تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

بهدوء.. عن شهود الزور

 

محطة اخبار سورية

 

يتفق الجميع أن شهادة الزور ليست هواية ولاهي مهنة، في الجرائم الدولية على الأقل، وفي تحقيق أممي كالذي جرى إثر اغتيال الشهيد رفيق الحريري لا يمكن لأحد أن يقتنع بأن شهود الزور الذين ضللوا ذلك التحقيق وأبعدوه عن مساره الطبيعي المفترض كانوا عبارة عن أفراد هواة يعشقون تضليل التحقيق الدولي في الصباح ومشاهدة مباريات كرة القدم أو أفلام السينما في المساء، ولا يمكن لعاقل أن يظن بأن تزييف الحقائق وتقديم السيناريوهات المفبركة والمعدة دولياً واستخباراتياً هي مجرد هواية بريئة «صادف» أن تورطوا بها دون سابق معرفة أو تنسيق أو حتى تمويل وتلقين!!

 

ويبدو أن قضية ما بات يعرف بشهود الزور في جريمة اغتيال الشهيد رفيق الحريري عادت لتفرض نفسها بقوة هذه الأيام بسبب سيل التصريحات والأحداث الداخلية المتلاحقة التي يشهدها لبنان حالياً وهو ما تزامن مع الاستجابة الجزئية من قبل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان لطلب اللواء جميل السيد بالحصول على بعض نصوص تلك الشهادات الكاذبة لمتابعة ملاحقة هذا الملف قضائياً وفق الأصول القانونية، على أمل تجاوز الكثير من العقبات القضائية والسياسية التي لا تزال تعترض وضع هذا الملف في مساره القانوني السليم برغم أن رئيس وزراء لبنان السيد سعد الحريري كان قد أقر، بشجاعة تحسب له، بأن «هناك أشخاصاً ضللوا التحقيق، وهؤلاء ألحقوا الأذى بسورية ولبنان، وخربوا العلاقة بين البلدين وسيّسوا الاغتيال..». ‏

 

فما أهمية هذه القضية وما أبعادها القانونية والسياسية المختلفة؟ ‏

 

ينبغي الإشارة بداية إلى أنه وبعيداً عن السجال السياسي اللبناني المشتد حالياً، والذي هو شأن داخلي محض، فإن قضية شهود الزور تتجاوز الرغبة بمعاقبة من ضلل التحقيق طوال السنوات الماضية وقدم إفادات مختلفة لم تؤد إلى تخريب العلاقات بين سورية ولبنان فحسب وإنما أيضاً إلى إهدار دماء عشرات الشهداء السوريين، ومعظمهم من العمال، الذين تم قتلهم بدم بارد بسبب مناخ الكراهية والعداء الذي تسببت به تلك الروايات الكاذبة.. وبرغم أن العقاب هو جزء أساسي من العدالة فإن القضية هنا تتجاوز هذه الجزئية وصولاً لهدف معرفة الحقيقة في جريمة الاغتيال باعتبار أن من ضلل التحقيق إنما كان هدفه الأساسي هو إبعاد الأنظار عن الفاعل الحقيقي الذي لا بد من أنه يعرفه جيداً، ومن الطبيعي أن يكون استخدم ومول ولقن من قبله. ‏

 

فلماذا يتبرع شخص لحرف مسار التحقيق وتوجيهه في عكس ما هو طبيعي ومنطقي إلا إذا كان الغرض من ذلك هو حماية جهة ما متورطة بجريمة الاغتيال ما يجعله على علم دقيق ببعض أسرارها وخفاياها وهو ما يجعل منه صيداً ثميناً لا غنى عنه لأي جهة تحقيق مهنية وغير مسيسة. ‏

 

وتالياً، فإن التركيز على هذه القضية ومتابعتها وفق الأصول القانونية السليمة هو أمر لا بد منه إن كان ثمة رغبة جدية بمعرفة الفاعل الحقيقي بجريمة الاغتيال بدلاً من توزيع الاتهامات وبث التسريبات بصورة عشوائية مريبة تسيء لذكرى رفيق الحريري وتكاد أن تقتله، في قبره، ألف مرة من جديد. ‏

 

وبرغم أهمية هذه القضية وخطورتها فإن ثمة عراقيل وذرائع قانونية تم التمسك بها لإغلاق هذا الملف بمنطق «عفى الله عما مضى» ومنها ما زعمته المحكمة الدولية بأنها غير مختصة بنظر هذه القضية باعتبار أن ولايتها قاصرة على جريمة الاغتيال فحسب وهذا تهرب قانوني لا يمكن قبوله، ولا الأخذ به باعتبار أن تضليل التحقيق ليس شيئاً منفصلاً عن التحقيق في جريمة الاغتيال ذاتها بل إنه جزء منه وهو مرتبط به بصورة لا يمكن التجزئة بينهما، فتضليل التحقيق ليس جريمة جديدة ولا واقعة أخرى لا علاقة للمحكمة بها خاصة أن بعض شهادات الزور التي لفقت تجعل من أصحابها شركاء حقيقيين وفاعلين أصليين في ارتكاب جريمة الاغتيال ذاتها، علماً أن نظرية المساهمة الجرمية توسع مفهوم المسؤول عن ارتكاب الجريمة لتكون الفاعل والشريك والمحرض والمتدخل والمخفي وتجعل من كل هؤلاء مسؤولين أصليين عن ارتكاب الواقعة الجرمية وتالياً، فمن الخطأ القانوني التعامل مع هذه القضية وكأنها جريمة جديدة لا علاقة للمحكمة الدولية بها. ‏

 

والمريب قانونياً هنا أن المحكمة الدولية ذاتها أكدت أنها غير مختصة بمعاقبة من كذب في الماضي ولكنها ستلاحق وتعاقب كل من سيكذب ويضلل في المستقبل، ما يعني أن المحكمة ذاتها هدمت ذريعتها للتهرب من تحمل مسؤوليتها فإذا كانت تعدّ أن التضليل هو جريمة مستقلة خارجة عن حدود اختصاصها فهذا ينبغي أن يشمل الماضي والمستقبل معاً.. وليس الماضي فقط كما تزعم الآن، ما يزيد من الشكوك حول التسييس المرتبط بعملها. ‏

 

علماً أن خطورة هذه المسألة ترتبط بقضية أخرى مفادها أن القضاء اللبناني كان قد وقع وثيقة رسمية مع المحكمة الدولية تفيد بتنازله عن اختصاصه القضائي السيادي بنظر هذه الجريمة ما قاد لحالة فراغ قانوني فالقضاء اللبناني يعلن عدم اختصاصه بنظر ملف شهود الزور بذريعة أنه تنازل مسبقاً عن اختصاصه للمحكمة الدولية التي بدورها أعلنت عدم اختصاصها بنظر هذه الوقائع بزعم أنها تشكل جريمة أخرى لا علاقة لها بها، وهو ما يقودنا إلى ما يعرف قانونياً بحالة «إنكار العدالة» أي وجود وقائع جرمية لا تقبل النظر بها أي هيئة قضائية ما يعني تعطيل مرفق العدالة وحرمان المتضرر من أبرز حقوقه القانونية والإنسانية وهو حقه في التقاضي. ‏

 

وتالياً، فإنه من الخطأ إقحام ملف شهود الزور ضمن السجال السياسي وتبني مواقف مسبقة منه فقط لأن فريقاً محدداً أو طرفاً معيناً يتبناه، فالتعاطي مع هذه القضية بشكل قانوني محض وبحسن نية سياسية ومهنية قضائية وكفاءة تحقيقية قد يكون مفتاح الوصول إلى الحقيقة التي، وبزعم الوصول اليها، كثيراً ما نسجت أكاذيب في الماضي أساءت للكثيرين وهو ما ينبغي ألا يستمر بعد الآن. ‏

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.