تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

"الربيع العربي".. يواجه القيظ

 

تونس- محطة أخبار سورية

أنظمة دكتاتورية كانت جاثمة بكل ثقلها على الافئدة انهارت وولت إلى غير رجعة، لتعلن عن انبلاج صبح جديد أشرقت فيه شمس الحرية ولاحت براقة في سماء أفق مليء باحلام  الشعوب المتعطشة للديمقراطية، لكن بين الآمال والواقع فجوة ما زالت متسعة بشكل أغلب الظن أنه لا يمكن التكهن به ولا الحسم فيه، لاسيما مع استمرار التباعد بين الانتظارات الاجتماعية والتهافتات السياسية. هذا بمطلب يناشد وذاك باصلاحات يتعهد، وفي خضم أصوات الطبول المقروعة تبقى التغيرات غير ملموسة والنتائج مبهمة في البلدان التي تظن أنها أقفلت  سجلات الأنظمة الديكتاتورية وانخرطت في مراحل جديدة قوامها الحرية والديمقراطية.

وإذا حاولنا استخلاص النتائج الأولية لـ"الربيع العربي"، فإنها مختلفة عما كان مفترضا في فترة التغييرات الثورية.

الكثيرين يعتبرون أن الانقلابات التي شهدها شمال القارة السمراء (أفريقيا) هي بمثابة الحدث الفارق ليس بالنسبة للشرق الأوسط فحسب، بل للتاريخ العالمي ككل، نظرا لانقشاع ضباب الحكم الفردي الاستبدادي.

ويبدو أن الأمر كذلك فعلا لأن ذلك النموذج الأوحد قد فارق الحياة، لكن لسنا نعرف هل زال للأبد ودون رجعة! وما يدرينا أن الطفيليات التي كانت عالقة بجذوره لن يتمخض عنها أنموذج آخر وبنفس المقاييس.

المشهد السياسي للشرق الأوسط نعم تغير لأول مرة منذ تحقيق الاستقلال في منتصف القرن العشرين. إلا أنه يصعب التنبؤ باتجاه التطور وبثمار المستقبل.

فتونس التي كانت سباقة وملهمة لجميع الثورات العربية تسارعت فيها وتيرة الزمن لكن نسق الأحداث ظل بطيئا يترنح بين الرغبة في الانعتاق والردة إلى الوراء.

فالانظمة القمعية التي عايشها الشعب التونسي على امتداد أكثر من خمسين سنة من تجربة الاستقلال والزعامة البورقيبية إلى مرحلة انقلاب بن علي وسطو الطرابلسية ما زالت تلقي بظلالها على البلاد التونسية في ظل حكومة مؤقتة يقودها عنصر الشيوخ والكهول ويغيب فيها الشباب الذي صنع الثورة واستثمر دماءه فيها، لكن ربيعه العربي مازال لم يطرح ثماره بعد والقيظ يلاحقه بين الحين والآخر..

إلى اليوم مازالت تونس تعيش على وتيرة واحدة قوامها المغالاة في المطالب الاجتماعية واللهث وراء الكراسي والشغف بالسلطة والوله بالحكم والرغبة في الجاه والقتل والتقتيل من أجل الذات ولا غير سوى "الأنا" والبقاء للأقوى! .. صور تتكرر يوميا تلخصها أحداث منطقة المتلوي والسند والنعرات القبلية التي برزت إلى السطح في محافظة قفصة، حتى أن الكثيرين من أهالي المنطقة ممن خسروا عزيزا تحسروا على نظام الزين وتمنوا عودة سياطه التي كانت رادعة ووحدها الكفيلة باخماد هذا الاحتقان الدموي على حد تعبيرهم وإعادة الأمن والأمان للمنطقة.. مشاهد يومية أخرى لاضرابات المؤسسات الحيوية التي تقدم خدمات ضرورية للمواطن، تختلف المطالب فيها بين الزيادة في "الشهرية" أو إقالة موظفا "أرسديا" أي منتمي للحزب الحاكم السابق، وبين هذا وذاك يتناسى أبناء الوطن الواحد أن بلادهم تمر بمرحلة تحتاج إلى الاحتكام إلى العقل والحكمة لضمان سلامة وسيرورة السفينة التي تقلهم جميعا.

برزت أيضا ظاهرة التعددية الحزبية التي قد تبدوا في ظاهرها إيجابية باعتبار احتكامها الى آراء مختلفة ومتعددة تقطع مع نظام الحزب الواحد ، ولكن هذا نفسه غير وارد وقد يكون حلما ميتافيزيقيا لا نجده إلا في المدينة الأفلاطونية الفاضلة، لأن العديد من الوزراء التونسيين ممن كانوا في الحكومة التونسية المؤقتة قبل الحالية لم يرضهم ان يكونوا وقتيين، فقدموا استقالاتهم ليضمنوا ترشحهم في الانتخابات المقبلة، كذلك أغلب هذه الأحزاب التفت حول الثورة ورفعت شعارات تختلف فتتشابه، ولا تخرج عن كونها مجرد كلمات على أوراق، لكن أرض الواقع ما تزال إلى اليوم جدباء اذ لم يتمخض عن هؤلاء أي ثمرة لا لصالح البلاد ولا العباد.

أما على الصعيد المصري فيعتبر علماء السسيولوجيا أن 30 عاما من نظام الحزب والرئيس الأوحد وطقوس السياسة والإعلام وتحالف المال والسلطة، والخضوع للارادات الخارجية  وغياب الحريات الحقيقية وضعف المؤسسات المدنية والحزبية، وتقليدية خطابها السياسي، وعدم إدراكها هي الأخرى حركة التحولات وطبيعتها ومؤشراتها، فإن النتاج الجديد لن يكون معافى كاملا؛ لأنه شبيه بوالده ومن شابه أباه فما ظلم، ويرى المحللون السياسيون أنه من المرجح أن تدفع سيادة الخطاب الدعوي السياسي مصر إلى اتجاهين: الحرب الداخلية أو الحرب الخارجية، ويذهبون إلى حد الاعتقاد أن قوى إقليمية ستفعل ما بوسعها لدفع المصريين إلى الاصطدام مبكرا مع إسرائيل قبل أن تنتبه مصر لنفسها، وقبل أن يدرك الثوريون الجدد حقائق التاريخ والسياسة والاقتصاد، لأن الصدام سيفرض على المصريين لغة سياسية واحدة، وهذه القوى ترى أن هناك رغبة مكلومة داخل مصر وشحنا باتجاه ممارسة الاختلاف، في وقت مطلوب من المثقفين والمفكرين والبناة الحقيقيين بناء نفسية مصر وصوغ اهتمامها ليس في الجانب السياسي فقط، بل التربوي والثقافي والعلمي والإنتاجي، لأن هذه حرب مصر الحقيقية.

ويرى آخرون أن الخطاب الديني هو نفسه مايزال يرتهن إلى العديد من الخطابات الايديولوجية مثل الحاكمية والخلافة والجهادية والتكفيرية وغيرها من خطابات الايديولوجية البعيدة عن وسطية الدين الاسلامي.

كما لم يتخط الخطاب الثقافي ازمات مماثلة نتيجة الصراع السياسي الديني، فالخطاب الثقافي يحمل الغرب مسؤولية دعم الانظمة القمعية لحماية مصالحه في المنطقة وهو تبسيط شديد لمعالجة الازمات، في حين ان الغرب ليسوا مبشرين دينيين ولا هم جمعيات خيرية بل لهم مصالح حيوية في المنطقة يجب حمايتها.

إن التحول في السلطة يحتاج إلى متابعة وقراءة في مختلف السلطات الاجتماعية والثقافية وفي كل المكونات والأطر المختلفة، وفي هذا السياق، يقول كالفن توفلر في كتابه ''تحول السلطة بين العنف والثروة والمعرفة'': إن العصر الجديد يشاد على حرية المعلومات وحرية التعبير وحرية التجارة، وتوقع كالفن أن يشهد العالم متغيرات بحكم منتجات الثورة الجديدة، وتوقع أن تؤدي التحولات في عالم المعرفة والتقنية والثورة إلى نشوء طبقات جديدة غير مألوفة تهدم السلطات التقليدية أو تعمل على تغييرها وتحويلها.

وبناء على ذلك فإن التغيير الحقيقي في الانظمة الدولية لا يحتمل فقط تغيير الأفراد، وإنما التحول الفكري والثقافي والتربوي والتعليمي والتقني، وهو تغيير في الرؤية والأبجديات والسلوكيات والمفاهيم، والتحول الشامل يحتاج إلى فترة من الوقت كي ينضج وكي يتبلور وينمو ويصبح مؤسسات قانونية.

 

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.