تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

أسطورة سورية حية

 

 

قبل سنوات عندما كانت البعثة الأثرية الأميركية تنقب عن مملكة «خانا» التي ازدهرت في الألف الثاني قبل الميلاد، عند ملتقى نهري الفرات والخابور، انحنى عالم الآثار جورجيو بونشيلاتي رئيس البعثة، نحو الأرض وأخذ حفنة من تراب تلك البقعة، وراح يفركه بأصابعه قائلاً:
- «عندما نكون في سورية نَجِدُنَا نمتزج مع التاريخ ذاته، فكل ذرة من ترابها هي حرف مضيء في سِفْرِ الإنسانية الخالد».
كلما راودني الظن بأنني بدأت أعرف بلدنا الحبيب سورية، تتفتح لي دروب الكلام والجغرافيا عن مفاجأة أو مفاجآت تعيدني إلى مربع السؤال الأول. فسورية بلد عريق كالزمن متجدد مثله وهو إلى ذلك متعدد الطبقات والثقافات حتى ليكاد يستعصي على الإفهام.
يوم الأحد الماضي توجهت صحبة الأستاذ نعيم كورية مدير المركز الثقافي العربي في المالكية وعدد من الأصدقاء، إلى قرية الجسر التي تقع في أقصى الشمال الشرقي من سورية. لم يكن سقف توقعاتي مرتفعاً، لأن الحديث دار عن حفل شعبي، ويؤسفني أن أقول إن الكثير من احتفالاتنا الشعبية فقدت عفويتها والكثير من دلالاتها. لكنني في قرية الجسر وجدت نفسي أمام أسطورة سورية حية تتجسَّد، عمرها آلاف السنين.
خلاصة الأسطورة أن ملكاً من ملوك طور عابدين السريانية كان يهزم في كل معاركه مع أعداء بلاده، لذا نذر إذا ما انتصر في معركته القادمة أن يقدم أول شخص يصادفه في طريق العودة قرباناً للآلهة، وتشاء الأقدار أن ينتصر الملك وأن يكون أول فارس يصادفه هو وحيدته ابنته الفارسة الشجاعة حانا. يغتم الأب لرؤية ابنته وعندما يخبرها بنذره تقبِّل يده، وتعلن موافقتها على أن يضحى بها للآلهة، على أن يمهلها أربعين يوماً تحتفل خلالها بالنصر مع رفيقاتها. في النهاية تطلب حانا من رفيقاتها أن يتذكرن تضحيتها كل عام. ومنذ ذلك الوقت تقوم صبايا القرى السريانية كل عام في الأحد الذي يسبق الصوم الأربعيني الكبير، بصنع دمية يلبسنها ثياباً تحملها فتاة عذراء تطوف بها مع صويحباتها على البيوت، لجمع البرغل والبيض والسمن واللحم، وهن يغنين. وبعد الجولة يطبخن الطعام ويأكلن منه تبركاً ثم يقمن بدفن تمثال «الحانو» مع شيء من الطعام وهن ينشدن: (حانو حانو قريثو برثت قاشو ميثو...).
من يصدق أن لدينا في أقصى الشمال الشرقي من سورية أسطورة عمرها آلاف السنين تنبعث حية كل عام؟

حسن م. يوسف   

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.