أميرالاي الحلم والحقيقة

عمر أميرالاي وأنا ما كنا في أكثر الأحيان متفقين، ولكن أحب أحدنا الآخر، والحب يجّب ما سواه، فكثيراً ما كانت تتصارع أفكارنا ولكن في الغالب الأعم كانت تتوافق آلامنا الإنسانية، كان حب الوطن يجمعنا كلٍ على طريقته وأسلوبه.. كنت غارقة بين أكداس من الأوراق المرجعية أصنفها، أفرزها، وأعيد ترتيبها عندما رن جوالي رنة تنبيهية لورود رسالة، ما كنت بعجلة من أمري لمعرفة مضمون الرسالة فما كنت بانتظار أي نبأ، أتممت تصنيف ما بين يدي من أوراق، متعبة كنت حتى العياء مددت يدي التقطت جوالي لأقرأ الرسالة وكنت أعتقدها إحدى الرسائل الدعائية والتي طالما كانت تردني، فتحت الرسالة بلا مبالاة قرأتها شهقت شهقة مكبوتة وسرى خدر في جسدي واعترتني قشعريرة، هنيهات مضت جرتني خارج حدود الزمان والمكان أغمضت عيناي رددت كلمات الرسالة "عمر أميرالاي مات" هكذا دون مقدمات ودون تعقيب فقط عمر مات. بحثت عن أقرب كرسي ارتمي عليه، بكيت وما كنت أعلم بأني ما زلت أملك من الدموع الكثير فقد كنت أظن أن دموعي جفت مع رحيل والدي.. عمر صديقي اللدود مات، عادت بي الذاكرة لسنوات خلت عندما التقيته أول مرة في بيت صديقة مشتركة جمعتنا مع بعض الأصدقاء في باحة بيتها الدمشقي في ظلال شجرتي النارنج والكباد، كان عمر رجلاً أنيقاً، باسماً، هادئاً، عيناه تبحث عن شواطئ عديدة تتراقص بحركات متسارعة فلا يستقر لهما قرار. عمر أميرالاي ربيب الشيخ محيي الدين بن عربي فقد ولد على مرمى حجر من مقامه عام 1944 وتعلم منه ثقافة الحب والتسامح ورفض الفكرة الأحادية، وثقافة الاعتذار النادرة. عمر أممي المنهج والنسب، متعدد الهوية فهو ابن أسرة امتزجت فيها الدماء البشرية ما بين تركي وكردي وعربي وشركسي. ولطالما لاحقه طيف والده الشرطي الشهيد الذي أصيب بطلق ناري أرداه قتيلاً وهو يطارد لورنس الشعلان. عمر كان قليل الكلام يحمل على كتفيه وزر الآخرين، أتذكره وهو يقول: "أنا ابن النكبة وابن النكسة ولكني أيضاً ابن الاستقلال والتحرير"، كان عمر يسارياً مستقلاً لم ينضو تحت لواء أي حزب ولكن الهم الوطني سكنه فمات المتمرد ولم يمت همه.. كان عمر متميزاً فما اختار يوماً السهل وإنما ركب الصعاب والمحرمات فلا محرم في قاموسه إلا القهر والاضطهاد وكبت الحريات، صادقاً في قوله ناقداً لذاته قبل الآخرين. يرفض الشمولية ويعشق الحوار. كان واثقاً من إيمانه قال لي مرة: سورية الله حاميها، فهناك رحمتين أو جهتين ترحمان سورية، الأولى وعي الشعب السوري والخوف من أن تتفكك سورية وتنهار مثل انهيار العراق، ورحمة أخرى هي رحمة أولياء الشام، فهناك 300 ولي في الشام (يضحك) يحمونها، وأنا على ثقة بأن عظامهم ستنهض لتدافع عن سورية ولن تسمح بدخول أية قوة معادية، لذلك عقد هؤلاء (يضحك) اجتماعاً سماوياً وقرروا الاستبسال من أجل حماية سورية وهكذا سورية الله من عنده حاميها. عمر أميرالاي كان واحداً من مجموعة منتقاة مؤلفة من قيس الزبيدي ومحمد ملص ونبيل المالح وهيثم حقي وآخرين. جمعتهم الهواية والاحتراف والوطن والحلم والزمن، عايشوا نكسة 67، وولدوا في سنوات ضياع فلسطين، كانوا أول من بكى سعد الله ونوس ولكنهم حفظوا عنه جملة الشهيرة "نحن محكومون بالأمل" فكان حلمهم الأول تحرير فلسطين  الوطن المحتل وتحقيق وطن العدالة الاجتماعية. كان عمر أكثرهم مبدئية ووضوحاً في الرؤية، لذا اختار الفيلم التسجيلي وسيلته الأساسية في التعبير عن وجهة نظره، وكان يقول الحقيقة دون مجاملة أو تزويق ولا يخشى في الحق لومة لائم، لذا كان بعضهم يراه متطرفاً وشديد الثقة بنفسه إلى حد اعتباره من قبل من لا يعرفه أنه مغرور مترفع عن الناس. ميّزة عمر وهذه المجموعة أنها كانت تحمل الهم الثقافي العام واستطاعت أن تجمع حلقة من كل أطياف اليسار من المسرحيين والشعراء والكتاب والتشكيليين والصحفيين وكبار المثقفين حول مشروع ثقافي عام كان النادي السينمائي أحد تجلياته وليس كلّها. عمر أميرالاي الإشكالي المشاكس، المتمرد على كل ما هو نمطي، ولعل ولادته من عدة أعراق ساهمت في تشكيل شخصيته الإنسانية البعيدة عن التعصب العرقي والديني والطائفي، رحل عن عالمنا دون سابق إنذار، رحل ساخراً من حياة أمضاها وهو يؤكد أن المكان الذي يكون فيه ولادة وحياة وموتاً فهو مصادفة محضة، ويكمل لذلك لا أستطيع أن أبني على المصادفة رؤية أيديولوجية. لا أدري ماذا بعد يا عمر، ولكني أعلم أن الفراق أليم موجع وصعب..

                                                             هند عبيدين