تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

من دفتر الوطن - تفضيل الكلاب!

 

تعلمون أننا قد نشأنا على يقين شائع بأن الكلب كائن وضيع ونجس، لدرجة أن الواحد منا عندما يريد أن يعبر عن أقصى درجات احتقاره لغريم له يصفه بأنه كلب! إلا أنني رأيت وسمعت وقرأت، خلال العامين الماضيين، عن أفعال مارس البشر فيها ألواناً من النجاسة والوضاعة تجعل الكلب بالمقارنة معهم يكاد يكون سامياً وطاهراً! حتى أنني بدأت أجد نفسي مدافعاً عن الكلاب!

 

 
وقد اكتشفت أن شخصاً عربياً يدعى أبو بكر محمد بن خلف المزربان- المزربان هو الحاكم على حدود منطقة أو مقاطعة- قد سبقني إلى الحالة التي أنا فيها، قبل اثني عشر قرناً، إذ ألف كتاباً بعنوان: «تَفْضِيلُ الكلابْ على كثيرٍ مِمَّن لبسَ الثيابْ». وكما يتضح للقارئ الحصيف، فإن عنوان الكتاب يلخص موضوعه تماماً، أما أسلوبه فهو أقرب إلى المقامات كونه يجمع بين المحسنات البديعية ومميزات الكتابة الشعبية.
صحيح أن الجاحظ تطرق بتوسع لمميزات الكلاب قبل ابن المزربان بحوالي خمسين عاماً في كتابه «الحيوان» - الذي هو أول موسوعة في تاريخ العرب - إلا أن كتاب ابن المزربان هو أول كتاب يقتصر على هذا الموضوع في الأدب العربي القديم. ولكي لا يقال إنه يهجو أصدقاءه، فقد أشار في مقدمته إلى أنه ألف كتابه نزولاً على اقتراح صديق له، طلب منه أن يجمعَ له»... ما جاء في فضلِ الكلبِ على شِرار الإخوان، ومحمودِ خصاله في السرِّ والإعلان».
لكن غاية ابن المزربان سرعان ما تسفر عن نفسها عندما يشكو: «فساد الزمان وفضل الكلب على كثير من الإخوان» وهذا ما يجعلني أعتقد أن تفضيله للكلاب يتصل بشكل ما بكتابه «ذم الثقلاء» الذي لا يزال موجوداً بين كتب التراث، بعكس بقية مترجماته ومؤلفاته التي ضاعت.
لايخفي ابن المزربان خيبته من البشر إذ يورد قول الشاعر:
«ذهب الملحُ من كثير من الناسِ ومات الذين كانوا مِلاحاً
وبَقِي الأَسمجونَ من كل صنفٍ ليت ذا الموت منهم قد أراحا»
وبعد أن يعدد مثالب ابن آدم، يلتفت للحديث عن فضائل الكلب. يقول: «اعلم أعزَّكَ اللـه أن الكلب لِمن يقتنيه، أشفق من الوالد على ولده، والأخ الشقيق على أخيه، وذلك أنّه يَحرس ربَّه، ويحمي حريمه شاهداً وغائباً ونائماً ويقظاناً، لا يقصِّرُ عن ذلك وإن جَفوه، ولا يخذُلهم وإن خذلوه»
ويروي ابن المزربان حادثة ذات دلالة عن النبي الأكرم صلى اللـه عليه وسلم إذ رأى رجلاً قتيلاً، ولما سأل عنه قيل له إنه سرق شاةً، فوثب عليه كلبُ الماشية فقتَلَه، فقال صلى اللـه عليه وسلم: «قتل نفسَه وأضاعَ دينَه، وعَصى ربَّه عز وجل، وخان أخاه» ثم قال صلى اللـه عليه وسلم: «أيعجز أحدكم أن يحفظ أخاهُ المسلمَ في نفسهِ وأهلهِ كحفظ هذا الكلبِ ماشيةَ أربابه»!
ويروي ابن المزربان قصصاً عديدة عن وفاء الكلاب فيتحدث عن الكلب الذي جعل يضرب على قبر صاحبه حتى مات.
ويورد قصة شاعر يلوم صديقه الذي خذله فيتمنى لو أنه كان كلباً!
«إن سُؤلي وبُغْيتي ومناي أن أراك الغداةَ كلباً سويّا»
ويحكي طائفةً من القصص المؤثرة التي ينقذ فيها الكلب صاحبه من الموت: طمع رجل بمال رفيق سفره فشدّ يديه إلى رِجليه وأوثقه كِتافاً ورمى به في واد، وأخذ كلّ ما معه ومضى، فصار كلبه يحضر له كل يوم رغيفاً إلى أن انتبه أهله للأمر فجاء إبنه وأنقذه.
ولا شك أنكم سمعتم قصة الرجل الذي ظن أن كلبه قد أكل ابنه الصغير عندما رأى خشمه ملوثاً بالدم فقتله ليكتشف تالياً أن الكلب أنقذ ابنه من أفعى سامة.
ولعل أغرب ما أورده ابن المزربان قصة الحارث بن صعصعة الذي خانه نديمه مع زوجته فوثب كلبه عليهما وقتلهما، فلما اكتشف الحارث حقيقة ما حدث هجر من كانوا يعاشرونه واتّخذ كلبه نديماً وصاحباً، وقال: «سأجعلُ كلبي ما حييتُ منادِمي/ وأمنحُه وُدِّي وصفوَ خليلي».
لذا يرى ابن المزربان أنه من الخطأ وصف الصديق الخائن بالكلب ففي ذلك شتيمة للكلب لا يستحقها. وهذه وجهة نظر لم أكن أظن أنني ساحترمها يوماً!
 
                                                                                    حسن م.يوسف
 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.