تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

سباحة متواضعة في شواطئ اللغة..



شبَّه كثيرون اللغة العربية بأنها بحر.. ومنهم شاعر النيل حافظ ابراهيم.. وقوله في قصيدة ما تزال متداولة: "أنا البحر في أحشائه الدرُّ كامنٌ... فهل سألوا الغوّاص عن صدفاتي؟"... ومن الطرائف، كما كتب عنه: "إن شاعر النيل ولد فوق مركب (الأصح: زورق) كان راسياً في (بحر) النيل، أمام قرية (ديروط) في محافظة أسيوط... وأخوتنا المصريون يسمون النهر العظيم، الذي يكسر صحراء بلادهم، بالبحر... وكان الأجدى بالشاعر أن ينسب اللغة العربية إلى المحيط.. فمن أحاطوا باتساعها قلائل، ومنهم أصحاب المعاجم.. كمثل الصاحب بن عباد.. وسواه..
ولست بصدد المعاجم، إذ لا بد من عودة مفصلة لها... إنما بصدد لغة لا يكاد يلم بتفاصيلها الدقيقة إلا المختصون، وهم من الندرة... إنما قصدت هنا بعض ما يلزم الكاتب الأديب من لغة سليمة.. ولا أدعي أني، في كتاباتي، لم أرتكب أخطاء، سواء في قواعد اللغة، أو في التعبير، لكني اعترضت على من خطأني في بعض ما كتبت، من دون مجافاة لذوق القارئ الحصيف... وعلى سبيل المثال: وضعت عنوان: (أولاد العنزة) لقصة لي، فازت بالجائزة الأولى على مستوى العالم العربي (مجلة العربي الكويتية).. وانبرى لغوي خشبي فخطّأ عنوان القصة.. وحسب التزامه الشديد بكلام المعجم، كان عليّ أن أعنون القصة بــ (أولاد العنز)!.. من دون حسابات، لأي تطور فرضته الذائقة، وسيرورة الزمن.. وجنوح الألسنة عن ماهو جاف خشن، إلى ما هو أسلس وأرقّ..
وأتذكر هنا لغوياً، لا يشق له غبار.. زاملته في صحيفة تشرين لأكثر من عشرة أعوام، واعترفت به معلماً، (رحمة الله عليه).. خطّأ جيلاً، وأجيالاً قبلنا بقليل، أوبعيد.. نقرأ (على سبيل المثال): "يتشرف المركز الثقافي (س) بدعوتكم إلى (أُمْسِيَة) للشاعر فلان الفلاني.." ..والصواب (حسب رأي معلمي): (أُمْسيِّة)، بشدّة فكسر تحت الياء!.. ومثلها: (أُدعيِّة، وأُحجيِّة، وأُلهِيَّة – من اللهو-)... إلخ... وهذا يخالف طبيعة لسان العامة، وربما الخاصة أيضاً.. وكل من ينحو نحو الأسهل، والألين في اللفظ..
لكن التساهل في اللفظ الشفاهي (العامي) غير مقبول في الكتابة الأدبية.. وخاصة في اللغة العربية.. واللغة العربية (حسب يقيني)، هي من أكثر اللغات دقة في التعبير.. حيث المترادفات تكاد تكون معدومة فيها.. ومن أسف أن المعاجم العربية أهملت هذه الفوارق.. وبالتالي، يشرح المعجم (أي معجم) كلمة (سار) بمعنى: (مشى).. و(مشى) بمعنى سار وواضح أن المرء يمشي على قدميه، في حين أن السير ممكن على دابة، أو في سيارة، أو قطار..
ومن عجب أني قرأت للغوي فاضل (فتوى) تقول: يمكن أن يحل حرف جرّ بديلاً عن حرف جر آخر.. وهذا كلام غير سليم.. ويكفي المرء أن يعود إلى أي من المعاجم، وينظر في وظيفة أي حرف جر (الباء، مثلاً) ليدرك الدقة في اللغة العربية... ومن الأمثلة قولهم في الصحف: "حضر المباراة ما يزيد عن عشرة آلاف متفرج"... والصحيح: (ما يزيد على..).. إذ أن استعمال (عن) يكون للدلالة على القلة.. (هو يقلُّ عن كذا)..
وشائع في المدارس أن يسأل المعلم تلميذه: "هل أنت من كَسَرَ زجاج نافذة الصف يا سعد؟".. ويجيب سعد: "كلاّ يا أستاذ.. مَن كسرها هو سعيد"... و(كلا) النافية، تستخدم للردْع، أو الزجْر.. كقول جرير:
"لم يخزِ أوّلَ يَربوعٍ فوارسهم.... ولا يُقالُ لهُم: كلاّ، إذا افتخروا"... وكان من التهذيب أن يردّ سعدٌ على معلمه بــ (لا) احتراماً لمقام معلمه!... ومثل ذلك.. الجواب بــ (نعم)، و (بلى)... فكلا الجوابين له وظيفة، تختلف مسافة، الواحدة عن الأخرى...
وأذكر من الطرائف أن سيدة الغناء العربي أم كلثوم، كانت ذوّاقة للغة العربية.. وكثيراً ما طلبت تبديل كلمة بكلمة مطابقة للوزن في قصيدة تغنيها... وقد شَدَت برائعة الشاعر أبي فراس الحمداني، تلك التي يقول مطلعها:
"أراك عصيَّ الدمعِ شيمَتُكَ الصبْرُ..
أما للهوى نهيٌ عليكَ ولا أمرُ...
(بلى)، أنا مشتاقٌ، وعنديَ لوعةٌ
ولكنَّ مثلي لا يُذاع له سرُّ"...
وقد طلبت أم كلثوم من الملحن (أظن أنه رياض السنباطي) استبدال كلمة (بلى) بــ (نعم)... وأخطأت، لأنها، وإن كانت سيدة في الغناء، فهي ليست كذلك في أفانين اللغة العربية!... فــ (بلى) حرف جواب يأتي بعد النفي، فتجعله مثبتاً.. مثل: " أما جاء أخوك؟".. والجواب: (بلى)... وسؤال: "هل أنت مشتاقٌ؟".. جوابه: "نعم...".. وفي محكم التنزيل، قوله تعالى في سورة المـُلك: ((ألـَم يأتِكُمْ نذيرٌ* قالوا بلى قد جاءنا نذيرٌ))...
وقول جميل بثينة:
"لياليَ أنتم لنا جـــيرةٌ.... ألا تذكرين؟.. بلى، فاذكري"...
وقول ابن الرومي:
"وما ازداد فَضلٌ فيكِ بالمدحِ شُهرةً..
بلى، كان مثلَ المِسكِ صادفَ مـِخْوَضا"
(المِخْوض: ما يحرك به الطّيْبُ)..
وعود على بدء.. اللغة العربية محيط، وليست بحراً.. وما من مدّعٍ يستطيع الإلمام بأدواتها وشواردها.. اللهم، إلا من نذر عمره وجهده لها..
ولا أدعي أني من السابحين المهرة في لجة محيط لغة، أعتقد أنها من أدق اللغات في العالم.. إنما أنا سابح على شاطئ بحر.. وإن تجرأت، فجرأتي متأتية من وجود سابحين منقذين من حولي..

                                                                          وليد معماري

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.