تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

لا إحم... ولا دستور

محطة أخبار سورية

يتداول الأشقاء المصريون العديد من الأمثال الشائعة والمستخدمة في العالم العربي بأسره من دون أن نعرف مصدرها أوحقيقة منشئها ومنها مثل شعبي مضمونه عبارة «لا إحم.. ولا دستور» وأثناء إقامتي في القاهرة لفترة تجاوزت الخمس سنوات كنت مهتماً بالبحث عن أصل ومنشأ هذه الأمثال إلى أن قرأت أنه في أحد عهود الملكية في مصر ألغت الحكومة دستور البلاد ما أثار احتجاجات شعبية ورفضاً عبّر عنه الشعب من خلال نقاشاته وجلساته في المقاهي التي تشتهر بها القاهرة ما دفع الحكومة إلى اعتقال كل من يتحدث عن الدستور الأمر الذي أشعر الناس بالخوف فجعلهم يحجمون عن الجلوس في المقاهي تجنباً للحديث عن الدستور والتعرض لمخاطر الاعتقال، وهو ما أصاب أصحاب المقاهي بخسارة مرتفعة وركود كبير فسعوا لطمأنة الناس بهدف تشجيعهم على العودة لارتياد المقاهي مجدداً وذلك من خلال تكليف شخص من قبلهم بمراقبة مداخل الحارات فإذا أتى رجال الحكومة لاعتقال من يتحدث عن الدستور ُيطلق هذا الشخص تحذيراً متفقاً عليه هو«إحم» فيتوقف الناس عندئذ عن الحديث، ويتجنبون بذلك مخاطر الاعتقال.
 
ولكن يبدو أن الحكومة تنبهت إلى هذا التحذير فباتت تعتقل أيضاً كل من يقول «إحم» ومن هنا أتى مثل «لا إحم.. ولا دستور» تعبيراً عن الحالة التي ُيحظر فيها على الناس الحديث عن قضية ما، لا تصريحاً ولا تلميحاً. ‏
 
ويبدو أن هذا هو حال الأمريكان تحديداً مع الثورة المصرية التي أطاحت بأقرب حلفائهم وأوفى أصدقاء إسرائيل في العالم ، وفقاً للتصريحات الصادرة عن كبار قادة إسرائيل خلال الساعات الماضية، فمن الملاحظ أن جهوداً سياسية وإعلامية كبيرة قد ُبذلت طوال الأيام الماضية لمنع الناس من التفكير أو الحديث عن دور أمريكا وإسرائيل في انهيار نظام الرئيس مبارك ومعاقبته من قبل شعبه بسبب إفراطه في انحيازه الفج لهما على حساب مصالح بلاده الوطنية والقومية. والهدف من ذلك هو السعي لترسيخ فكرة أن لا أمريكا ولا إسرائيل لهما علاقة بما جرى في مصر. ‏
 
وقد لفت انتباهي أثناء متابعة ورصد ما ُينشر على مستوى العالم حول هذا الموضوع بعض المعطيات الفجة حول هذه المسألة. فبعد عشرة أيام فقط من اندلاع الثورة المصرية تجري «مؤسسة پيختر لاستطلاعات الرأي في الشرق الأوسط» ومقرها في مدينة پرينستون في ولاية نيوجرسي الأمريكية ما سمته استطلاعاً لآراء عينات من الشارع المصري خلال الفترة من السبت الموافق 5 شباط وحتى يوم الثلاثاء الموافق 8 شباط حتى تصل إلى بعض النتائج المريبة والتي كان مضمونها أن 37% من المستطلعة آراؤهم في القاهرة والإسكندرية يؤيدون معاهدة السلام مع إسرائيل فيما يعارضها 27 % فقط. كما أن هناك مجرد نسبة 5% الذين يقولون إن ثورتهم قد حدثت لأن حكومتهم «موالية لإسرائيل أكثر مما ينبغي». فيما هناك أقلية صغيرة لا تتجاوز نسبة 8 % تقول إن الثورة الحالية هي ضد نظام «موالٍ لأمريكا أكثر مما ينبغي». ‏
 
وتالياً، فإن النتيجة التي ُيراد فرضها واستخلاصها مما سبق ُتريد أن تزعم بأن الشعب المصري راض عن العلاقة مع إسرائيل وداعم لبقاء تلك العلاقة المميزة معها.. بل والأسخف من هذا الترويج لنسبة مثيرة للتهكم عندما يتم إبراز أن المعارضين لعلاقة أمريكا المميزة مع مصر هم أكثر من المعارضين لعلاقة إسرائيل المميزة مع مصر، وكأن أمريكا مرفوضة من الشعب المصري أكثر من إسرائيل !! وإن كانت النسبة في كلتا الحالتين ضئيلة جداً ولا تتجاوز 8% و5% على التوالي، ما يثير التساؤل عما إذا كان ذلك الاستطلاع قد تم في القاهرة والإسكندرية بالفعل أم في واشنطن وتل أبيب تحديداً!! ‏
 
وبعدها بأيام قليلة، وتحديداً يوم الجمعة الماضي في تاريخ 11 شباط وهويوم تنحي مبارك يكتب الصحفي الأمريكي المعروف توماس فريدمان مقالةً يخصصها لإعادة تكرار أن ما يجري في مصر هو مجرد ثورة أشخاص «يريدون إقرار العدالة الاجتماعية... ومقاومة الجمود الاقتصادي» وهو يخلص في نهاية مقالته إلى نتيجة حاسمة مضمونها بالحرف «أن المصريين لا ُيطالبون بتحرير فلسطين... ولا يتحركون «بدافع تسقط أمريكا أو إسرائيل» من دون أن يكشف لنا كيف استطاع أن يتوصل إلى هذه النتيجة الحاسمة والمؤكدة والتي جعلته ينصّب نفسه متحدثاً باسم ثورة الشعب المصري، وهي الثورة التي لا تزال حتى الآن بدون متحدث رسمي أو قائد أوحد.. ويبدو أن توماس فريدمان قد أراحهم من هذا العبء وتطوع لوجه «واشنطن وتل أبيب» لأداء هذا الدور معتمداً على قدرته «الفائقة »على استخلاص حتى ما لم يفكروا فيه والحديث بما لم ينطقوه على الإطلاق.. بل إنه يكاد يجزم في مقالته، بأن مظاهرات الشعب المصري قد قامت للمطالبة باستمرار احتلال فلسطين وبهدف الدعوة للمزيد من العلاقات الُمميزة مع أمريكا وإسرائيل!! ‏
 
وإن كان فريدمان قد أشار إلى أن محمد البرادعي أخبره أن «العالم العربي اليوم مجموعة من الدول الُمنهارة التي لا تضيف شيئاً إلى الإنسانية أو العلم» وهو يحمل المسؤولية فقط لأنظمة التعليم الرديئة، وُيبشر بحسم أن هذا سيتغير مع مجيء الديمقراطية !! ‏
 
ولا نعلم إن كانت أمريكا وإسرائيل والغرب عموماً سيقبلون الامتثال للديمقراطية العربية فيما لو أتيح للشارع العربي أن ُيجيب عن سؤالين بسيطين مضمونهما: ‏
 
«هل تقبل إقامة علاقات مع إسرائيل أم لا ؟ وهل تقبل إقامة علاقات مميزة مع أمريكا المنحازة لإسرائيل أم لا ؟». ‏
 
وإن كنت أشك في أنهم سيسمحون بمجرد طرح هذا الافتراض الديمقراطي خاصةً أن تعاملهم مع الديمقراطية الفلسطينية التي أثمرت حكومة حماس الُمنتخبة أكبر مثال على عدم احترامهم للديمقراطية وتجاهلهم الخضوع لأحكامها إن كانت تتعارض مع مصالحهم.وإن كان سلوكهم في فلسطين قد تجاوز مجرد رفض الاعتراف بنتائج الديمقراطية الفلسطينية وصولاً إلى فرض عقاب جماعي على الشعب الذي انتخب بديمقراطية عقاباً له على خياراته. ‏
 
والمثير للريبة هنا أنه وبعد أسبوع واحد من اندلاع الثورة المصرية ينظم معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى منتدى سياسياً خاصاً على مأدبة غداء بتاريخ 2 شباط يتحدث فيه مجموعة ممن ُيصنفون بأنهم خبراء في قضايا منطقتنا كروبرت ساتلوف وسكوت كاربنتر وديفيد شينكر ويتم فيه الإعلان بشكل واضح أنه يتعين على المجتمع الدولي أن يشترط على أي حكومة تالية في مصر أن تقوم بالوفاء بتعهداتها الدولية مثل الحفاظ على معاهدة السلام مع إسرائيل. ‏
 
وتالياً، يصبح استمرار العلاقة مع إسرائيل هو شرط مسبق ينبغي فرضه من المجتمع الدولي للاعتراف بأي حكومة مصرية قادمة علماً أنه وخلال هذا الملتقى تمّ التنبؤ بأنه من غير المحتمل أن تلغي القاهرة معاهدة السلام الإسرائيلية- المصرية، «فالأمن القومي المصري مرتبط جداً بها. ومن المرجح أن يؤدي تطلّع مصر إلى تعظيم مصالحها، إلى حفاظها على علاقاتها مع إسرائيل». ‏
 
وهكذا ينتقل استمرار العلاقة مع إسرائيل من شرط مطلوب للاعتراف الدولي بأي حكومة مستقبلية في مصر إلى أمر لازم للحفاظ، في رأيهم، على الأمن القومي المصري وعلى نحو يخالف كل معطيات الأمن القومي المعروفة وكذلك متطلبات الاعتراف بالحكومات في القانون الدولي والتعامل السائد في العلاقات الدولية !! ‏
 
ومن الواضح، أن الغرض من كل هذه الجهود المستميتة المبكرة لإنشاء وترسيخ مقولة «إن العلاقة الحميمة ما بين نظام مبارك وكل من أمريكا وإسرائيل لا علاقة لها بخلعه من قبل شعبه بهذه الصورة» هو تحقيق نتيجتين أساسيتين: ‏
 
أولاهما: طمأنة بقية الحلفاء في المنطقة الذين باتوا يخشون من أن يطولهم ما طال مبارك بسبب علاقاتهم التابعة لأمريكا في العلن، ولإسرائيل في السر أو العلن، وهو ما قد يدفعهم إلى التفكير بتصحيح سياساتهم بما ينسجم مع تطلعات شعوبهم ومصالح بلادهم الحقيقية, ولاسيما أن ما حدث في مصر ومن قبلها في تونس يكشف بوضوح أن الغرب لا يتخلى بسهولة فقط عن أقرب الحلفاء, وإنما يساهم غالباً في دفعهم والتخلص منهم عندما يضعفون، للتسريع بعملية إزاحتهم على أمل المساهمة في إحضار مَنْ سيخلفهم ليواصل مسيرتهم وسياساتهم. ‏
 
وأمّا النتيجة الثانية فهي الرغبة في تسهيل استمرار علاقات مميزة ومريبة كهذه مع أي حكومة مستقبلية بعد إعدادها وإقناعها ، بأساليب ومقالات واستطلاعات كهذه، أن العلاقة مع إسرائيل وأمريكا ليست هي سبب الإطاحة بمن سبقها. ‏
 
ويظل السؤال هل ستتم الاستفادة مما حدث في الماضي لرسم سياسات صحيحة وحقيقية بالنسبة للمستقبل؟ ‏
 
أعتقد هنا أن المعني بالإجابة عن هذا السؤال المستقبلي للاستفادة من أحداث الماضي هو طرفان أساسيان أولهما بعض الحكومات العربية التي يتعين عليها أن تدرك أن شعبها لم يعد يطيق الفقر والبطالة والقمع والديكتاتورية وكذلك أيضاً ارتهان سياسة بلاده لأمريكا ومِن ورائها إسرائيل: وأمّا ثانيهما فهو الولايات المتحدة الأمريكية التي حان الوقت لكي تتعظ أيضاً وتفكر بموضوعية لماذا بدأ التغيير الشعبي بالإطاحة بأقرب رجالها وحلفائها في العالم العربي على أمل أن تدرك حقاً أن لا أحد يرغب في معاداتها ولا التحريض عليها، وأن سبب الجفاء الشعبي العربي لها هو انحيازها الفج والمطلق لإسرائيل التي حان وقت إخضاعها لمنطق الشرعية وحكم القانون. ‏
 
فهل سيستفيد الجميع مما جرى في الماضي لتصحيح العلاقات وتصويب السياسات في المستقبل؟ ‏
 
لا أحد يملك جواباً حاسماً سوى الشارع العربي الذي أثبت، عندما رفع شعاراً حاسماً، مضمونه «انتهى الدرس.. وحان وقت الحساب» أنه وحده مَنْ يملك القدرة على تصويب سلوك مَنْ لم يتعظ.. وتصحيح ممارسات مَنْ لم يتعلم.. ومهما بالغ في العناد. ‏

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.