تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

السوريون.... ولعنة سمك السلمون

تنتشر في معظم عواصم صنع القرار العالمي ظاهرةٌ مثيرة للاهتمام، ظاهرةٌ تشكِّلُ مِدادَ الإبداع والتطور وإحدى الضمانات استمراره حياً إلا وهي ظاهرة « صيادي الرؤوس» (Head Hunting). صيادو الرؤوس هؤلاء هم عصبة من «شذاذ الآفاق الخلاّقين» الذين يتمتعون بنظر ثاقب وحيلة واسعة تؤهلهم من الإيقاع بسلاسة لا تخلو من نُبل برؤوس طرائدهم البشرية، هذا العمل بالنسبة لمشغِّليهم هو السبيل الأمثل لرفد أسواق الفن والرياضة والفكر والسياسة والاقتصاد والأدب بأفضل العقول وأنقى الدماء التي- تبعاً لآلية العمل عليها واحتياجات السوق- تَلِد للبشرية عالماً جليلاً أو قاتلاً مأجوراً.ثلاثية «الصيَّاد- الطَّريدة- المتسوِّق» هذه كانت وراءَ أهم الإنجازات التي عرفتها أوروبا واليابان والصين والبرازيل واندونيسيا والولايات المتحدة في قطاع الاتصالات والمال، هذا إضافة للطفرات التي تم تحقيقها في مجال ليّ عنق القانون الدولي وممارسة السياسة لمصلحة طرف آخر.

تجارة اصطياد الرؤوس تلقى انتشاراً منقطع النظير في الدول النامية (بالميم وليس بالباء) التي كانت مهدَ الأنبياء، هذا الأمر مردّه ليس فقط لأن تلك الدول تزخر بالأدمغة الماسية، بل لأن أولي الأمر هناك لا يصغون لوصية السيد المسيح وبالتالي «يرمون بدرَرِهم أمام الكلاب»، أما بالنسبة لشعوب تلك الدول فالمُبدع ينتمي ـ نظرياًـ إلى سلالة الأنبياء، أما عملياً فتثابر تلك الشعوب على اضطهاد أنبيائها امتثالاً لقول الإنجيل «لا كرامة لنبي في قومه».
لعقودٍ مضَت شكَّلت «الطَّرائد» التي تم اصطيادها من دول العالم الثالث رأسَ حربةٍ لكل الحروب الاقتصادية والعسكرية الناجحة التي شنَّها «المتسوقون» ضد تلك الدول، ولا غرابة في ذلك فرأسُ المال جبان، وبالتالي ما لم يملك أصحابه البنية المعلوماتية اللازمة حول الهدف المُراد إسقاطه فإنهم لا يغامرون برؤوس جنودهم ولا برؤوس أموالهم.
لعل أحد أهم التطبيقات الناجحة لثلاثية «الصيَّاد- الطَّريدة- المتسوِّق» كانت تلك التي تمخضت عن السيد كوفي أنان، فالسيد أنان ليس إلا الطريدة التي اصطادتها مؤسسة فورد فونديشن العاملة لمصلحة متسوقها الأساسي: وكالة المخابرات الأميركية وذلك مذ كان في التاسعة عشرة من عمره (1957)، السيد أنان درس في أفضل الجامعات الأميركية وعلى نفقة الحكومة الأميركية، وبلغ إخلاصه للسيد الأميركي درجة أنه رفض الانضمام إلى أبناء بلده غانا الذين أشعلوا ثورة بقيادة الزعيم نكروما ضد الامبريالية الأميركية (1957)، وكذلك رفض- عندما كان طالبا في الولايات المتحدة (1958-1961)- الانضمام إلى أبناء جلدته الذين نظموا حركة للمطالبة بالحقوق المدنية للسود بزعامة مارتن لوثر كينغ. في حقبة ما بعد الحرب الباردة قام «المتسوق الأميركي» باستخدام المواهب اللافتة «للطريدة الإفريقي» من أجل حلّ النزاعات الدولية التي شهدتها تلك الحقبة وذلك لمصلحة تكريس الهيمنة الأميركية، فكان له الدور البارز في نزاع راوندا (1994) وأزمة البوسنة (1992-1995) ويوغسلافيا السابقة (1999-1997)، وكان الأب الروحي لبرنامج النفط مقابل الغذاء في العراق (1996-2003) الذي أودى بحياة نصف مليون طفل عراقي، ناهيك عن وساطته المشبوهة في كينيا عام 2007 ودوره كوسيط أميركي- أؤكد أميركي- «لحل» الأزمة السورية.
بالرغم من أن سورية لا تنتمي إلى نادي العشرين الكبار (G 20) فهي تُعتَبر- بتقديرنا- إحدى أهم الدول التي تنتشرُ فيها ظاهرة «صيادي الرؤوس»، بل لا نبالغ إن قلنا إن هذه الظاهرة معروفة في بلدِنا حتى قبلَ انتشارها في العالم المُتقدم أو الذي يشق طريقه نحو التقدم. تصيد الرؤوس- ولاسيما الموهوبة منها- حرفةٌ تُمارس في سورية منذ عقود طويلة وعلى كل المستويات، حرفةٌ لا يحتاجُ الاضطلاع بها لتأسيس مكاتب خاصة أو حتى وجود متسوقين، في وطننا «صيادو الرؤوس الموهوبة» يقومون بعملهم بتفان منقطعِ النظير ومن دون أي مقابل، بل أكثر من ذلك، إنهم على استعدادٍ دائمٍ لأنْ يدفعوا منْ جيوبهم لقاءَ القيام بعملهم طالما أن الهدفَ من صيد الرؤوس هو قطعها وليس الاستفادة مما تراكمَ فيها منْ علمٍ وخُبرات غالباً ما تكونُ الدولة بحاجتها وهي مَنْ موَّلت تحصيلها.
إنَهمْ ينتشرون في كلِّ مكان، في الوزارات، الجامعات، قصور العَدل، المؤسسات الحزبية، النقابات...، ولأن الأصيلين من السوريين يعطونَ أفضل ما عندهم في الملمَات والمِحَن ترى «صيادي الرؤوس الموهوبة» يتكاثرون في الأزمات كما الفطور، وكلمَّا كانتْ الأزمة أكثر خطراً أمعنوا بجزّ تلكَ الرؤوسْ والتباكي عليها. في وطني «جزُّ الرؤوس الموهوبة» يُعتبرُ الحرفة الوحيدة التي لا تحتاجُ ممارستها لترخيصٍ ولا تخضعُ لضرائب، ولا نبالغ إن قُلنا إنها باتت «فرض عين» على كلِّ مُتنفذ وصلَ لمنصبه مُتسلقا سلَّم الفساد، منصبٌ سيزدادُ علواً كلَّما تراكمت الرؤوس الموهوبة تحته، «جزَّاز الرؤوس السوري» لا يكرهُ أحد فعشقُه للكرسي ملأ عليه كلَّ جوارحه ولو نازَعَه عليه ابنه منْ صُلبه لانتزعه من بين دفتيه.
«جزُّ الرؤوس الموهوبة» جعلَ منْ «سوريتنا»- أو كاد- بلداً شحّ فيه الإبداع، بلداً لم يُنتج- ومنذ عقود طويلة- فقيهاً قانونياً واحداً من عيار السنهوري، أو عالماً واحداً من عيار زويل، أو مُحسناً متنوراً مثل بيل غيت. في «سوريتنا» لمْ نسمع- ومنذ عقود- بطالب فاقَ أستاذه، فأغلبية الأساتذة في جامعاتنا ومعاهدنا ومحاكمنا ودوائرنا الحكومية لديهم حاسة شمْ شديدة الحساسية تجاه الإبداع، حاسةٌ تفوقُ تلك التي تمتع بها «أبو كلبشة» بزمانه، فهم ما أن يشتمُّوا نبوغاً لدى أحدهم حتى يشعروا بالكرسي يتزلزل منْ تحتِهم وليبدؤوا بعدها سيناريوهات العزل والإقصاء وتكسير المجاديف أو ما يُعرف لدى شيوخ الكار بـ«طقطقة البراغي».
السوريون جميعاً مصابون بلعنة سمك السلمون، فكما يجوبُ السلمون المحيطات تراهم يجوبونَ العالم ويراكمونَ الخبرات والأموال، ولكن ما أن تبلغ خبراتَهم مرحلة النضج وتصبح جاهزة للخَلق حتى يختار السوري العودة إلى مسقط رأسه ليضعَ «بيوضَه المعرفيّة» تماماً كما يفعلْ السلمون حينما يهجرُ المحيطات الشاسعة ليبدأ رحلةً بعكسِ التيّار، رحلةٌ تقودُه إلى قمة النهر الذي ولد فيه ليضع بيوضه، في رحلة العودة إلى الجذور هذه يتكالبْ على السلمون أشدُّ مفترسي الأرض فتكا، فالدببة والنسور والذئاب تترصَدُه عند كلِّ منحدر مائي تماماً كما يترصد الخبراتْ السوريَّة العائدة «جزازو الرؤوس الموهوبة» المكلَّفون أصلاً مهَمة توظيف هذه الكفاءات لتحسين أداء مؤسساتهم. وكما أن مفترسي السلمون لا يأبهون بنُبل الغاية التي دفعته لهَجر عالم المحيطات الشاسعة صوب قمة النهر- أي غاية استمرار النوع وتجدد الحياة- فكذلك الأمر بالنسبة لجزازي الرؤوس الذين لا يعنيهم بشيء مسألة رفدْ الوطن بالخبرات والإمكانات التي تنهضُ به وتحصنه.
الفرق الوحيد بينَ السلمون العائد والسوري العائد يكمنْ في قضية استمرار النَسل من عدمه، فاستمرارية نسل السلمون منذ التكوين وحتى اليوم تشكل دليلاً على نجاح جزء منه في تخطي كل العقبات الكأداء وصولاً لأعلى النهر حيث يضع بيوضه ويموتُ من العناء، على حين أن خواء الأغلبية العظمى من المؤسسات السورية من المبدعين يدلُّ على انقطاع سلالة الإبداع السوري لأن معظم الخبرات التي عادتْ للوطن إما ماتت كمداً قبل أن تضع «بيوضها المعرفية»، أو إنها رجعت من حيثُ أتتْ لتقومَ المؤسساتُ الأجنبية باصطيادها وببيع خبراتها بالعملة الصعبة للوطن سورية.
«جزُّ الرؤوس الموهوبة» صناعة سورية بامتياز، وحدَه المعهد العالي للفنون المسرحية- وأتمنى ألا يخيبَ ظني- قد يُشكل استثناء بدليل أن أي عربي قادرٌ على أن يعدد لك على الأقل اثنين منْ نجوم الدراما السوريّة، على حين تعجزُ أمة العُرب بأسرها أن تُحصي خمسة أساتذة جامعيين سوريين أو ثلاثة محامين أو خبيراً واحداً في أي مجال طبعاً عدا مجال الخبرة العميقة في «جزّ الرؤوس الموهوبة».

     د.عصام التكروري                                                                  

دكتور في القانون العام- جامعة دمشق

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.