تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

المثقف العربي وجلباب السلطة

 محطة أخبار سورية

ان اندلاع الثورة التونسية مازال إلى اليوم محل جدل كبير، خاصة وان شرارتها انسحبت إلى جل الأقطار العربية، وتجاوزت كل توقعات النطاق الفكري للمثقف الذي لم يحمل لواء التكهن بها ولا عناء التلميح إليها صراحة أو ضمنيا، ولم يخامره زمن وقوعها ولا بأي حال من الاحوال، بل وضعته في مأزق كبير يحتمل إعادة تصنيفه وبيان موضعه الحقيقي في التركيبة المجتمعية وفي سلم النخبة.

في السابق كنا نعتقد أن المثقف هو صوت الأمة ولسان شعبها، و العين النافذة الناقدة الفاحصة التي يرى من خلالها المجتمع ما يحدث من حوله من مجريات وأخطار، بكافة أشكالها السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية .. فهو الجندي الذي يقف على ثغرة هامة في بنيان مجتمعه، حين يبصّر ويحلّل ويوضّح الحقائق وينبّه إلى المخاطر.

 لكن الثورة التونسية أحدث رجة في هذه المفاهيم خاصة بعد انكشاف المستور وبيان حقيقة الأنظمة الاستبدادية التي كان أغلب المثقفين في تزيينها وتنميقها واخراجها للعامة في صورة ثلاثية الأبعاد، لا تحتمل أي شك في انها صورة افتراضية لحكام مستبدين يقودون شعوبهم من وراء أبراجهم العاجية.

هذه النخبة التي انسحبت منها اليوم صفة النخبة لأنها لم تكن في ظل تلك الأنظمة تعبر عن واقع الامة ومشاغلها بقدرما كانت تحمل لواء نفسها وذاتيتها المتظخمة، فكانت في النهاية فريسة سهلة لبطانة النظم الاستبدادية ومطيتها التي شرعت من خلالها اللاشرعي وأباحت غير المباح واشتركت معها في اللعبة الاستبدادية، بل وكانت زر التحكم فيها.  

دور هذه النخبة بدا، اليوم للكثير من الباحثين، غامضاً ملتبساً محيّراً مريباً. فهذا المثقف الذي كنا نعتقد أنه «الرائي» في ذاكرتنا الجماعيّة، خانته قريحته وأغرقه ولاءه للسلطة في غيبوبة مسترسلة أعمت بصيرته وأغشت بصره  فلم ير ما رآه الآخرون.. وباغتته الثورة على حين غفلة ومن حيث لا يعلم.

إن المتابع للوضع الثقافي والإجتماعي والسياسي في تونس يكتنه وبصورة جلية تراجع وانحسار دور المثقف في هذا المجتمع، وكل ذلك نتاج سيء لسياسات أثرت سلبا على الواقع الحالي وانطلت ملامح هذا التأثير على المنتوج العددي والنوعي للمجتمع الثقافي، اوكان من المفترض أن يؤدي هذا الضغط على هذه النخبة إلى بروز مقاومات تكسر حاجز الصمت وتكشف الحقائق وتنير الدروب، إذا افترضنا أن الثقافة عامل مؤثر في تغيير الواقع فعلا.

إن انقلاب السلطة على المثقف واخضاعه لكيانها المغلق إشكالية هامة تفترض الغوص فيها بعمق للوقوف عند مكامن الداء وتحرير المثقف من هذه السلطة عبر تقويته من جهة، وخلق نظم اجتماعية واقتصادية تعطيه التوازن في الواقع البشري من جهة أُخرى، وبهذه الطريقة سينطلق المثقف في حركته النقدية والبنائية معاً، وسيتحرّر الفكر من أخطر القيود التي يعاني منها، ولا نعني بذلك أن يكون المثقف إلزاما معارضاً للسلطة،  ـ حتى يكون مثقفاً ويشعر.

إن دور المثقف في سياق العلاقة مع الدولة – النظام، يكمن في الجدليّة النقديّة والتثقيفيّة بينه وبين النظام، أيّ نظام: قبل الثورة أو بعدها. قد لا يغير المثقف الأنظمة، لكنه يشتغل على الإنسان صانع الأنظمة وصانع الثورات.

المثقف قد لا يحتكم على ذخيرة ضخمة من المعلومات المتناثرة في ذهنه تتيح له آليا التفاعل مع جل تجارب الحياة، لكن مع ذلك بإمكانه توظيف ما لدية معلومات في أرض الواقع من أجل إحداث تغيير نحو الأحسن،. وبمعنى آخر، لا يجوز للمثقف الحقيقي أن يكون معزولا عن المجتمع أو أن تكون خياراته الفكرية وتطلعاته موجه ضد المجتمع الذي يعيش فيه. وفي حالة المجتمع التونسي اليوم، يحتاج المجتمع في الوقت الراهن إلى دور قيادي حقيقي للنخبة المثقفة للمساعدة في الخروج من هذا الظرف الدقيق والحساس على جميع الاصعدة.

ومما لاشك فيه ان التحولات التي يشهدها الواقع العربي بحاجة ماسة إلى رؤية استشرافية للمستقبل يتحمل لواءها مثقف متنصل من كل خنوع للسلطة حتى تكون لديه القدرة علي التحليل والتفسير والتنبؤ بما يمكن ان يتحقق وعلى هذا الاساس فإن المثقف العربي له ثلاثة ادوار.. الأول ان يشارك في تسريع الثورة في قطره والثاني أن يمنعها من المراهقة الفكرية. وهنا فإن دوره لابد أن يؤمن التوازن بين اهداف الثورة وامكانية تحقيق هذه الأهداف علي الأرض. أما الأمر الثالث فعليه بناء أسس ودعائم اهداف هذه الثورة. كل هذا يجعل دور المثقف العربي استشرافيا وتنبؤيا إلى أن تتحقق الثورة تغير الواقع الرديء إلي واقع أفضل.

وبالتالي فإن الثورات العربية وان استطاعت أن تقوض انظمة استبدادية كانت جاثمة على أفئدة المجتمعات فإنها مازالت تواجه اخطارا شديدة لعدم وجود اهداف محددة متفق عليها من قبل النخبة التي تمثل الشعوب وتوجه تطلعاتهم، وقد تكون من ثمة النتيجة عكسية تتسبب في اجهاض ثورة الشعوب وطموحاتهم ويتنهار مشروع الديمقراطية وهو في مرحلة البناء الأولى.

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.