تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

دولة قوية قادرة ثم ديمقراطية

 

الديمقراطية في الشرق الأوسط، نقاش عاد ليتصدر الشاشات و صفحات الجرائد و غيرها من وسائل الإعلام، لمناسبة تصاعد الاحتجاجات في عدة بلدان عربية و سقوط نظامين وفي محاولات لاستشراف مستقبل المنطقة و ما ستؤول إليه الأوضاع و احتمالات نجاح هذه الاحتجاجات أو إخفاقها في تكريس الديمقراطية، و ما إلى ذلك من محاور يستنفر لمناقشتها المحللون و الخبراء و الصحفيون و غيرهم من الوجوه المعروفة و الأقلام المشهورة.

لكن السؤال الأهم في هذا الوقت بالذات هل الديمقراطية نظام متكامل قائم بذاته يستمد القوة من نفسه و يحمي نفسه بنفسه و لا يحتاج إلى شروط معينة تضمن ديمومته، و هل تكفي المطالب الشعبية وحدها للتحول إلى الديمقراطية؟

و للإجابة عن هذا السؤال نستعرض التجربة الديمقراطية في دولتين مجاورتين هما لبنان و تركيا بعيدا عن تقييم الممارسة الديمقراطية الفعلية في كل بلد.

فالنظام في لبنان نظام جمهوري برلماني ينتخب فيه الشعب ممثليه في البرلمان اللذين ينتخبون بدورهم رئيس الجمهورية، و تؤلف الأكثرية النيابية المنتخبة شعبيا الحكومة و تعين رئيسها بالتوافق فيما بينها، و يكفل هذا النظام  لجميع القوى السياسية و الأحزاب فرص متساوية في تولي السلطة و المشاركة فيها، و يفرض الرقابة الشعبية من خلال البرلمان على السلطات الثلاثة التشريعية و التنفيذية و القضائية و الفصل بينها و محاسبتها من خلال تطبيق مواد الدستور و القوانين الناظمة.

لكننا نجد أن لبنان لم ينعم بالاستقرار منذ استقلاله برغم تبنيه الديمقراطية كنظام سياسي يضم جميع مكونات الشعب اللبناني، بل على العكس، كان هذا التنوع السياسي يؤدي على الدوام إلى نزاعات و صدامات عنيفة و دامية، أهم أسبابها فشل هذا النظام في القضاء على الطائفية السياسية لأسباب لا مجال للخوض فيها الآن، و منذ نشأتها تتبادل القوى السياسية اللبنانية الاتهامات فيما بينها بالتخوين و التبعية و المسؤولية عن الأوضاع السيئة التي آلت إليها البلاد، و اليوم ليس استثناءا، ففريق 14 آذار يتهم فريق 8 آذار بالتبعية للمحور الإيراني السوري، و يرد عليه فريق 8 آذار باتهامه بالتبعية للمحور الأمريكي الإسرائيلي، ثم يتحدث الفريقان عن الصراع القائم على الساحة اللبنانية كصراع بين مشروعين، مشروع الشرق الأوسط الجديد بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية و المشروع القومي العربي الممانع بقيادة سوريا و إيران، و كل فريق يتهم الآخر بأنه أداة لتنفيذ احد المشروعين، و كذلك يوجه كل فريق اتهاماته للفريق الآخر بالتبعية لأمريكا أو السعودية أو إيران أو سوريا، و يتبادلون الاتهامات بتلقي إمدادات مالية و عسكرية و حتى استخباراتية من دولة هنا و أخرى هناك، و هذا ينفذ أجندة إسرائيلية و الآخر ينفذ أجندة إيرانية، و كل هذا يدرجونه في إطار الممارسة الديمقراطية و حرية الرأي و التعبير، و النتيجة انعدام الاستقرار و انتشار الفوضى و هروب الأدمغة و الطاقات و الاستثمارات إلى بيئات آمنة و مستقرة.

و النظام في تركيا نظام جمهوري برلماني ديمقراطي، يضمن المشاركة الواسعة لمختلف القوى السياسية و هناك أكثرية حاكمة و أقلية معارضة، و الدستور ينص على إقامة انتخابات ديمقراطية رئاسية و برلمانية و بلدية و غيرها من انتخابات المجالس و اللجان و الإدارات، و هذا نظام مشابه من حيث الشكل للنظام القائم في لبنان لكن النتائج مختلفة.

فنحن لا نسمع - مهما احتدم النقاش بين الأحزاب التركية - اتهامات بالخيانة أو التبعية أو العمالة لقوى خارجية تريد فرض وصايتها أو التدخل في الشأن الداخلي التركي، ليس لان المواطن التركي أكثر وطنية و حبا لبلاده من نظيره اللبناني، و إن لم تنطبق هذه القاعدة على بعض زعماء الأحزاب و القوى السياسية في كلا البلدين، بل لان تركيا بنت دولة تملك من عناصر القوة الاقتصادية و العسكرية و البشرية ما يمكنها من حماية نظامها الديمقراطي و يضمن تداول السلطة ديمقراطيا بين مختلف مكوناتها السياسية، و هذا لا يعني بطبيعة الحال أن التدخل في الشأن التركي مستحيلا، لكنه يشير إلى قدرة تركيا على التحكم بحجم التدخل و منعه، و هذا ما لا يملكه لبنان.

إذا الديمقراطية تحتاج إلى دولة قوية قادرة اقتصاديا و عسكريا و بشريا، و ليست القوة البشرية بمعنى العدد و إنما بمعنى المستوى الثقافي و التعليمي و مستوى الوعي السياسي و الاجتماعي و الحضاري و الإنساني، و يجب أن تكون هذه الدولة قادرة على مواجهة التحديات الاقتصادية و السياسية و العسكرية و الثقافية و منع محاولات التدخل و إسقاطها، وان تكون في نفس الوقت قادرة على تحقيق أهدافها الاقتصادية و السياسية و حمايتها.

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.