تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

قلعة سمعان.. أثر خالد يختزل فنون المعمار السوري

إلى الشمال الغربي من مدينة حلب وعلى بعد 60 كيلومتراً فوق نتوء صخري تحده من الجنوب والشمال الشرقي أودية تشكل خطوطاً دفاعية طبيعية، تقع قلعة سمعان التي تعتبر نموذجاً معمارياً فريداً يعكس روعة الفن السوري المحلي في أوج ارتقائه متزاوجاً مع العناصر المعمارية المتأثرة إلى حد بعيد بالفن البيزنطي مع بعض التأثيرات الكلاسيكية.

وقد اقترن اسم هذه القلعة التي كانت في يوم من الأيام ديراً يضاهي أشهر أديرة الشرق باسم القديس سمعان العمودي (392- 459) الذي اعتزل الناس وآثر العبادة والتقشف والزهد فابتنى لنفسه مكاناً يتنسك فيه في بقعة تقع إلى الشرق من انطاكية على بعد 35 كيلومتراً وإلى الشمال الغربي من حلب بـ 60 كيلومتراً فوق تل قريب من جبل بركات.
وفي عام 412 وعلى قمة هذا التل فوق صخرة صماء، أقام بيته المنعزل على شكل كوخ صغير، ورفع عموداً على ارتفاع 40 ذراعاً أي ما يعادل 12 متراً، وعاش فوق هذا العمود 27 عاماً عيشة الزهاد المتعبدين تحت وطأة الأنواء الجوية المتغيرة في الصيف والشتاء والليل والنهار، كان يتحلق حوله تلامذته، ويفد الناس لزيارته من كل الأرجاء.
وبعد موت سمعان العمودي عام 459 بنى الإمبراطور زينون ديراً حول العمود الذي كان يتعبد عليه القديس سمعان تكريماً لاسمه.
ويكتب المؤرخ (يفاكريوس) بمناسبة زيارته عمود الراهب سمعان العمودي سنة 560 م (أنه في نهاية القرن الخامس كان العمود وما جاوره قد صار بناء ذا أقواس متماسكة بأركان ثمانية تفرع عنها أربعة أجنحة بازيليكية، ولم يتمكن المهندسون على الجزم فيما إذا كانت هذه الأقواس ذات الأركان الثمانية مسقوفة أم لا).
 
تقع القلعة على مرتفع صخري ويحيط بها سور مدعم بالأبراج الدفاعية، ويعتبر بناؤها فريداً من حيث التصميم والأسلوب الإنشائي المتبع في البناء إذ تتكون من أربعة أقسام على شكل بازيليك (بناء مستطيل الشكل مقسم غالباً إلى ثلاثة أروقة بواسطة أعمدة له عدة وظائف سياسية، اقتصادية واجتماعية) تلتقي حول قسم مركزي ثماني الأضلاع.
 
يتألف وسط القلعة من مثمن يقوم في وسطه عمود سمعان الشهير، ويحتوي على أربعة أقواس تنفتح على الأروقة الأساسية، وأربعة أقواس أصغر من الأولى تنفتح على غرف صغيرة في مدخل كل منها حنية (وهو تاج يرتكز على العنق في الأعمدة الإغريقية). وتنفتح بقوسين على الرواقين الثانويين في الفرعين المجاورين، وعلى الأغلب لم يكن وسط القلعة المثمن مسقوفاً لدى بنائه وفي حال وجود سقف فإنه كان عبارة عن قبة خشبية خفيفة حتى لا تشكل ثقلاً كبيراً على الجدران التي تحملها الأقواس وهذا ما أكده المؤرخ (يفاكريوس) في مدونته السالفة الذكر.
ويقسم كل فرع من فروع المثمن إلى ثلاثة أقسام على شكل أروقة بواسطة صفين من الأعمدة، الرواق الأوسط يبدو أكثر عرضاً والجانبيان أضيق، ويبلغ قياس كل من الفروع الثلاثة الغربي والجنوبي والشمالي (24×25م) أي مربعة الشكل تقريباً.
بينما يبلغ قياس الفرع الشرقي (22×24م) وينحرف قليلاً عن المحور مائلاً نحو الشمال لأنه يشكل وسط القلعة وفيه توجد ثلاث حنايا في مؤخرة الأروقة الثلاثة، وبجانب هذه الحنايا غرفتان مربعتان الأولى كانت مخصصة لملابس الكهنة تسمى (بالدياكونيكون) والثانية مخصصة للهبات المقدمة وتسمى (بروتيسس).
وصدر القلعة مؤلف من الحنيات الثلاثة: الكبرى في الوسط وإلى جانبيها الحنيات الأصغر، الحنية الكبرى فيها صفان من النوافذ والأسفل يتكون من خمس نوافذ والعلوي من نافذة واحدة بينما في كلا الحنيتين الأصغر نافذة واحدة وكل حنية من الحنيات الثلاث عبارة عن نصف اسطوانة مسقوفة بسقف على شكل ربع كرة مزخرفة من الخارج بصفين من الأعمدة يعطيانها منظراً جميلاً.
بني مدخل القلعة في نهاية الفرع الجنوبي لتعذر بنائه في الفرع الغربي فيها بسبب أن هذا الفرع يقع على منحدر شديد الوعورة. وتحتوي واجهة المدخل في الأعلى على عدد من النوافذ الضيقة تلتف حولها الزخارف بشكل متماوج، ويتقدم الواجهة القسم المسمى (نارتكس). والمدخل يتألف من ثلاث فتحات قوسية مثل أقواس النصر الرومانية، القوس الأوسط هو الأكبر ويؤدي إلى رواق تتقدمه أربعة أبواب تؤدي بدورها إلى أروقة القلعة الثلاثة وقد لجأ المعمار إلى بناء فتحة نصف دائرية فوق ساكف كل باب يرتكز طرفا قوسها على الجدار الأساسي بواسطة الساكف، وهذا الأسلوب الإنشائي أتاح تخفيف الضغط على الساكف كما يقول الدكتور عبد المعطي الخضر في كتابه (تاريخ العمارة- الكلاسيكية).
وقد زينت الجدران التي تتخللها النوافذ إضافة إلى الواجهات التي تتقدمها الفتحات بمجموعات زخرفية تلتف حول النوافذ والفتحات فتعطيها شكلاً فنياً جميلاً وتألقاً بديعاً، وتحيط الزخارف بالأقواس الكبرى والصغرى في المثمن المركزي. وهذه الأقواس بدورها ترتكز على أعمدة كورنثية (أحد طرز الأعمدة الإغريقية) لها أشكال زخرفية متعددة، تعبر عن دقة في النحت وذوق رفيع بالزخرفة النابعة من تطور فني محلي، يظهر وكأنه متأثر بالفن الكلاسيكي.
وتبدو أروقة الفرع الشرقي في القلعة وكأنها كانت مكسية بالحجر الملون والقسم المركزي المثمن تبين أنه أيضاً جرى تغطيته في القرنين العاشر الميلادي بالحجر الملون كما يذكر الدكتور عبد المعطي الخضر في كتابه الآنف الذكر.
نافذة على التاريخ
بقي بناء القلعة على هذه الحالة المعمارية حتى القرن السابع عندما وصلت الفتوحات الإسلامية إلى حلب وأبقى المسلمون الفاتحون هذا البناء بيد أصحابه عملاً بأحكام الدين الإسلامي الحنيف وتمسكاً بوصية الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب الذي أمر بعدم التعرض لرجال الأديان الأخرى عند الفتوحات وهذه الوثيقة محفوظ أصلها في مكتبة دير مارجرجس قرب قلعة الحصن، ولكنهم أقاموا حوله سوراً وأبراجاً بلغ عددها 27 برجاً منتصبة على السور إضافة إلى عدد من الأبراج البارزة الأخرى، لم يبق من آثارها الآن إلا أطلال دارسة.
وكانت قلعة سمعان أحد الثغور التي نفذ منها البيزنطيون بقيادة (نقفور فوكاس) إلى بلاد الشام وكان فوكاس هذا هو الند اللدود للأمير سيف الدولة الحمداني الذي كان البيزنطيون ينظرون إليه كمنشئ للدولة العربية الفتية على مقربة من حدود الروم ولذلك كان نقفور فوكاس يفصح في كثير من الأحيان عن الهدف الأساسي لحروبه التي كان يشنها على بلاد الشام مستهدفاً أولاً بأول تلك المملكة العربية الإسلامية التي كان على رأسها سيف الدولة في حلب، وذلك للنيل منها وتحطيمها لأنها كانت تمثل عقبة تحول بينه وبين الوصول إلى الديار المقدسة.
وفي عام 986 تمكن الأمير سعد الدولة بن سيف الدولة الحمداني بعد حصار قصير من تحرير القلعة من يد البيزنطين ثانية. وفي عام 1017 هاجم الفاطميون القلعة هجوماً مريراً ولم تسقط في أيديهم إلا بعد جهد طويل احتاجوا خلاله للإمدادات العسكرية.

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.