تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

الثلاثية المتلازمة


هند نوري عبيدين

ما يجري على الساحة السورية ليس سهلاً، لاسيما وأن المشهد اليومي قد بات يضم الكثير من المؤثرات الدراماتيكية المتمثلة في الحمامات الدموية اليومية، وانفلات الضوابط الدينية والأخلاقية، وخروج مارد المذهبية والطائفية من القمقم، وارتفاع منسوب شهية القتل إلى حد التمثيل في الجثث وترويع المواطنين.

 ولكن كيف حدث كل ذلك؟! ومتى استطاع هؤلاء القتلة امتلاك كل هذا الكم من الحقد والشهية المتعطشة للقتل والدماء؟!.. مع عدم إغفال نظرية المؤامرة، إلا أنه ما كان يمكن للمؤامرة أن تفعل فعلها وتتمكن من هذا التأثير، لولا وجود الأرضية الخصبة والمعبأة سلفاً، والمهيأة لاستقبال ظواهرها السلبية، مع الاعتراف بوجود المعارضة الوطنية الشريفة التي تعارض استشراء الفساد وتعارض الاستبداد، كما تعارض وبكل قوة أي تدخل خارجي مهما كانت صفته بين السوري والسوري. من هنا فإن وعياً نخبوياً على مستوى السلطة والمعارضة بات أمراً ملحاً ومطلوباً أكثر من أي وقت مضى للاتفاق حول مفهومي المواطنة والوحدة الوطنية، لتجاوز المخاطر التي تسعى إلى فتح الأبواب للانزلاق إلى أمكنة لا يمكن العودة منها، إلا بعد دفع فواتير اجتماعية واقتصادية ومالية وحضارية باهظة.

 لذلك لا بد من الحرص عل تعميق مفهوم الوحدة الوطنية والتي تشكل أهم ركيزة من ركائز مقومات الوطن، ومسلمة من مسلمات تطوره وتقدمه، ودليلاً قاطعاً على تلاحم الشعب مع قيادته. إذ تظهر لنا قصة التلاحم بين أبناء هذا المجتمع من تاريخ آبائنا وأجدادنا إلى يومنا هذا. وتعمل قيمة الوحدة الوطنية على إبراز قيمة الانتماء الوطني وجعلها هدفاً يعمل الجميع على تحقيقه والمحافظة عليه.

ويُعرف مفهوم الوحدة الوطنية بأنه: اتحاد مجموعة من البشر في الدين والثقافة والاقتصاد والاجتماع والتاريخ في مكان واحد وتحت راية واحدة. ومن مقومات الوحدة الوطنية نشر المحبة والألفة بين أبناء الوطن، ونبذ العنف والشقاق والخلاف، ونشر لغة المحبة والتسامح والترابط والتكاتف، لأنها جزء مهم من قيمنا الوطنية التي يحتاجها مجتمعنا كباراً وصغاراً، كما تُعد حماية للبناء الداخلي ممن يحاولون هدمه أو إعاقته.

مفاهيم الوطن والوطنية والمواطنة والوحدة الوطنية والأمن الوطني التي تتردّد تكراراً، كلها مفاهيم ملتبسة، فهل الوطن هو الأرض؟ أم هو تصوّر ما وهميّ؟ أم هو حدود مصطنعة أوجدها المستعمر لأغراض تفتيتية وتقسيمية تخدم مصالحه الخاصة؟! وإذا قلنا أن للوطن حدود ثلاثة؛ الحد الأول هو الأرض أو ما يطلق عليه "الجغرافيا" وتتشكل من الوديان والهضاب والسهول الماء والهواء والطبيعة على تنوعها.

أما الحد الثاني فهو البشر أي سكان هذه الأرض الذين يعيشون عليها وفيها تاريخياً. والحد الثالث العلاقة القائمة بين الأرض – الجغرافيا وبين البشر – السكان. وهي علاقة تاريخية منذ زمن الأجداد القدماء وصولاً إلى الزمن الحاضر. وهي العلاقة النفسية والعاطفية التي تصل في بعض وجوهها حد تمييز رائحة التربة وطبيعة الهواء. هي علاقة الارتباط والانتماء والتوحد القائمة بين الحدود. أي الوحدة الجدلية بين الأرض والإنسان، بين البشر والجغرافيا، بين السكان والطبيعة، بكل ما تولده من علاقات وتأثيرات متبادلة بين الاثنين.

 فإنه تبعاً لذلك لا يمكننا أن نعّرف الوطن على أنه حد واحد من هذه الحدود: بل هو مجموع هذه الحدود الثلاثة. في تاريخ الفكر السياسي يتحدّد الوطن على أنه رديف الأمة، انطلاقاً من أنه الأرض التي تواجد شعب عليها خلال عقود طويلة، وأصبحت توسم بسمته (اللغة، الدين، العادات، الثقافة)، وبه أصبحت تُسمّى وطن. فهنا الوطن يكون تفاعل بين الشعب والأرض، في إطار الصيرورة التاريخية، مما يشكّل ما يُعرف بالأمة. ولهذا فإن الوطنية هي سمة الانتماء إلى الأرض، في حين أن الشعور القومي هو سمة الانتماء إلى الأمة. لكن وضع الأمة العربية اليوم اتّسم بما هو شاذ، حيث قُسم الوطن إلى دول، باتت بصيغة ما تُعتبر أوطاناً، انطلاقاً من نشوء الدولة ذاتها وبغضّ النظر عن تاريخية العلاقة بين الشعب الذي سكن الوطن الأساسي الذي هو الوطن العربي. الذي بدوره أصبح شعوباً تأسيساً على الحدود الجديدة التي أتت مع بداية القرن العشرين. وبالتالي نشأت الفرقة بين الانتماء الوطني والانتماء القومي، على الرغم من الوحدة الأصلية التي تجمعهما، وتميّز أحدهما عن الآخر.

 انطلاقاً من أن الشعور الوطني هو ذاك الناتج عن الميل للدفاع عن الوطن في مواجهة خطر خارجيّ، الأمر الذي يفرض أن يكون هدفه تحقيق الاستقلال التام. وهو هنا يجب أن يسمو على التناقضات الداخلية دون أن يلغيها أو يحدّ من فاعليتها. بينما يكون الشعور القومي هو ذاك المرتبط بالسعي لتحقيق الوحدة القومية والنهوض القومي، أي بما هو داخلي، ويحقِّق تشكّل الدولة/الأمة.

 مع ملاحظة أن الشعور الوطني يدمج الأقليات القومية مع القومية الأكبر انطلاقاً من الانتماء إلى الأرض ذاتها، بينما يميّز الشعور القومي بين القومية الأكبر والأقليات القومية، وبالتالي يعطي حقوقاً مختلفة لكلّ منها فيما يتعلّق بما يرتبط بالهوية القومية (أي اللغة والثقافة والعادات). في الوقت ذاته يؤسّس الشعور الوطني لحقوق واحدة تنطلق من المساواة بين المواطنين انطلاقاً من مبدأ المواطنة، الذي هو اشتقاق من مفهوم الوطن، والذي يقوم على تعريف البشر انطلاقاً من انتمائهم إلى الأرض/الوطن. لكنهما يتشاركان في تأسيس مفهوم جديد يجبّ كلّ المفاهيم السابقة لها. فالانتماء إلى الأمة كما إلى الوطن يصبح هو أساس التحديد في المستوى السياسي، في تعريف الشعب.

وبالتالي فهما يعلوان فوق الانتماءات الدينية والمذهبية والطائفية، ليتم تحديد البشر حسب انتمائهم الوطني أو القومي. ليصبح الانتماء الديني أو المذهبي أو الطائفي شأناً شخصياً لا علاقة له بالسياسة. وهنا تبدو المسألة وكأنها مسألة تجاوز لـ "هوية" كانت هي أداة التعريف في مرحلة من المراحل، وتنطلق مما هو مقدّس، - وبالتالي تصبغ البشر بهذا المقدّس وتجعله محكوماً له- إلى هوية تعتمد ما نتج عن التفاعل بين الأرض واللغة والثقافة في إطار الصيرورة التاريخية.

بالتالي أصبح تجاوز الهوية السابقة ضرورياً من أجل تأسيس التفاعل السياسي في الوضع الجديد. خصوصاً وأن الهوية الجديدة تتضمّن حُكماً الهوية السابقة في أشكال مختلفة، منها حرية المعتقد الديني، ومنها الثقافة التي ورثت كلّ قيم الهوية السابقة. إنها إذن، إعادة تعريف للهوية على أسس جديدة، ترتبط بها العملية السياسية، ومنها مبدأ المواطنة الذي هو أساس الديمقراطية، ونشوء الحركات القومية التي تسعى إلى تحقيق الدولة/الأمة. وإذا كان ذلك يتعلّق بتحقيق نقلة في الوعي/الفكر تتجاوز الرؤية القائمة على أساس المقدّس، وتحتكم للعقل والعقلانية، فإنه يفضي إلى رؤية سياسية تحدّد البشر بصفتهم مواطنين.

وهذا برأيي هو الأساس الصلب لتأسيس الدولة/الأمة، وتأسيس الديمقراطية، التي ستكون هنا علمانية مؤمنة. الوطنية إذن هي سمة الانتماء للوطن، وهذا هو المعنى العام لها. لكنها تتضمّن حكماً قيمياً يتعلّق بالموقف من الوطن ذاته، ليس في مواجهة خطر خارجيّ فقط، وهذه مسألة بديهية، لكن أيضاً في الفعل الداخلي الذي يجعل مواجهة الخطر الخارجي ممكنة، أو يؤسّس لانتفائها. بمعنى أن تدمير التكوين الاجتماعي والحراك السياسي، وبناء مجتمع هشّ، كلها مسائل تجعل المواجهة مع الخطر الخارجي مستحيلة، ولهذا فهي مضادة للوطنية. فالوطنية ليست غطاء للنهب والاستبداد والفساد الداخلي، ولا تحتمل هذا المعنى.

إنما هي تحضير وتحفيز كل القوى من أجل مواجهة جادة مع كلّ خطر خارجيّ. دون أن يعني ذلك قبول التدخل الخارجي بحجة النهب والاستبداد، لأن ذلك يعني تجاوز الوطنية بمعناها العام. من هنا كان لا بد من ترسيخ مفهوم الوحدة الوطنية عن طريق: ـ إعادة ثقة المواطنين بمؤسساتهم الوطنية من خلال تطبيق مفاهيم الشفافية وتكافؤ الفرص ونبذ كافة أشكال العنصرية والجهوية والفئوية، وترسيخ مفهوم الديمقراطية والتعددية من خلال رفع سقف الحريات التي كفلها الدستور وتوسيع دائرة المشاركة الشبابية في صناعة القرار، وتوحيد الجهود الوطنية تحت مظلة الأولويات الوطنية، وتوطيد العلاقات بين المؤسسات الحكومية والأهلية. ـ ومن المهم جداً تعزيز المناهج الجامعية والمدرسية بمفاهيم الوحدة الوطنية، والولاء، والانتماء، والمواطنة من خلال مساقات منهجية ولا منهجية جامعية ومدرسية تعنى بالتأهيل الوطني بأسلوب عصري يتناسب مع احتياجات الشباب ويتلاءم مع كافة مراحلهم العمرية المختلفة. ـ تعزيز مشاركة المرأة في الحياة العامة من خلال دعم برامج التوعية التي تؤكد على أهمية دورها التنموي بما يضمن الحد من مفهوم الجندرية وجعلها شريكة في مسيرة ترسيخ الوحدة الوطنية. ـ كما لا بد من إعادة النظر في الاستراتيجيات الإعلامية (المسموعة و المرئية والمقروءة والإلكترونية) وتفعيل دور الإعلام في تعزيز المفاهيم الوطنية لإبراز الدور العربي والإسلامي في ترسيخ الوحدة الوطنية، ولا يكفي إصدار قانون متطور للإعلام وإنما المهم تفعيل الإعلام بما يتناسب والتطور الزماني والمكاني. ـ إيجاد ميثاق شرف تتبناه االمؤسسات غير الحكومية لنبذ العنصرية والطائفية والإقليمية الضيقة. - إعادة النظر في التشريعات الاقتصادية بما ينعكس إيجاباً على المواطن. - إعادة الاعتبار للعمل التطوعي وتشجيعه بحيث يخدم ترسيخ الوحدة الوطنية. - تفعيل مدونة السلوك الوظيفي بما يتناسب مع مصلحة الوطن والمواطن. - التوعية بالمخاطر الخارجية التي تهدد الوحدة الوطنية.

وبحسب المتلازمة الثلاثية التي تقوم عليها الحياة العربية منذ أكثر من قرن من الزمن، «الوطنية والعروبة والدين» ربما نحن اليوم أحوج ما نكون لاستيعاب هذا المزيج من ثلاثية الهوية. لأننا جميعاً نعيش مخاطر التهديد لوحدتنا الوطنية كمحصّلة للمفاهيم والممارسات الخاطئة لكلٍّ من الوطنية والعروبة والدين.

 وقد عانى العديد من البلدان العربية ولا يزال من أزمات تمييز بين المواطنين، أو نتيجة ضعف بناء الدولة الوطنية ممّا أضعف الولاء الوطني لدى الناس وجعلهم يبحثون عن أطر فئوية بديلة لمفهوم المواطنة الواحدة المشتركة.

 أيضاً، اعتقد بعض العرب، خاصّةً ممّن هم في مواقع الحكم، أنّ إضعاف الهوية الثقافية العربية أو الانتماء للعروبة بشكل عام، سيؤدّي إلى تعزيز الولاء الوطني، لكن كان ذلك كمن أراد إضعاف التيارات السياسية الدينية من خلال الابتعاد عن الدين نفسه، عوضاً عن الطرح السليم للعروبة والدين، وبإفساح المجال أيضاً لحرّية التعبير السياسي والفكري لكلّ التيّارات. وهاهي المنطقة العربية الآن تعيش أخطر التحديات على بلدانها وأرضها وثرواتها ووحدة مجتمعاتها، دون أي سياج فكري يحصّن الأوطان أو يساهم في دفع الأوضاع نحو مستقبل أفضل.

 إنّ بلادنا العربية اليوم على مفترق طرق بين واقع الانقسام أفقياً على مستوى الحكومات، وعامودياً على مستوى الشعوب، وبين أمل البناء السليم للأوطان وللعلاقات الإيجابية بين دول وشعوب الأمَّة الواحدة. لكن الخيار في اتجاه الطريق لا يتوقف فقط على وجود الرغبة بل على مدى القدرة، ولن يحصل القرار الصحيح بمجرّد الإعلان عنه بل بالعمل الجاد والفاعل لتحقيقه. وهذا الأمر هو مسؤولية مشتركة تشمل الحكومات والشعوب وكل مواقع الفكر والإعلام والمؤسسات الثقافية والدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. إنّ الفهم الصحيح والممارسة السليمة لـ«الثلاثية المتلازمة» (الوطنية والعروبة والدين) يتطلّب نبذاً لأسلوب الإقصاء والعنف بين أبناء المجتمع الواحد مهما كانت الظروف والأسباب، وما يستدعيه ذلك من توفّر أجواء سليمة للحوار الوطني الداخلي، وللتنسيق والتضامن المنشود بين جميع أبنائه، لاسيما وأننا نعيش أزمةً في الحاضر وخوفاً من المستقبل، في ظلّ عالم محكوم اليوم بهواجس الخوف من الآخر، وبنهج التطرّف في الأساليب والسياسات..

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.