تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

غزوان زركلي: عازف البيانو الذي"عاقبته"البيروقراطيّة

مصدر الصورة
صحيفة الاخبار اللبنانية - sns

لا يُخفي عازف البيانو السوري، سخطه من البيروقراطيّة التي أقصته عن «المعهد العالي للموسيقى» في سوريا. في رأيه، لم يعد الاحتجاج الصامت مجدياً، لهذا يتحدّث عن أحلامه بتطوير المعهد بروح قتاليّة. بعيداً عن بعض معاركه الخاسرة، ربح ابن العائلة الموسيقيّة جولات كثيرة، أبرزها إثبات نفسه موسيقياً عالمياً

كأنَّ قدر المبدع السوري النفي والإقصاء والتجاهل، فحالما تبزغ موهبة استثنائية ومفارقة تحارَب وُتعاقب بشدة. كان محمد الماغوط قد اختزل هذا الواقع بعبارة مؤثرة «لا تمرّ موهبة من دون عقاب». مأساة المؤلِّف الموسيقي غزوان زركلي تلتقي في تفاصيلها مع مآسٍ مشابهة، عبرت الجحيم عينها: من يتذكر اليوم لماذا هاجر الموسيقيّون نجمي السكري، أو نوري رحيباني، أو عابد عازرية؟ مأساة تتكرر في حرب معلنة بين إداريين ومحترفين في متاهة تنتهي بالنبذ لمن يرغب في تأصيل الذائقة الموسيقية علمياً.
غزوان زركلي عازف البيانو المعروف عالمياً، وجد نفسه منفياً في ألمانيا بعد مكابدات طويلة في العودة إلى البلاد. هذا الواقع المؤلم قاده إلى التفكير في الاستقرار في المنفى نهائياً، بعدما وجد كلَّ الطرق مسدودة بوجه مقترحاته في تطوير التعليم الأكاديمي. بدأت المشكلة مع الموسيقيّ الراحل صلحي الوادي، الذي تربّع على عرش المعهد العالي للموسيقى أربعة عقود متواصلة، لتستمر إلى اليوم مع سلالة جديدة من الإداريين. «عملي الاحترافي يمثّل تهديداً لهؤلاء» يقول. ويضيف محتدّاً: «الاحتجاج الصامت لم يعد مجدياً، ولا بد من قول الأمور بصراحة».
قبل سنوات، وافق زركلي على العودة إلى سوريا بناءً على دعوة رسمية من وزارة الثقافة ورغبتها في استعادة الخبرات المهاجرة، وذلك للتدريس في «المعهد العالي للموسيقى»، وكان في ذلك الوقت قد استقر في ألمانيا بروفسوراً في معهد «فايمار». اعتبر الدعوة اعترافاً بأخطاء قديمة، حان وقت تصحيحها. لكنّه لم يصمد طويلاً أمام المطحنة البيروقراطية، فحالما حاول تغيير مناهج التدريس في المعهد ــــ بما يواكب ما هو حاصل في معاهد العالم ــــ جوبه بالرفض. وإذا بالديناصورات النائمة تستيقظ من سباتها لتلفظه مرة أخرى خارج «نعيم» المعهد، فما كان منه إلا أن غادر إلى مصر هذه المرّة، بصفة خبير في مادة البيانو في كونسرفتوار القاهرة.
بعد عودته إلى دمشق، ابتعد غزوان زركلي عن أجواء «المعهد العالي للموسيقى» ومشكلاته واكتفى بالمشاركة في المهرجانات الدولية، وإقامة أمسيات خاصة. كما انخرط في التأليف الموسيقي، لينجز مقطوعات وألحاناً بروحٍ شرقية، مستغرباً انصراف المعهد عن الموسيقى الشرقية: «هل نحتاج حقاً إلى خبراء في آلة العود من أذربيجان؟»، ويسترسل قائلاً: «هؤلاء الخبراء ألغوا ربع الصوت في العزف على العود، لأنهم يجهلون تاريخ العود وإمكاناته، ما انعكس على ثقافة طلاب المعهد أنفسهم». ويمضي في نشر الغسيل الوسخ: «هل تتصوّر مؤلفات فيفالدي على العود والقانون؟ هذا ما يفعله الخبراء في ما يسمى الموسيقى الشرقية في المعهد».
نكاد نختصر حياة غزوان زركلي، وما يمثّله على الساحة المحليّة، في تلك المواجهة الدونكيشوتيّة مع البيروقراطيّة العمياء. نودّ أن نحكي معه عن مسيرته الفنيّة، عن تكوينه، عن المؤلفين العالميين الأقرب إلى ذائقته... فنجد نفسنا مجدداً على ساحة المواجهة. هاجسه اليوم مشكلة التعليم الموسيقي في سوريا التي يختصرها بغياب البنى التحتية. ويتحدّث بأسى عن إغلاق الأندية الخاصة التي كانت ترفد الحياة الموسيقية بعشرات العازفين والموسيقيّين، ممن أصّلوا الأغنية السورية ومنحوها هويتها الخاصة: «أين الأغنية السورية اليوم؟» يتساءل بأسى، قبل أن يلفت إلى عشرات المتخرّجين الجدد الذين فقدوا حسّ الأصالة والنكهة المحلية في التأليف الموسيقي، فيما انخرط بعضهم في العمل في الملاهي الليليّة.
لكن الشعور بالضيم لم يمنع غزوان زركلي من ترميم العطب بتدريس النوتة للكبار، وكتابة موسيقى شرقية على البيانو تردم المسافة بين الآلة الغربية والروح الشرقية لديه. هكذا وقّع أشعار محمود درويش، وبدر شاكر السيّاب، وأبي خليل القباني بصوت ديما أورشو، في حفلات وجدت صدىً طيباً في مسارح عالمية، قبل أن تصدر في أسطوانة مدمجة بعنوان «قصائد مغنّاة».
حالما تهدأ ثورته قليلاً، نبادره بسؤال يتعلق بكيفية تعلّقه بالموسيقى وأسباب اختياره البيانو على وجه التحديد؟ يصمت قليلاً ليستعيد شريطاً بالأبيض والأسود عن طفولة بعيدة في بيت دمشقي كان مغرماً بالموسيقى: «كان والدي عازفاً هاوياً على العود، وجدّي كذلك... خالتي كانت تعزف الأكورديون»، ويعترف بأنّه يدين بشغفه الأول بالموسيقى إلى حضوره «جمعات النسوان». إذ كان العزف والغناء أساسياً في سهرات البيوتات الدمشقية. لعلّ الأب أراد لابنه أن يحقق ما لم يتمكن هو من تحقيقه، فشجّعه على الانتساب إلى «المعهد العالي للموسيقى». طلبت منه لجنة القبول أن يمدّ أصابع يديه، ثم قررت أن يتعلّم العزف على البيانو، فاضطر الوالد إلى بيع سيارته العتيقه، وشراء بيانو بدلاً منها.
يقول غزوان: «منذ ذلك اليوم البعيد، وأنا أتدرّب لساعات على البيانو، وأحاول تطويعه إلى ما هو شرقي، ولعلَّ كل ما كتبته من مؤلفات يصب في هذا المسعى». عند هذه النقطة يستفيض شارحاً معنى العمل على مختبر شرقي للأغنية، ودمجه في سياق الأغنية العالمية، من دون التخلي عن الأصول.«لا تكن شوبان»، يقول. هناك شوبان واحد من دون شك، لأنّه أخلص لموسيقاه ولم يقلّد أحداً. «الأكاديمي اليوم لا يهتم بثقافته المحلية بعدما وقع في فخ التغريب وأضاع البوصلة». ويرى غزوان أن “هناك تشويهاً مقصوداً أصاب الموسيقى العربية، بدليل حال الفوضى والاقتباس اللذين يتحكمان في الأغنية العربية اليوم، ما أدى إلى غياب التفاعل مع النصوص، واحتكار أغاني العشق والغرام الساحة، على حساب أطياف الحياة الأخرى».
معركته مع خصومه لم تنته، كما يقول: «لأنّها ليست شخصية». ويستدرك: «الهدم سهل، لكن البناء صعب». هذه الروح القتالية اكتسبها خلال دراسته في ألمانيا الديموقراطية في مطلع السبعينيات، ثم دراسته العليا في «معهد تشايكوفسكي للبيانو» في موسكو. «في برلين تعرفت إلى مجتمع صارم لا يقبل أنصاف الحلول. وفي موسكو اكتشفت الاشتراكية عن كثب، وتعلمت من هاتين الثقافتين أهمية النظام ومعنى الاحتراف. كان عليّ أن أدرك أهمية الاعتناء بنظافة البيانو وكيفية إغلاقه وفتحه بإجلال».

 

                                                                                                      خليل صويلح



5 تواريخ

1954
الولادة في دمشق

1972
الانتساب إلى المدرسة العليا للموسيقى في برلين ــــ جائزة الدولة التشجيعية

2007
وسام «الجزائر عاصمة الثقافة العربية»

2008
حفلة موسيقية مع الأوركسترا الوطنية السورية في دار الأوبرا في دمشق

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.