تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

مروان مسلماني (1935– 2013)...رائد فن التصوير الضوئي في سورية

مصدر الصورة
الوطن السورية

لم يدرك المرحوم السيد كمال مسلماني أول إداري سوري في إدارة السكك الحديدية السورية أثناء الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان أنه سيرزق عام 1935م بطفل هو الرابع بعد أولاده الثلاثة: أديب الذي أصبح فيما بعد طبيباً مرموقاً

 

وعدنان الذي تفوق كمهندس، وشقيقتيهما، وأن الطفل القادم الذي سماه «مروان» سيكون علماً رائداً من أعلام القرن العشرين في فن التصوير الضوئي الذي لم يكن معروفاً آنذاك في بلادنا إلا لدى بعض النخبة التي استلهمته من خلال لوحات المصورين العالميين، إضافة إلى أن آلة التصوير بشكلها المتطور اليوم لم تكن معروفة أيضاً، وكان يطلق عليها اسم (العلبة)، وهي بدورها تشبه العلبة المربعة، وتتسع لفيلم مؤلف من ثماني سلبيات متصلة ذات المقاس 6×6 ملم، ولم تكن صور تلك العلبة مدروسة، إذ لا يوجد فيها سرعات للتصوير أو فتحات متطورة للعدسة بعد. ورغم ذلك فقد اتجه فضول الطفل «مروان» إليها، وبدأ يتراجع عن دروسه بسببها، فقد أخذت عليه لبّه وسيطرت على تفكيره، وفرضت نفسها عليه هواية متفردة، ولاسيّما أن ذاك الطفل لم يكن ليعبأ بألعاب الأطفال أو ما كان يثير شغفهم في سن الإعدادية المبكرة. لقد دفعه شغفه غير العادي بالصور إلى قصّها من المجلات والكتب التي كانت تصل إلى يديه؛ وكانت كلها بالأسود والأبيض، إلى أن اقتنى (علبة) تصوير وأخذ بتصوير كل ما تقع عيناه عليه، بدءاً من والديه وإخوته الذين شجعوه على هوايته، مروراً بلقطات فنية معبرة لفتت انتباه صاحب المخبر الذي كان يطبع صوره لديه، فدفعه الأخير إلى تعلم غسل الأفلام ثم طباعتها بنفسه وبالطرق البدائية السائدة آنذاك. ومع نهاية الحرب العالمية الثانية وزع الحلفاء صوراً ملونة لأسلحتهم على الصحف والمجلات، وكانت تلك بواكير التصوير والطباعة الملونة، وهو ما أثار فضول الطفل «مروان» وشدّه لعالم التصوير بشكل أكبر. في سن الثانية عشرة من عمره تمكن من شراء أول آلة تصوير مستعملة احتوت على بعض التقنيات المتواضعة السائدة آنذاك، وكانت مكسورة إلى خمسة أجزاء، فقام بلصقها مع بعضها ونجح بذلك، ولكن غرفة الفيلم فيها كانت بحاجة دائمة إلى أن يكسرها ثم يعيد لصقها مجدداً كلما أراد وضع فيلم جديد بها، وعلى الرغم من كل ما سبق فقد أنتج في تلك الآلة بواكير صوره الرائعة التي بدأ بنشرها، والتي كانت جواز السفر لدخوله إلى عالم فن التصوير الضوئي، وكانت بساتين كفرسوسة وداريا، ومقاسم نهر بردى وتوزيعاته، وجبل قاسيون المحيط بمدينة دمشق إحاطة السوار بالمعصم، وحاراتها وأزقتها ومعالمها الشهيرة، وغوطتها الغنّاء وما ضمته من طبيعة خلابة، وعناق أشجار، وأسراب عصافير، وقطعان أغنام تسرح في أرجائها، كل ذلك شكّل نقطة الانطلاق لابن الثانية عشرة باتجاه عالم الشهرة الفنية، واستمرت موهبته بالتوهج ضمن معالم مدينة دمشق التي أخذت لبّه وتفكيره.

 في عام 1957م سافر مروان إلى خارج القطر للمرة الأولى في حياته، وكانت وجهته الأولى مدينة باريس، حيث استضافه أخوه فيها ستة أشهر وذلك بهدف معالجة كسر في ركبته، وهناك هامت فطرته الفنية على ضفاف نهر السين وهو يعانق كاتدرائية نوتردام، وصار يتحيّن مرور القوارب في النهر ليلتقط لها أبدع الصور، كما أذهله الصيادون الذين كانوا يؤمون ضفتي النهر بكل أشكال حالاتهم الإنسانية، وبالرغم من ممانعتهم لالتقاط الصور لهم، فقد أخذ يغريهم بما يرضي طموحه الفني، ويقوم بتصويرهم في كل الحالات التي تفرض نفسها عليهم خلال عملهم اليومي، وهذا ما دفع حسه الفني إلى دراسة اللقطة وكادرها ومحيطها قبل التقاطها، حيث بدأت تتبلور لديه فكرة الصورة قبل الشروع في تصويرها. وقد جمع خلال رحلته تلك المئات من اللقطات الفنية الباهرة التي احتفل بها عند عودته إلى دمشق حيث أقام بها معرضه الضوئي الأول عام 1958م في صالة المتحف الوطني بدمشق تحت عنوان «مشاهداتي في باريس»، وحضر المعرض جمع غفير من الرسامين والنحاتين والمصورين والفنانين بكل أطيافهم والذين بدؤوا يوطدون معرفتهم بالفنان الجديد، إضافة للشخصيات المرموقة، والمواطنين الذين أذهلتهم الصور بمقاساتها الكبيرة والحس المرهف الذي كانت تبوح به. إثر معرض «مروان» الأول قام المرحوم الدكتور «سليم عادل عبد الحق» المدير العام للآثار والمتاحف آنذاك والذي كانت له اليد البيضاء بإقامة المعرض الأول له باستدعائه، وعرض عليه أن يعمل رئيساً لقسم التصوير والأرشيف الأثري في المديرية، فاستجاب «مروان» لذلك العرض وبدأت حياته الوظيفية فيها بدءاً من عام 1958م واستمرت حتى عام 1996م عندما اختار إنهاء خدمته منها بنفسه. لقد تميز مروان خلال خدمته الوظيفية التي ناهزت الثمانية والثلاثين عاماً بالخلق الرفيع، والجلد الكبير على العمل، والإخلاص التام لمبادئ المهنة.

 وفي هذا الصدد؛ نشير إلى أنه؛ ومع بدايات إرسال التلفزيون السوري لبرامجه؛ فقد كلفه الدكتور «صباح قباني» المدير العام للإذاعة والتلفزيون حينها تقديم برنامج أسبوعي تعليمي حول فن التصوير، واستمر برنامجه عدة سنوات حيث استقطب آنذاك شريحة واسعة من المشاهدين، وذلك بالنظر إلى الأسلوب الشيّق، والمعلومات المفيدة والمبسطة التي كان قدم بها البرنامج.

 أيضاً لا بد من الإشارة إلى أن الأستاذ «فؤاد الشايب» مدير الدعاية والأنباء السورية عام 1960م كلفه إجراء مسح اجتماعي ثقافي طبيعي أثري فني للجزيرة السورية عبر لقطاته المبدعة، وقد قام الفنان مسلماني بتصوير كل ما وقعت عيناه عليه أثناء تلك الجولة، ما دفعه لإقامة معرضه الثاني حول مشاهداته في الجزيرة السورية والذي حظي باهتمام كل الشرائح الاجتماعية نظراً لما قدمه فيه من صورة صادقة عن مجتمع الجزيرة.

 تميز الفنان مسلماني خلال عمله الوظيفي بتقشفه، فلم يقتن آلات التصوير الفارهة على نفقة الدولة، إنما اكتفى بآلة بسيطة كانت أثيرة لديه وهي من نوع (MAMYA)، وقد دامت صداقته مع تلك الآلة طوال مدة خدمته، حيث قام بتسليمها لخلفه وهي بوضع جيد للغاية، وعبر تلك الآلة قام بتصوير ما لا يقل عن مليوني صورة للآثار الوطنية والقطع الأثرية المكتشفة واللوحات الفنية الطبيعية التي صاغها اللـه في بلادنا.

 اهتم الفنان مسلماني بالتصوير بالأسود والأبيض وهو الأساس في فن التصوير الضوئي، وكان يعتبر التصوير الملون تصويراً آنياً، وطفرة ليست بذات شأن، لأنه يخدع العين بأطياف ألوانه، أما معارضه فقد ازدانت بالصور واللوحات الفنية ذات البعد اللوني المتدرج بين الأسود والأبيض، وهي من أصعب أنواع التصوير، وهذا ما رفع من شأنه ومكانته العالميتين، إذ إن التصوير بالأسود والأبيض هو عماد اللوحات الضوئية الفنية في العالم.

 شارك الفنان مروان بتأسيس نادي فن التصوير الضوئي عام 1982م، وتم انتخابه كأول نقيب للفنانين الضوئيين السوريين بعدما تم إشهار النادي، واستمر بموقعه ذاك عدة سنوات ليتركه فيما بعد من تلقاء نفسه لزملائه من فناني النادي. كما قام بتدريس مادة فن التصوير الضوئي في كلية الآداب (قسم الصحافة).

 رافق خلال فترة عمله في المديرية العامة للآثار والمتاحف العديد من البعثات الأثرية التي عملت في مواقعنا، وساهم بتصوير مكتشفاتها الأثرية، وقد عمل مع العديد من علماء الآثار الوطنيين والعالميين الذين نذكر منهم: الأستاذ نسيب صليبي في عمريت وتدمر، العالم الفرنسي (كلود شيفر) في أوغاريت، العالم الإيطالي (باولو ماتييه) في إيبلا، العالم الآثاري (موتغارت) في تدمر، العالم الإنكليزي (كريزويل) عالم الآثار الإسلامية، العالم الفرنسي (أندريه بارو) في موقع ماري، العالم الألماني (هورست كلينغل)، وساهم مع الجميع من خلال لوحاته بإصدار مؤلفاتهم عن الحضارات والآثار السورية.

 لقد أمضى الفنان مسلماني جلّ حياته في خدمة التراث والفن، وأصبحت أعماله مرجعاً للعاملين والدارسين في مجال التراث والعمارة والفن، كما جعل من التصوير الضوئي فناً في سورية فساهم بذلك في حفظ التراث من خلال المعارض المتخصصة التي أقامها، والتي ناهزت السبعين معرضاً، نذكر منها:

 - معرض «الأختام الأثرية السورية» الذي عرض في جامعة توبنغن بألمانيا واستمر عرضه عاماً كاملاً.

 - معرض «المرأة في الآثار السورية» وقد عرض أثناء انعقاد مؤتمر المرأة العالمي في كوبنهاغن.

 - معرض «مكتشفات إيبلا» وقد عرض في كل من دمشق والأردن وروما.

 - معرض «الآثار الإسلامية» وقد عرض في كل من إسبانيا واليمن.

 - معرض «خمسة آلاف عام من فن التمثال في سورية» عرض في دمشق وبرلين.

 - معرض «الحضارات السورية القديمة» عرض في الجامعة الأميركية (الوست هول) وفي دمشق وألمانيا الديمقراطية.

 - معرض «المخلوقات الأسطورية» للنحات السوري العالمي سعيد مخلوف وعرض في دمشق وباريس.

 - معرض «سورية.. أرض الحضارات الإنسانية» عرض في لندن بمركز باربيكان.

 - معرض حول «الآثار والتماثيل البرونزية في موسكو» وعرض بجامعتها.

 - معرض «المرأة سحر وشعر» وهو من أروع معارضه حيث تميزت لوحاته فيه بروح انسيابية شاعرية.

 كما ألف ثمانية كتب متخصصة في الآثار والمواقع الأثرية كان من أبرزها: البيوت الدمشقية، تدمر فن وعمارة، الجامع الأموي الكبير، الكنائس والأديرة التاريخية في سورية، بصرى المدينة الكاملة...

 وإذا كان بهر العالم بإضافاته العلمية والعبقرية والفنية في مجال علم التصوير الضوئي، فإنه من الواجب علينا أن نذكر إسهاماته في فنون الرسم والنحت وصب التماثيل بطريقة متميزة أيضاً، فقد قام بنسخ الكثير من القطع الأثرية بطريقة فنية لا تسمح بالمقارنة بين الأصلية منها والمنسوخة عنها، إضافة إلى التقنية العالية التي تميزت به قطعه الفنية، وهذه هبة أخرى تميز بها فناننا المذكور.

 لقد ساهم مسلماني بنقل صورة الآثار السورية إلى العالم من خلال لوحاته التي شكلت أرشيفاً ضخماً تميز بإبراز الأثر، وخصائصه وزخارفه، فكان للحجر عنده مواقع متباينة وألوان تبدو متغيرة من كل وجه من وجوهه، نعم إنه الفنان الذي لم يدخل كلية، ولم يحمل شهادة أكاديمية، حاله كحال الفنانين الكبار الذين لم يحملوا سوى إبداعاتهم وتأثيرهم الخالد في الحياة والناس. إن المطلع على أعماله يدرك جيداً كيف استحق الألقاب والشهادات التي منحت إليه، فقد قامت الجمعية الوطنية الكيميائية بباريس بمنحه شهادة الدكتوراه الفخرية في علم التصوير الضوئي لاكتشافاته وإسهاماته الفنية التي بهرتهم، كما لم يفته تكريم القائد الخالد «حافظ الأسد» عندما منحه وسام الاستحقاق السوري تقديراً لأعماله الإبداعية في مجال الآثار.

 في صباح الخميس الواقع في 21/2/2013 فارق الفنان مروان مسلماني الحياة، تاركاً وراءه إرثاً يصعب حصره من الأعمال الفنية التي كان جلها من اللوحات الفنية تصويراً، والتماثيل التي قام بنسخها عن أصول أثرية، إضافة لخمسة عشر كتاباً عن الآثار السورية بعدة لغات، وغير ذلك من اللوحات التي رسمها بريشة الإبداع الوطني. إن الفنان «مروان مسلماني» لم يكن موهوباً فحسب، بل هو واحد من أهم إعلام فن التصوير الضوئي العلمي والأرشيفي القائم على مادة هي نتاج وخلاصة الإبداع الإنساني إلا وهي الآثار، وسوف يمر وقت ليس بالقصير حتى يدرك أي دارس لفنه وعبقريته في فن التصوير الضوئي أنه كان أمام عملاق حوّل الصورة الضوئية من مجرد نسخ للواقع إلى شاهد على عمق الحضارة الإنسانية.

                                                                                         

محمد خالد حمودة

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.