. كما تشير المعطيات إلى تعرض المرأة في الولايات المتحدة الأمريكية للضرب في كل 18 دقيقة. ويبلغ عدد شكاوى الاعتداء والتعذيب الجسدي التي ترفعها نساء السويد إلى القضاء سنويا نحو 19 ألف شكوى. أما في فرنسا فقد بينت نتائج سبر الآراء حول العنف المنزلي ضد النساء "الذي أجرته الحكومة الفرنسية على عيّنة من 6970 امرأة" وفاة ست "6" نساء شهريا تحت ضربات أزواجهن. كما تتعرض امرأة من عشر نساء لعنف زوجها. وتعاني النساء اللواتي هنّ دون الـ25 من العمر ضعفي ما تعانيه الأكبر منهنّ سنّا.

 

أما بالنسبة إلى العنف المدرسي فقد كشف تقرير صدر عن منظمة اليونسكو في 10 فيفري/ فبراير سنة 2010 بعنوان "التعليم عرضة للاعتداء 2010" عن تزايد الاعتداءات على معلّمي المدارس وطلبتها في العالم وعن اتساع نطاق الظاهرة بصورة كبيرة مقارنةً بما مضى؛ إذ تم استهداف التعليم فيما لا يقل عن 32 بلداً بين جانفي/ كانون الثاني 2007 وجويلية/ يوليو 2009؛ وتحتل البلدان المتقدمة فيها الصدارة، بل أصبحت الظاهرة من أخطر الظواهر التي تهدد تلك المجتمعات خاصة في حالات استخدام الأسلحة النارية كما هو الحال في بعض المناطق من الولايات المتحدة الأمريكية، أو الاعتداء على المدرسين بالضرب، ناهيك عن العنف الذي يمارسه التلاميذ فيما بينهم لأسباب ذات العلاقة في الغالب بالبيت والأسرة، كما تشير إلى ذلك بعض الدراسات "العقوبات الجسدية والاعتداءات الجنسية والعنف بين الوالدين والطلاق والبطالة..".

 

وتفيد إحصاءات رسمية بأن 450 ألف حالة عنف بين التلاميذ تُسجّل أسبوعياً في مدارس بريطانيا؛ كما يُرجع البعض هذه الظاهرة إلى نوعية الإجراءات المعمول بها في تسيير المدارس التي تشكل عاملا أساسيا لانتشار الفوضى في المؤسسات التعليمية وبين التلاميذ أنفسهم باعتبار أنّ القانون يمنع منعاً باتاً المعلمين والأساتذة من عقاب التلاميذ بدنياً، الأمر الذي يجد فيه المدرّس نفسه عاجزا على اتخاذ إجراءات ردعية إزاء التصرفات غير الطبيعية للتلاميذ الذين يعرقلون السير الطبيعي للدرس داخل القاعات... وكان حزب المحافظين قد وظّف مشكلة تفشي انعدام النظام في المدارس فجعل منها محوراً أساسياً من محاور حملته الانتخابية.. وقد يكون ذلك أحد العوامل التي ساعدت الحزب على الفوز في الانتخابات الأخيرة.

 

لقد شهدت قارة أوروبا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، بالفعل، انحسارا كبيرا للعنف السياسي سواء على مجالها الجغرافي أو خارجه، إذ انعدمت الحروب أو تكاد بين دولها وشعوبها، وتمتعت تلك الشعوب برفاهية كبيرة وحقوق مدنية واسعة سمحت لها بممارسة قناعتها وإنسانيتها بشكل سلمي. كما توقفت الأعمال الإرهابية التي قامت بها بعض تنظيمات أقصى اليسار الأوروبي خلال حقبة السبعينات وأوائل الثمانينات في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا.. غير أنّ أعمال العنف ذات الطابع السياسي لم تتوقف في أي لحظة من اللحظات، فعادة ما ترافق مظاهر الاحتجاج على الأزمات الاقتصادية أو السياسية في أوروبا طابعا عنيفا كما حصل مؤخرا في إيطاليا واليونان..

 

أما في الخارج فكثيرا ما "جرّت" واشنطن "القارة العجوز" لخوض الحروب سواء في أفريقيا أو كما حصل في العراق وفي أفغانستان الآن... وعلى العكس من ذلك لم تتورط البلدان العربية في حروب خارجية أو إقليمية في الوقت الذي سادت في بعضها أشكال أخرى من العنف السياسي تبدو غريبة عن قيم تلك المجتمعات..

 

والحاصل أنّ القول بأن الثقافة العربية هي "في الأصل ثقافة عنيفة" قول غير علمي وغير منطقي، بل هو قول "مشبوه"، لقد توقف العرب ومنذ 1492 على الأقل، عن "كل شيء" تقريبا واكتفوا بالاستهلاك ومواجهة عنف القوى الأخرى ومنها تحديدا القوى الأوروبية التي أخذت وانطلاقا من تلك السنة تباشر عمليات الغزو على أرضية ثقافة النهضة في البداية، ثم اعتمادا على "أطروحات محددة" من ثقافة التنوير والحداثة فاحتل جند أوروبا أوطان الآخرين وقتلوا وسجنوا وأبعدوا ودمّروا.. وعبثوا بكل شيء: الإنسان والطبيعة والثقافة. وعلى خلفية جزء من الثقافة الأوروبية تلك برزت الأنظمة الفاشية والنازية خلال العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي وخاضت الدول الأوروبية الحروب المعاصرة "الحرب العالمية الأولى ثم الثانية" وبعد الخراب قامت أوروبا من جديد لتنصّب نفسها حارسا على قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان..

 

ورغم كل الذي حدث لا يمكن للباحث أنّ يحكم على كل مكونات الثقافة الأوروبية بأنها ثقافة عنف وتدمير، بل ما يجب قوله إنّ كل تراث ثقافي لأي أمة من الأمم يتضمّن بالضرورة قيم العنف كما يحمل قيم الإخاء والسلام ومبادئ التسامح والمحبة، وهو الأمر الذي ينطبق أيضا وبنفس القدر على الثقافة العربية في جميع العصور..

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.