تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

سر الخلود

 

أبحث عن الخلود في عالم فان، أبحث عن الخيال.. لم أدر أن الخلود ضرب من المحال.

أهرب من نفسي.. وبؤسي، أذهب إلى أمسي، أحاول استرجاع الزمن الجميل، والهدوء والدعة والأمان. هل ضاع هذا الزمن في زحمة الحياة وهموم الدنيا؟ هل بلغنا زمن الضياع؟

 أهرب إليك تارة، وتارة أهرب إلى عالم افتراضي لا وجود له، عالم لا يعرف الأحقاد والكراهية ووأد البنات، وقصور الحريم وتكميم الأفواه وتكبيل الأيادي واغتيال الآمال والأحلام.

 عالمي الخيال كما أتصوره، لا يقسو على الروح والجسد لا يدمر في لحظات وثوان ما بناه الإنسان خلال مئات السنوات لا ينسف الحضارات ويدنس المقدسات.

 أصطدم بالعتمة في وضح النور والإشراق، أعرف أني تجاوزت الخطوط الحمراء والصفراء والسوداء، وبلغت حدود إقامة الحد.. ففي هذا الزمن المتشح بالسواد ليس مسموحاً إلا بالظلمة والظلاميين.. أما النور والمتنورون فـ «رجس من عمل الشيطان»!

 فمن يحجب عنا نور الشمس وضوء القمر، ويعلق مساحات الأمل، وراح يصنفنا بين أخيار وأشرار، وأصحاب الجنة وأصحاب النار؟ من يوزع اليوم صكوك الغفران وينصب المقاصل والمشانق لكل «المارقين الزنادقة!» لمجرد أنهم يعشقون الحياة، ويطلبون الخلود؟

 من يسرق منا أشعار نزار وأغاني فيروز وأم كلثوم وعبد الحليم وعبد الوهاب؟ من صادر منا سيرة ابن اسحق وابن هشام وتاريخ ابن الأثير ورسالة الغفران ورحلة ابن بطوطة وخريطة الإدريسي ومعجم ياقوت الحموي ويضع سيرة الباطل ورسالة الإجرام وخريطة الأوطان الممزقة ورحلة الموت على الهوية والقتل على الانتماء؟

 من يزرع الموت في المفارق والزوايا والساحات والشوارع والأزقة ليحصد أرواح الناس، ويقطف زهراتنا فلذات أكبادنا، وأهلنا وجيراننا وأهل بلدنا..

 هل بعد كل ذلك نبحث عن الخلود؟ هل نبحث عن الجمال والخيال والغناء والأشعار والأسفار؟

 هل تستحق الحياة كل هذه المعاناة وكل هذا الصبر والألم والدموع والدماء؟

 هل هناك من يقف معي في ساحاتنا وشوارعنا لنرفع الصوت معاً، نحب الحياة والوطن، ونعشق الحرية، نؤمن بإله واحد وبالجنة والنار اللتين عرفناهما من الكتب المقدسة وليس كما يصورونهما لنا وكأنهم سدنتهما.

 كفانا كفراً.. كفانا ظلاماً.. كفانا اغتيال الآمال والأحلام والأوطان..

 دعونا نؤد صلواتنا بأمان في المسجد الأموي وكنيسة حنانيا ونشاهد العروض المسرحية في بصرى وتدمر وقلعة حلب. دعونا نمخر عباب البحار بمراكبنا الفينيقية، نحمل القمح والحب والسلام مع بضاعتنا من الحرير والفضة وأساور الخرز والأصباغ والأواني الخزفية والزجاجية بل حتى الطينية التي حملتها إيبلا في رحمها مئات السنين.

 هذا هو الخلود.. أن ندون أسماءنا في سفر التاريخ المشرق، وليس من صفحات التاريخ السوداء الدامية. الخلود ليس أن نحيا أبد الدهر، بل أن نترك في جدار الزمن نقشاً يذكر الأجيال بنا وبحضاراتنا المتعاقبة.. أثراً يبقى أبد الدهر كسيرة ابن هشام وخريطة الإدريسي ومعجم البلدان وتاريخ ابن الأثير.

 لقد اخترنا الخلود لأننا أبناء أولئك الأجداد الذين نفتخر بهم وبعطاءاتهم.. اخترنا الخلود لأننا أبناء الحياة. وعشاق الإنسانية، ورواد البشرية.

 

 

 

 

 

 

 

 

عصام داري   

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.