تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

صلاح دهني: شاهد على «سينما الحب الذي كان»

مصدر الصورة
sns-صحيفة الاخبار اللبنانية


يرتبط تاريخ السينما السورية توثيقاً ونقداً، برجل متحمس، درس السينما في باريس، أواخر الأربعينيات من القرن المنصرم. عند عودته إلى البلاد، لم يجد ما يفعله في مجال اختصاصه بسبب غياب الصناعة السينمائية، فما كان منه إلا أن توجّه إلى الإذاعة ليعدّ ويقدّم أول برنامج عن السينما في سوريا. كان ذلك عام 1952. البرنامج الذي فاجأ المستمعين حينها، وبقي مستمراً حتّى اليوم، بعدما أصبح اسمه «صوت وصورة»، يحمل بصمات صلاح دهني ومشاغله.
إنّه رجل البدايات بامتياز. كان أول من أسس دائرة السينما في وزارة الثقافة والإرشاد القومي (1959)، لكن حملة اعتقالات شنّها جمال عبد الناصر على الشيوعيين في سوريا ومصر ذلك العام، أودعته سجن المزّة ثمانية أشهر، ليعود بعدها إلى دائرة السينما مرّة أخرى.
بعد تسلّم حزب البعث السلطة (1963)، قرر مجلس الثورة إنشاء «المؤسسة العامة للسينما»، فهلّل السينمائيون لهذا القرار التاريخي... وإذا بمدير مدرسة بعثي يعيّن وزيراً للثقافة، ولم يكن له علاقة بالسينما لا من قريب ولا من بعيد! يصف صلاح دهني قصة لقائه ذلك الوزير المخيّب للآمال، فقد بادر ضيوفه بنبرة حماسية: «نريد منكم أن تعلّموا أجيالنا الطالعة النظافة. نحن كحزب نبذر فيهم روح الوطنية ونرشدهم قومياً، وأنتم عليكم دور مهم: تعليمهم النظافة... اصنعوا أفلاماً تعلّم أبناءنا كيف يغسلون وجوههم وكيف يقلّمون أظافرهم، ويفَرْشون أسنانهم».
خرج السينمائيون من الاجتماع يجرجرون أذيال الخيبة. لم تنته الحكاية هنا، فقد عُيّن ضابط مديراً لمؤسسة السينما «بدا شخصاً لطيفاً وواقعياً، واعترف بأنه «جديد على المصلحة»، وطلب مني أن أكون الجناح الذي سيطير به». بعد شهرين، على أثر رفض الموافقة على تصوير فيلم من «النوع إياه»، استشاط سيادة الضابط غضباً، وطلب صلاح دهني وزميلاً آخر له، مستغرباً رفضهما تنفيذ قراره، وأنهى الحوار قائلاً «فلقتونا بالفني والتقني، الكيميا تبعكما حفظناها».
كان صديقنا يدرك أهمية تأسيس «سينماتك» وطنيّة، لأرشفة الأفلام وحفظها من الضياع. وتمكّن خلال زيارة إلى باريس من إقناع مدير السينماتك الفرنسي آنذاك، ولم يكن سوى هنري لانغلوا، بتزويد مؤسسة السينما مجاناً، بمئة فيلم كنواة لإنشاء السينماتك السوري. كان شرط لانغلوا تهيئة المبنى اللازم لحفظ الأفلام. يروي لنا صلاح دهني: عدت فرحاً بهذا الإنجاز، وحين قابلت وزير الثقافة، أزفُّ إليه البشرى، كانت إجابته حاسمة، «الكلفة عالية. هل نحن في حاجة إلى دبابة للدفاع عن الوطن، أم مبنى لهذا الذي تسمونه السينماتك؟».
ويتساءل اليوم بمرارة الشاهد على الفرص الضائعة : «أين أصول الأفلام الأولى التي صوّرت في سوريا؟ ألم يتعرّض معظمها للإهمال والتلف؟ نحن اليوم بلا ذاكرة، لا نملك ولو جزءاً من الصور الفوتوغرافية والأفلام الوثائقية التي صوّرت أيام الانتداب الفرنسي وعيد الجلاء وقبلهما أفلام الثورة السورية الكبرى».
وينظر صلاح بحسرة إلى أرشيفه المتراكم، إذ كتب عدداً لا يحصى من الدراسات والمقالات خلال نصف قرن. يعود إلى موّاله القديم: هذه المرّة يطالب بتأسيس مكتبة للأرشيف السينمائي السوري: «أن تصل متأخراً خير من ألّا تصل أبداً». وينبّه إلى أنّ هناك أفلاماً وثائقية عن دمشق والقدس في ثلاثينيات القرن المنصرم، محفوظة في أرشيف السينماتك الفرنسي، «فيما لا نملك نحن نسخة واحدة من هذه الأفلام المصوّرة عن بلادنا».
انخرط صلاح دهني بعد الاستقلال في التجمعات الثقافية الناشئة، فكان واحداً من مؤسسي «رابطة الكتّاب السوريين»، أوّل تجمع أدبي مستقل في سوريا. لكنّ عمل الرابطة التي ضمت أسماءً مثل حنا مينه، وسعيد حورانية، وشوقي بغدادي، وفاتح المدرّس، أُجهض بعد تأسيس «اتحاد الكتاب العرب». وكان دهني وراء إطلاق أول مهرجان سينمائي دولي في العالم العربي، سنة 1956، على هامش «معرض دمشق الدولي» وبتمويل من المعرض. ذلك العام شاركت ثلاث عشرة دولة. «للأسف، لم تتكرر التجربة، بسبب تلكؤ مدير المعرض». تجربة مجهضة أخرى على الطريق الطويل.
وقّع صلاح دهني مخرجاً عشرات الأفلام التسجيلية، إضافةً إلى فيلم روائي طويل واحد هو «الأبطال يولدون مرتين» (1976). ثم التفت إلى النقد السينمائي في الصحافة والتلفزيون، فكان برنامج «عالم السينما» إحدى المحطات الأساسية في مواكبة تطور الفن السابع. فقد تحوّل هذا الناقد الرائد إلى سندباد سينمائي في تجواله بين المهرجانات العالمية. ولم يهمل مشكلات السينما المحلية، إذ خاض سجالات كثيرة بشأن مصير الفيلم السوري ومستقبله، وكيفية انتشاره بين الجمهور: «الفرجة السينمائية في سوريا إلى انهيار. فالبلد الذي كان يضمّ أكثر من مئة صالة في الستينيات، ليس فيه اليوم سوى بضع صالات غير صالحة للعرض».
ألهذا السبب أدار ظهره باكراً للسينما، وانخرط في النقد؟ «هناك أسباب عدة، أهمها ندرة الفرص في «المؤسسة العامة للسينما»، وانتشار سينما المؤلف. في سوريا لكل مخرج «موّاله الخاص»، وكلٌّ يغنّي على ليلاه، بصرف النظر عمّا يحتاج إليه الجمهور»، ويستدرك موضحاً: «لست ضد سينما المؤلف، ولكن أين معادل غودار، أو فيلليني، أو برغمان في سوريا؟».
علّمه أستاذه المؤرخ والناقد السينمائي الفرنسي جورج سادول في «معهد الدراسات السينمائية» في باريس، أنّ السينما حالة شغف، تحتاج إلى الحبّ أولاً. هذه الفكرة كانت منطلق صلاح دهني في كتاباته النقدية، فهو لم يكتب يوماً، من موقع تصفية الحسابات. كان يجد على الدوام بؤرة ضوء في هذا الشريط أو ذاك، فيتبعها إلى النهاية، تحليلاً وتشريحاً. يقول مستشهداً بعبارة المفكر والأديب النيجيري وول سوينكا، الحائز جائزة نوبل للآداب (1986): «لا تنحصر مهمة الناقد في مراجعة قطعة فنية موجودة فقط، بل يجب عليه خلق مناخ حولها، من أجل تشجيع موقف تجريبي ليس فقط عند المؤلفين، بل عند الجمهور أيضاً»، ويستدرك «ممارسة النقد السينمائي لا تعني توزيع القُبل أو الشتائم جزافاً. ينبغي الالتفات إلى إيجاد تزاوج محكم بين عمليتي الإبداع والنقد، لإيضاح القيم الجمالية للشريط».
لم يكتف صلاح دهني بكتابة النقد السينمائي، بل تعداه إلى كتابة الرواية (ملح الأرض ــــ 1972)، وثلاث مجموعات قصصية، كان آخرها «ربما غداً» (2000)، وها هو يرثي السينما في كتابه الجديد «سينما الحب الذي كان». في هذا الكتاب يمزج الذكريات بالوقائع، من موقع الأسف على ما آلت إليه السينما السورية، «بعدما انفضّ الجمهور عن ارتياد الصالات»، وتحوّلت الإدارات السينمائية المتعاقبة إلى «مزارع خاصة». لكنّ سندباد الشغوف لا يرفع ذراعيه تماماً، ولا يستسلم. بل يدعو جميع المعنيين إلى تصحيح مسار السينما «قبل فوات الأوان».

 

                                                                                                                                                                                               خليل صويلح



5 تواريخ

1925
الولادة في درعا (سوريا)

1947
انتسب إلى معهد الدراسات السينمائية العالية في باريس، ودرس في جامعة السوربون

1952
قدّم أول برنامج متخصص في السينما من إذاعة دمشق

1976
أخرج فيلماً روائياً طويلاً بعنوان «الأبطال يولدون مرتين»

2009
صدور كتابه «سينما الحب الذي كان»

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.