تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

أحمد تيناوي الرجل.. القصيدة.. يرحل فينا






ظهيرة يوم السبت الماضي التقيت بالصديق أحمد تيناوي في غرفة العناية المشددة بدار الشفاء، لم يربكني بترحيبه الودود المهذب الحار كعادته لأنه كان على أبواب الغياب في سبات من الدرجة الرابعة، رغم ذلك فقد قرأت له نصاً كتبته عنه نشر في اليوم التالي قبل رحيله بساعات، ذكَّرت التيناوي كيف اتصل بي يوم الثلاثاء ليبلغني أن موضوع صفحة (جدل) لهذا الأسبوع سيكون عن الندم, وكيف طلب مني، بدماثته المعهودة، أن أشارك فيها بمقال.. قلت للتيناوي إن الندم الماكر قد حوَّل نفسه من موضوع لصفحة (جدل ) إلى وصف حال لعلاقتي به.

قلت للتيناوي: «نعم يا صديقي أنا نادم لأنني لم أتصل بك أكثر، ولم ألتق بك أكثر كي أتزود من أنوار روحك الرحمانية. أنا نادم لأنني أمضيت الكثير من الوقت مع من يزيدون العتم في داخلي, وقصرت بحقك وحقي, يامن كان لقائي بك يضيئني بالحق والخير والجمال».

في تحقيق عن الحصاد الثقافي لعام 2008 قلت للمحررة: إن ديوان أندلوثيا للشاعر أحمد تيناوي هو أهم ديوان قرأته في ذلك العام, مما أثار حفيظة بعض المثقفين الذين لايطيقون المديح, إلا عندما يكون موجهاً لهم. 

والحق أن التيناوي في ديوانه ذاك يذيب الحدود بين الشخصي والثقافي والوطني والكوني, لتصبح القصيدة مزيجاً من قبلة وساحة حرب. واللافت أنه لايواري هزيمته في الحب، بل يفخر بها كجرح في معركة نبيلة، فمن خلال فرادة حبه تتحول هزيمة الشاعر العاشق إلى انتصار للقصيدة : « أعطني قليلاً من الوقت / فربما لم يغلق بائع الورد/ هو يعدني منذ خمسة وعشرين عاماً/ أن تكون الوردة آخر هزائمي» 

في أندلوثيا يعيد التيناوي صياغة العلاقة بين الشرق والغرب التي أشار إليها روديارد كبلينغ من خلال رصد معضلة عاشقين من ثقافتين وعالمين مختلفين: «ميموسا ـ لوثّيا / لم يكن خطأ أن أحبك بهوى شرقي/ وأن أقترب منك بخطوات رجل اعتاد الهزيمة/.. كنت سأخسرك على أي حال،/ فأنا لم أتعلم أن أساوم على غيرتي،/ وأنت لم تتعلمي أن تساومي على حريتك..»

ذات مرة التقيت بالتيناوي فراح يحدثني عن اللطف الذي يكنه لزميلة لنا هاجرت إلى كندا، ففاح عطر المودة الذي كان يضوع من لحظاتهما المشتركة. وبما أنني أستمتع بنقل الأشياء الطيبة للآخرين, فقد كتبت لتلك الزميلة رسالة إلكترونية هذا نصها : 

«الحاضرة (فلانة ) قبل لحظات حقنني أحمد تيناوي بجرعة من السماء, وكنت فيها! وها أنذا أعيد تصويب الجرعة إلى قلبك لعلَّها تتفتح فيه سماء!».

لم يكن أحمد تيناوي متنبئاً ولا قارئ غيب، لكن قلبه الطاهر الرهيف الصادق جعل كلماته في آخر مقالاته, تبدو أشبه بنبوءة تهجس بموته الذي أصبح الآن حقيقة. 

في كتابة أحمد تيناوي يتماهى الشخصي بالعام, حتى تذوب الحدود بين الحبيبة والوطن بين الجسد والتراب يقول : «أكتب وطني، وأرسم بردى حجاباً لقلبي.. وقلبك يشفع لي ببياض يظلّ روحي مطراً.. فأشهد أني أحبك». ويمعن في القول فيصعد بالتماهي بين الحبيبة والوطن إلى مستوى الصلاة: «لأجلك.. ينبت الحب على شفتي بلا حيرة / فأهمس بطهر الدعاء:/ حماك الله يا وطني/ من فتنة، ومن مكيدة/ من جاحد، ومن خبيث/ حماك الله/ من شرّ حقد حاقد وما حقد».

في نثر التيناوي طلاوة الشعر وعمقه وكثافة ظلاله، فكلماته تشف عن قلبه, حتى ليكاد دمه ينزف من بين الحروف. 

خلال مراجعتي لكتابات الصديق الرائع أحمد تيناوي لفتني كم كان يهجس بالموت. لكن اللافت هو أن الموت بالنسبة له لم يكن النهاية, بل محطة في رحلة يكتنفها غموض سحري.

في كل حرف كتبه أحمد تيناوي يتبدى بوضوح مدى انشغاله بالانسان. قبل مدة قرأت نصاً للتيناوي بعنوان أمي، هزني وأبهرني ودفع بحري الداخلي للقفز من عيوني:

في لقاءاتنا،كان التيناوي يتلقاني بابتسامة رحيبة, رحيمة، وبعد أن يعانقني يرمقني بنظرة متفحصة, يمتزج فيها الفضول بالاستغراب بالمحبة، وغالباً ما كان يعيد السؤال نفسه الذي طرحه علي بعد فترة من تعارفنا: «متى ستيأس»؟ كنت أجيبه في كل مرة: عندما أموت! 

في لقاء عابر لنا أواخر العام الماضي طرح عليَّ سؤاله القديم مجدداً: متى ستيأس؟

   يومها قلت له : كيف أيأس من عالم فيه شاعر نبيل مثل أحمد تيناوي؟ 


حسن م. يوسف hmyousef@aloola.sy                                                                                                                               

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.