تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

العملاء في لبنان: أسباب وغايات!!

أعلن وزير العدل اللبناني إبراهيم نجار قبل أيام، أن وزارته أحصت /150/  حالة تعامل مع إسرائيل وأعدت ملفاً بذلك أحالته إلى وزارة الخارجية اللبنانية لرفعه الى مجلس الأمن. موضحاً أن «مجلس الوزراء طلب من وزارة الخارجية إعداد شكوى الى مجلس الأمن حول الجواسيس».

هذا الرقم يعتبر كبيرا جداً وخطيراً، قياساً بعدد سكان لبنان وبالفترة الزمنية التي تم اعتقالهم خلالها، مع العلم أن هذا العدد مرشح للارتفاع بشكل كبير في ضوء الاكتشافات التي تقوم بها مخابرات الجيش والأجهزة الأمنية اللبنانية. ويصبح "فحص الدم اليومي" للبعض أمرا ضروريا للتأكد من عدم عمالته.

وفي بلد صغير مثل لبنان، مخترق أمنياً ومخابراتياً، حسب رأي الكثيرين، فإن اكتشاف هذا العدد من الجواسيس يشير إلى حجم الاختراق المخابراتي الإسرائيلي للمجتمع اللبناني المدني والعسكري والوظيفي، حيث أن العملاء ينتمون لكافة أطياف المجتمع ومن كافة طبقاته؛ عسكريون برتب عالية وخفيضة، مدنيون أغنياء ورجال أعمال، وموظفون في قطاعات مهمة أبرزها قطاع الاتصالات الذي كشف حجم الاختراق فيه عن حجم السيطرة المخابراتية الإسرائيلية على المجالات الحيوية في لبنان، وإن عن بعد.

والسؤال الذي يفرض نفسه هو: ما الذي يدفع شرائح كبيرة من المجتمع للتعامل مع العدو، لاسيما إذا عرفنا أن بعض العملاء في لبنان، ساعد في تأمين الدعم اللوجستي للعدو والتجسس لصالحه وتسهيل وتأمين الإقامة لعناصر من مخابراته في لبنان، وتقديم معلومات عن كل لبنان بمرافقه وبناه التحتية وعن جيشه ومقاومته ورجالاته...الخ، مما جعل هذا البلد مفتوحا على كل الاحتمالات والأخطار، وقد تأكد أن إسرائيل استفادت من هؤلاء العملاء إلى حدّ بعيد، بعدما أقروا بذلك عبر إدلائهم باعترافاتهم...

فهل أسس المشكلة تربوية وثقافية حيث هناك ضعف في الشعور بالانتماء الى الوطن وبوجود هوية وطنية واحدة، أم أن الأسباب المادية والفقر هي التي تدفع الناس للعمالة أم أن هناك أسباباً أخرى أشد وطأة وتأثيراً؟؟

في إحدى جلسات الحوار الوطني اللبناني، طرح النائب سليمان فرنجية على طاولة الحوار ورقة عن "مفهوم العمالة والخيانة"، رأى فيها أن العمالة تشكل إحدى ابرز المخاطر على المقاومة والوطن، وطالب بتوحيد الرؤية حولها قبل البدء ببحث الإستراتيجية الدفاعية في مواجهة العدو الإسرائيلي.

هناك بيئة حاضنة للعملاء في لبنان، كما لفت أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله. وهذه البيئة تغذيها مجموعة من العوامل التي تتصل بالقيم الثقافية والأخلاقية والوطنية والاجتماعية والتي أدت إلى السقوط في فخ العمالة للعدو الإسرائيلي.

ولعل أهم وأوضح سبب للعمالة هو عدم وجود هوية وطنية في لبنان وكتاب تاريخ موحد. وهذا ما خلق رؤى متعددة ومتناقضة ومتصارعة حول موقع لبنان والسياسة التي عليه أن يسلكها وحول المقاومة وحول العلاقات الخارجية؛ حيث ما أن تطرح موضوعا في لبنان إلا وتجد أن هناك خلافا كبيراً حوله..

ووصل الأمر بالبعض كالرئيس اللبناني الأسبق أمين الجميّل حدّ القول بأنه كما أن هناك عملاء لإسرائيل فإن هناك عملاء لدول اقليمية أخرى, وغيرها. وبالتالي هناك انقسام وعدم توافق على العدو كما على الصديق والشقيق. وهذا الموقف من العدو الإسرائيلي خطير لأنه ينطوي واقعيا على إباحة التعامل مع العدو، وهو أخطر من العمالة نفسها، لأنه تبرير وتهوين للعمالة. ومن هنا يمكن اعتبار أن عداء البعض للقوى الوطنية في لبنان يدفعهم لقبول فكرة العمالة لإسرائيل لضرب هذه القوى. ويتضح هذا الأمر في  تقاطع مطالب العدو بنزع سلاح المقاومة مع مطالب كثيرين بين المسؤولين اللبنانيين، وهذا ما يعتبر خدمة مجانية للعدو الإسرائيلي.

وفي هذا السياق، رأى الإعلامي شربل الخوري، أن هناك أسبابا سيكولوجية وراء الكم الكبير من العملاء. فالسبب برأيه "هو الشعور المتنامي من قبل شرائح كبيرة في الوطن بضرورة عمل شيء لردع حزب الله وآلته العسكرية والسياسية بعد ان شعروا بالخيبة من سياسة حكومتهم وعجزها أمام الوحش الذي يلتهم الأخضر واليابس مستنداً الى سلاح يحاول تشريعه بشتى الطرق". وهذه النظرة إلى سلاح المقاومة هي بالتحديد التي تغذي العمالة والخيانة للوطن. فإذا كان الخوري قد حمّل سلاح حزب الله مسؤولية انحراف العملاء، فكيف يبرر وجود هؤلاء العملاء وانحرافهم قبل وجود سلاح المقاومة وقبل التحرير. وغني عن القول أن هذه الطريقة التحريضية ضد أطراف في الوطن، سوف تكون لها آثارها المدمرة، وتقود إلى تبرير استخدام أي وسيلة للوصول إلى الغاية المطلوبة بغض النظر عن نبل أو خسّة هذه الغاية. إذن المشكلة في النظرة من قبل البعض إلى البعض الآخر، وإلى الهوية الوطنية والموقف الوطني وكيف يراه كل طرف وأين ومع من يجب أن يكون.

وتظهر هذه المشكلة في ثوب جديد تطور مع الأيام وتلاءم مع الواقع وهو نظرية أن قوة لبنان في ضعفه. وأصحاب هذه النظرية التي أثبتت المقاومة بطلانها وقامت بدحضها عندما هزمت العدو الإسرائيلي، طوروا نظرية أخرى هي نظرية "تحييد لبنان". والمتأمل لهذه النظرية ولواقع لبنان وموقعه الجيوسياسي، يدرك بسهولة استحالة تحييد لبنان عن قضايا المنطقة ومشاكلها وهمومها، وأن من ينادي بهذه النظرية كمن يحرث في البحر. فكيف يتم تحييد لبنان وهو وسط كل قضايا وملفات المنطقة!!

وقد اتخذت قوى سياسية عديدة في لبنان مواقف ملتبسة من العدو الإسرائيلي طيلة العقود الأخيرة. حتى أن مقالات كتبت وكلاماً قيل عبر وسائل الإعلام كان في الواقع تبريرا للرهان على إسرائيل ولانتظار حربها بدافع الحقد على المقاومة وسورية وإيران، وهذا بذاته يعني تهيئة البيئة السياسية والشعبية لهذه القوى لجعلها بيئة قابلة لاصطياد العملاء من قبل العدو.

ولذلك طالب فرنجية أيضاً أعضاء هيئة الحوار التخلي في "أدبياتنا السياسية عن مقولة "الجارتين" كما يصرّ برلماني لبناني على تسمية سورية وإسرائيل..وبالتخلي بالسر وبالعلن عن شعارات تافهة (كالبحر من إمامكم والعدو من ورائكم)، لأنه إذا كان المقصود من العدو هو سورية فالجلوس الى هذه الطاولة أصبح مضيعة للوقت وبحث من غير أفق في ظل منطقين لا يمكن ان يجمعهما طاولة حوار أو هيئة حوار طالما ان هناك رغبة أكيدة لدى احدهم في التقسيم أو التجزئة.

في لبنان لا يمكن تحديد سبب واحد للعمالة. فكل حالة لها سببها. قد يكون اختفاء الرادع الديني أحد الأسباب، وقد تكون الحالة المادية السيئة دافعا وجيهاً للخيانة، لكنها الدافع الأقل الذي ظهر حتى الآن في تبرير العملاء لعمالتهم. وعليه، فقد كانت مفاجآت معظم العملاء في أسباب خيانتهم لا في أسمائهم أو أماكن عملهم.

ولعل الحرب الأهلية الطويلة وانقسام المجتمع اللبناني إلى طوائف متعددة ووجود أحزاب وتيارات سياسية متناقضة والتدخل الأجنبي الطويل فيه ساهم أيضاً في ضعضعة هذا المجتمع وانحلال الكثير من مفاهيمه. وقد حوّل الاختلاف حول موقع لبنان الدولي والإقليمي، وتسطيح المسائل وانتشار مذهب الربح السريع في الاقتصاد لتحقيق الأهداف الأحلام والرغبة في السهر وجمع المال.. وبالتالي اختراق سلّم "القيم" كلياً،... العمالة عند بعض اللبنانيين إلى وجهة نظر.. و"كأن في لبنان طقساً لتمجيد الفساد" كما قال نصري الصايغ.

لقد أصبح المجتمع محكوما بمجموعة مفاهيم وقواعد سلوكية تجعل من الرقي الاجتماعي والمالي بأي وسيلة غاية مشروعة بذاتها. وهذا المجتمع الذي يقبل في واجهته أصحاب الأموال والباذخين في نمط حياتهم الاستهلاكي دون سؤالهم عن مصادر أموالهم، يصبح مجتمعا جاهزاً للاختراق وغير محصن بالمطلق ويسقط الكثير من أبنائه في شبكة الإسرائيلي الذي يستغله ويشغله.

وفي هذا السياق، لابد من الإشارة إلى تعبير جرى تداوله في السنوات الماضية وهو "ثقافة الحياة" وكأن من يسعون إلى الربح والسهر واقتناء المنتجات الأمريكية وجمع المال يعتنقون ثقافة الحياة، بينما أولئك الذين يؤيدون نهج المقاومة ويريدون مواجهة إسرائيل ويريدون "لبنان" قوياً لا يتسوّل على أبواب المجتمع الدولي والمواقف الدولية يعتنقون "ثقافة الموت". مَنْ يريد ثقافة الموت ومَن يحب الموت!؟ ولكن نشر هذه الأفكار يمزّق الشعب اللبناني ويجعله مخدراً ويمكّن من اختراقه بكل سهولة من قبل العدو.

كيف يمكن تحصين المجتمع؟

إن المعلومات الاستخبارية التي يقدمها العملاء تعدّ جزءاً أساسياً من العقيدة الأمنية الإسرائيلية، لأنها تمكّن العدو من الحصول على المعلومة الدقيقة وبجهد بسيط وكلفة قليلة، وتساعده في توجيه الضربات القاصمة لأعدائه (أي نحن العرب)، كما تمكنه من المسِّ بمعنويات دوائر صنع القرار والجماهير العربية. وقد حذر البعض من الاحتفال بالكشف عن شبكات التجسس لأن تحول ذلك إلى مادة للاهتمام الجماهيري يخدم الجهد الاستخباري الإسرائيلي، ويكرس انطباعا بأن إسرائيل تستطيع تجنيد أياً كان في الساحة العربية.

ولذلك، يرى البعض انه لتحصين المجتمع اللبناني ضد الخرق الإسرائيلي له، لابد من الدفع باتجاه قيام هوية وطنية واحدة يكون فيها لبنان الذي يراه الكتائبي والقواتي هو لبنان الذي يراه المقاوم والعوني، ولبنان الدرزي والسني هو لبنان المسيحي والشيعي.. وهذا يحتاج خطابا سياسيا هادئاً ومختلفا يخلق حواراً بنّاء يؤدي الى رؤية واحدة للبنان وتاريخه ومستقبله وموقعه مع الأخذ بالاعتبار محيطه وانتمائه العربي.

ويرى البعض الأخر، أنه ليس ممكناً تحصين المجتمع على مستوى القيم الوطنية والأخلاقية من خطر الخرق الإسرائيلي ما لم تجرِ مكاشفة جريئة حول المراحل السابقة من الخرق الإسرائيلي للبنية السياسية وللمجتمع اللبناني بشكل عام.

وإذا ما أخذ المرء بظروف الاحتلال الإسرائيلي وممارساته على اللبنانيين في الشريط المحتل حيث كان هناك متعاملون مع هذا العدو، فإنه وبعد التحرير لم يعد هناك تعامل بالإكراه والترهيب، بل أصبح التعامل فعلا إرادياً وبالتالي لا يمكن منح المتعامل أي أسباب تخفيفية، بل يجب تطبيق المواد القانونية الخاصة بالجرم تبعا لكل حالة.

ومن هنا يرى البعض أن الأحكام المخففة التي صدرت بحق المتعاملين مع العدو وغياب حكم الإعدام في لبنان ساهما بشكل كبير بفتح باب التعامل لمصلحة العدو ودس الدسائس لديه. كما جعل الاستخبارات الإسرائيلية قادرة على إحكام قبضتها على عدد من القطاعات الحساسة لاسيما قطاع الاتصالات الذي أصبح تحت سيطرتها وتتحكم بتشغيله عن بعد، الأمر الذي جعل الساحة اللبنانية مكشوفة على أكثر من صعيد وفي شتى الميادين.

وفي هذا الإطار طالب الكثيرون الدولة اللبنانية بإنزال حكم الإعدام بحق العملاء الذين ساعدوا العدو باعتبار أن خطر العمالة لا يقل ضراوة عن خطر الحرب العسكرية، وبذلك، يتم تطهير البيئة التي تساهم في إنتاج العملاء في لبنان.

وفيما يؤكد البعض على المعالجة القانونية والقضائية المتمثلة في تشديد محاسبة العملاء، يرى البعض الآخر، ضرورة تحسين مخرجات العملية التعليمية وربط الشباب العربي بالمنظومات القيميّة والأخلاقية المستندة لدين الأمة وإرثها الثقافي والحضاري.

وبالنتيجة، فرغم كل ما تقوم به إسرائيل من جهود في المجال الاستخباري، إلا أنها لم تتمكن من اختراق المقاومة اللبنانية حتى الآن. وقد بقيت هذه المقاومة وما تزال شوكة في حلق إسرائيل، تؤكد لها أن ابتلاع لبنان وحرفه عن خطه العروبي غير ممكن، وأن تحرير بقية الأرض مسألة وقت. وقد فرضت هذه المقاومة "الردع،  و"توازن الرعب" مع إسرائيل المدعومة من أعتى القوى العسكرية والسياسية في العالم، وهو ما يؤكد أن إسرائيل رغم كل اختراقاتها، لم تنجح في قهر الإرادة العربية في المواجهة وثني حركات المقاومة عن مواصلة مسيرة التحرير.

 

 

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.