تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

.. حـدّثَ الـكنديُّ... قـال

 

 
 
 
 
 
وممّا حدّثَ، فقال: «في الأولى بعد المئة الثامنة للميلاد ولدتُ في الكوفة، ثمّ انتقلتُ إلى بغداد، فعُنيَ بي المأمونُ فالمعتصم، وأوكلَ الأوّلُ أمرَ بيت الحكمة إليّ، أوّل دار للترجمة في تاريخ العرب، واختارني الثاني مربّياً لأبنائه، وكنتُ الخطّاطَ الخاصّ للمتوكّل، ثمّ في عهده تعرّضتُ للضرب، وصودرتْ كتبي. وفي بغداد، وفي عهد المعتمد، ووحيداً في بيتي، لقيتُ وجه ربّي، في الثالثة والسبعين من المئة الثامنة للميلاد».


وممّا حدّثَ يوسفُ، فقالَ: «اخترتُ، ورهفَ، مشفى الكنديّ الجامعيّ في حلب للإقامة فيه ومتابعة اختصاصيْنا فورَ تخرّجنا في الكلّية. هي في أمراض الدم والأورام، وأنا في الجراحة العامّة. ولم يكن خيارنا المشترك بسببِ عشقِنا للكنديّ، الفيلسوف، والطبيب، والموسيقيّ، وعالم الدين، والرياضيات، والفيزياء، والفلك، بل أيضاً بسبب بناء المشفى على تخوم حلب من جهتها الشمالية نحو الشرق. كانت رهف قالت لي: هنا، هواءُ الرقّةِ والفرات أقربُ إلى روحي، وإنْ كانتْ الرقّةُ، وإنْ كانَ الفراتُ، في روحي دائماً. وكنتُ قلتُ لها: هنا، هواءُ حلبَ أنقى، وإنْ كانتْ حلبُ في روحي دائماً. وتابعتْ: كما أنتَ في روحي دائماً، وتابعتُ: كما أنتِ في روحي دائماً».
وممّا حدّثتْ رهفُ، فقالتْ: «كتبَ الكنديُّ ما يزيدُ على مئتين وستين كتاباً، اثنان وثلاثون منها في الهندسة، واثنان وعشرون في الفلسفة والطبّ، وتسعةٌ في المنطق، واثنا عشرَ في الفيزياء ولم يبقَ ممّا كتبه سوى ثلثه، أتلِفَ بعضٌ منه في عهد المتوكل وبعده، وعلى بعض آخر منه أتى اجتياحُ المغول لبغداد. ومن العرب والمسلمين كانَ الكنديّ أوّلَ مَن وضعَ قواعدَ للموسيقا، وعالجَ المرضى بها».
وممّا قرأتُ من أوراق كانت نجتْ من أوّلِ ورمٍ لسرطانِ الظلامِ الذي طالَ ريفَ حلبَ، وامتدَّ بعدَ وقتٍ قصيرٍ ليبلغَ بناءَ المشفى، وكانت بخطّ رهف: «أربعةٌ روحي، أنتَ، والرقّةُ، والفراتُ، وهذه الأوراقُ التي لا بدّ ستكون لكَ يوماً»، وممّا قرأتُ من أوراق كانتْ بخطّ يوسف: «أربعةٌ روحي، أنتِ، وحلبُ، والقلعةُ، وهذه الأوراقُ التي لا بدّ ستكونُ لكِ يوماً». وممّا كنتُ قرأتُ ليوسفَ: «وفي اليوم السابع استوى على العرش، ثمّ قالَ لحنطتك: كُوني. فكنتِ، فاكتملَ الخلْقُ». وممّا كانتْ رهفُ ذيّلتْ ما كانَ يوسفُ كتبَ: «فلمّا رأيْنَهُ أكبرْنَهُ، وقطّعنَ أيديهنَّ، وقُلنَ حاشَ لله ما هذا بشراً، إنْ هذا إلا ملَكٌ كريم».
رهفُ ويوسفُ كانا حكايةَ الحكايات في الجامعة. جمعتهما معاً، وأولاً، كلية الطبّ، ومن ثمّ مشاركاتهما في ملتقيات الجامعة الأدبية. كانت رهفُ تكتبُ القصّةَ، وكان يوسفُ يكتبُ الشعرَ، وكانا عاشقين استثنائيين في زمنٍ متورّم بالبلادة. لم يكن أحدهما يفارق الآخرَ، من المحاضرات إلى الجلسات إلى المكتبات.
وممّا عرفتُ من يوسفَ ورهفَ، قبلَ أن يختطفهما سرطانُ الظلام، أنّ مشفى الكنديّ كانَ أكبرَ مشفى للأورام السرطانية في الشرق كلّه. أحْدثَ في الثالثة بعد الألفيْن، وفور افتتاحه كان يضمّ ست شُعبٍ طبّية، وأجهزة حديثة، وما يزيد على ستمئة وتسعين سريراً، ومئة طبيب، ومئتين وعشرين ممرضة، وأربع عشرة غرفة عمليات. وممّا عرفتُ بعد أن أتى سرطانُ الظلام على المشفى كلّه أنّه، قبل نحو سنتين ونصف، تمّت توسعة المشفى بتكلفة تزيد على أربعمئة مليون، فأضيفتْ إليه أجهزةٌ حديثة، وما يزيدُ على مئتي سرير، ووحدتان جديدتان لأمراض الأورام، وصيدلية خاصة بأدوية السرطانات، وقسم للإسعاف والطوارئ، وغرفة عمليات وعناية مركّزة، وقسم لاختصاص الأمراض الداخلية والجراحة وثانٍ للأطفال، وثالث للحروق والضمادات والجراحات ومعالجة التشوهات، وقاعة حديثة للمؤتمرات.
وممّا حدّثَ الكنديُّ، فقالَ: «خبرتُ علوماً كثيرةً، وقرأتُ كثيراً، وما خبرتُ في علْمٍ، وما قرأتُ في كتابٍ، ما بلغَ، ويبلغُ، سرمدي من أخبار العربِ في أعلى إفريقية، وبلاد الشام»، وتابعَ، وعلى الباذخ البياضِ في لحيته يُساقطُ دمعٌ هتونٌ: «ويلٌ لأمّةٍ يقتلها أبناؤها. ويلٌ لأبناءٍ يقتلونَ أوطانَهم».

                                                                         د. نضال الصالح

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.