تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

طعمه : الثقافة لها حدّان قويان

الثقافة لها حدّان قويان لا تقبل فرداً قوياً وآخر ضعيفاً، لا تقبل المثقف وغير المثقف؛ بل تتحوَّل إلى شخصية فاهمة لمكونات أمة مناخها الإنساني متمتع بالحبِّ والجمال تبني له صورة الإبداع.

 وقال الدكتور نبيل طعمة في محاضرة ألقاها في المنتدى الاجتماعي بدمشق مساء امس الثلاثاء " لا يمكن أن تعيش ضمن نطاق المفرد المنعزل، أو أن تكتسب من اللغة المرورية أو عبر تصفح شبكة الإنترنت، تكون غير قابلة للنقاش أو الحوار، يمكنك أن تأخذ وتقرأ ما شئت من الإنترنت، ولكن لا يمكنك مناقشته أو الحوار معه، والثقافة لغة الانتباه لمخزون التراكم الحضاري أي مما مضى حتى الحاضر ترسم صورة الشخصية الإبداعية، وفي اعتقادي أنها قصة حبٍّ يمتلكها طرفان يكتملان من خلال تبادل مفردات قصتهما.
 
وتساءل الدكتور طعمه "ما هو مفهوم الثقافة البشرية العالمية، وهل هي في حقيقتها عامة، أم أن لكل أمة لغة الثقافة ذاتها ، هل اللغة العالمية لغة ثقافية كالموسيقى مثلاً، أم هي سلوك تعلمي يكتسبه الأفراد كأعضاء في أسرة تنتمي إلى مجتمع؛ يعيش ضمن أمةٍ لتكون الشخصية من الفرد إلى الأسرة إلى المجتمع إلى الأمة؟ فتمتلك بذلك ثقافة تنعكس على كل أطيافها، وتشكل بمجموعها ثقافة الأمة، وهل لنا أن نستخلص بأن المفهوم الذي يستخدم لوصف ثقافة شخص فردي يمكن أن يعمَّم على ثقافة المجتمع أو الأمة" ؟ .
 
لقد أثارت كلمة الثقافة وأغرت الكثير من الباحثين على اختلاف تنوعهم الجغرافي وأشكالهم وألوانهم، فأجمعوا إلى حدٍ كبير على أنها ذلك الكُلُّ المعقَّد الذي يتضمن المعرفة، والمعتقد، والفن، والخُلق، والقانون، والعادات المجتمعية، وأية إمكانيات محيطية جيدة، وطبائع اكتسبها الإنسان من مجتمعه .
 
هل حاول أحدٌ ما من المحيط إلى الخليج أن يعرِّفها وأن يرسم لها رؤية حقيقية تخص هذه الأمة؟ نحن كأفراد متشكلين بها ومشكِّلين لها؛ لنا أن نسأل أمتنا التي تشكلت منذ ذلك التاريخ السحيق: ماذا أنجزت ضمن المسار الطبيعي بين الحضور الأممي كأمة لها حقّ في الوجود والظهور، وتسجيل تاريخها كأمة، مع تقديرنا واحترامنا للجغرافيا الواسعة التي تتمتع بها، واللغة التي تتحدث بها إلى بعضها، والدين الذي هو الأساس الجامع واللاّمع بينها، والتاريخ الحديث الذي تنضوي تحته وتختفي ضمنه، بكونها لم تستطع أن تنجز حتى اللحظة الصورة الثقافية الحقيقية على الرغم من الطفرات الفريدة وتألق بعض أفرادها.
 
لماذا؟ سؤال كبير أعتذر منكم جمهرة الأمة، وأنا أبحث في ثقافتنا عن ثقافتنا، وإنني لأعرِّف الثقافة بأنها علم الجمال، وضرورة أن نبحث في تطوير الرؤية البصرية؛ كي نستطيع إيجاد ثقافة حقيقية لا منقولة، ولا مدسوسة، ولا مترجمة، ولا معرَّبة، ولا انهزامية، ولا انكسارية، أو انكشارية، فالذي نراه ثقافة انحدار لا ثقافة صعود، ثقافة تتحدث عن الاستعمار والنكسات والفساد، كما أن آدابها نقد وتقريظ وإدعاء، ورفض للواقع، دون الإسهام في تقديم الحلول بالمنطق والانتماء، ثقافة غربية وشرقية تعارض كل شيء، ولا تنتمي إلى ذاتها ولا تبدع من ذاتها، وحينما أقول: إنها علم الجمال أعني أن من يمتلكه يمتلك التطور والإبداع، والانتقال من درجة إلى أخرى صعوداً على سلّم الارتقاء وتسجيل الحضور، ونحن نسير إليها حاملين ذلك السؤال الكبير: أين نحن من الثقافة العالمية، ماذا حققنا بها، وما هو حجم مشاركتنا ضمنها، مصارحة صدامية قاسية ومؤلمة ومُرَّة، ومخاض يجب أن يأخذ بنا إلى الخروج من عنق الزجاجة التي نقبع داخلها، نسترق النظر إلى ثقافات الآخر بخجل، ينعكس على نشوة الأمل لا يفصلنا عنها سوى الزجاج الشفاف، وبدلاً من أن نُبدع نقلّد ما نراه دون محاكمة، وجميعنا يعلم أيضاً أن فهم الرسم، والنحت، والموسيقا، والعمارة، والتمثيل، والمسرح، والسينما، يعني امتلاك الجمال، ومنها تظهر الشخصية الثقافية فأين نحن من كل هذا؟ ولماذا مورس على هذه الأمة الجهل بمعنى الثقافة مئات السنين؟ حيث أُشبعت بتغييب جوهرها وصورتها، وسادها مراحل من الإبهام والتشويه، وتمَّ تحويلها إلى مسمّى الشطارة والحذاقة والفطنة الفردية والنجاح الفردي؛ الذي يعزز الأنا ويلغي الجمال، وتم اعتبارها سلوكاً ينبغي إصلاحه كلّما اعوجَّ، وتم الاكتفاء بثقافة الفروسية القتالية دون امتلاك ثقافة الفرسان، والسباحة السطحية الإنقاذية للجسد دون معرفة الغوص إلى الأعماق، والرماية الاصطيادية حسب المتوفر دون معرفة تسلّق الجبال من الوديان، وحُرم الجمال البصري الذي هو أساس التكوين الإنساني، والاقتناع بأن الخمار الخارجي والداخلي لا ينبغي عليه أن يُظهر الوجدان. فكيف يكون الإله جميلاً يحب الجمال ولا يدرك الإنسان جمالَه خلقه؟ وأنه مخلوقه الجميل الطبيعي الذي يحمل على عاتقه توليد الإبداع الصُنعي، هل نحن أمة مثقفة، وأيّ ثقافة نحمل، وأيّ حضور نمتلك، وأيّ ظهور نظهر؟ .
 
لست بغاية إحداث الضغط الذي يولّد الانفجار، ولكنني في حقيقة الأمر أدعو إلى مسألة تحتاج منّا جميعاً كأمة أن ننضوي تحت مسمّاها ومعانيها وحدودها الكبرى، فلا نريدها مفرَّغة من مضمونها الكروي الذي تتقاذفه الأمم؛ بل نسعى إلى تحويلها إلى هَرَم منجب لأهرامات شامخة على هذه الكرة، فتمنع من التدحرج، و تنعكس في ذات الوقت على المحيط الذي يتطلع إليه القاصي والداني من المحيط؛ الذي يحيط بحدود الجغرافيا الحاملة للأمة العربية.
 
إن أية ثقافة عربية لاتستند إلاّ إلى النقد فقط، الكلُّ يلهث وراء إظهار ذاته، وهو المتأثر بغيره ينكر عليه تأثُّره، فلا يحدث منه التأثير ويفقد الأثير، وحين الخضوع إلى الحوار ينتهي الشرف الإبداعي بين ساقَي امرأة . ألا تشكل هذه الثقافة ضياع نصف المجتمع ونصف الفكر الاجتماعي، وتنتهي إلى ثقافة المتاهة الفاقدة للمخارج ؟
 
أين هي ثقافتنا العربية ؟ الجموع من المحيط إلى الخليج مُسَيّسة، أي: تمتلك ثقافة السياسة الإذاعية والمتلفزة والإخبارية والشوارعية، دون وعي لمفهوم ثقافة السياسة التي لم تدرك أنَّ كل ما تسمعه وتراه هو بعيد كل البعد عن الحقيقة، وثقافة المادة وجنْيها من أجل شراء الرغيف، وثقافة النقل بين هذا وذاك، وثقافة المكائد، وفي مجموعها تبقى ثقافة الفرد الأنا ثقافة المال والذهب والنفط، وعلى الرغم من وجود البرجوازية العربية وانتشارها وامتلاكها لرؤوس الأموال؛ فإنها لم تستطع الاستثمار في الثقافة من أجل بناء شخصية الأمة، وبقي دورها منحصراً فيما ستجنيه لذاتها الفردية، وهذا يعني زيادة التخلف والتبعية وخسارة المشروع الثقافي.
 
مازلنا نمتلك ثقافة الحوت الأسود، ولم نتعرَّف أن منه ينبثق شعاع النور والحضور والبقاء، وهنا أعرف ثقافة الأثر من الأثر الخالد؛ لا من بقاء الجسد الراحل، فبأي نعم نتحدث، وعن أي نعم، أثر نترك للآخر كي يبحث في ثقافتنا الحديثة والمستحدثة؟، وكما ذكرت في اختلاف الحضارة عن الثقافة بكون الثقافة جزءاً من أجزاء الحضارة، وكذلك هي تختلف عن ثقافة الروح التي لا يمكن لنا أن نفصلها؛ بل نطلق العنان للاختلاف، حيث الروح سلوك فردي يتمتع به الإنسان بإرادة أو بدونها، ولا يمكن اعتباره ثقافة بكونه جزءاً منها، حيث منهجه ثابت لا تستطيع أن تبدِّله أو تحرِّف فيه، بينما تستطيع في الثقافة استبدال القلم والورق، وشطب اللوحة وإعادة رسمها، والتنقل في بستان الأفكار.
 
الحالة الروحية ومبادئها الدينية شجرة واحدة، لا يمكنك امتلاكها؛ بل عليك إن اخترتها اعتناقها والدوران فقط في فلكها، لذلك أكدتُ في هذا البحث على الشخصية الثقافية، وغاية الوصول إلى شخصية ثقافية عربية . اعذروني حينما أتجرأ على ذاتي وشخصيتي وانتمائي للأمة العربية؛ التي أصابها حزن عدم التمتع بهذه الشخصية، وتدور ضمن متاهات افتقادها.
 
 
أسئلة تنتابني ضمن شعور الوجدان الخائف منها وعليها، فلا انتماء بلا أداء، ولا أداء بلا انتماء، والثقافة اتحاد الانتماء والأداء، فإلى أي ثقافة ننتمي؟ والكلُّ على اختلافه يتغنى بكانت- وغوته- ونيتشه- وفيخته- وموليير- وبودلير- وشكسبير- ومايكل أنجلو- ودافنشي- وسلفادور دالي- وموزارت- وباخ- وتشايكوفسكي- وديستوفسكي- وهيغل- وفورباخ- وماركس- وأنجلز- وماو- وغيفارا وهمينغواي- وأجاثا كريستي، هذا عداك عن أباطرة الثقافة القدماء: أرسطو- و أفلاطون- وجلجامش وهوميروس- وفرجيل، حتى أن ابن خلدون وثقافته العريضة الواسعة والفريدة لم نستطع أن ننجب مثلها، هذا التغني الثقافي الذي يتمتع به مثقفونا العرب يدعونا للتوقف عنده لنسأله: أين نحن، وأنتم منهم، أين هي ثقافتكم ثقافتنا؟، لم نسمع حتى اللحظة أن مثقفاً غربياً أو شرقياً تغنّى بمثقف عربي أو استشهد به أو استعار بعضاً من جمله؛ التي أثرت في أمَّة من الأمم، وغدت مثلاً من أمثالها، أو لحناً من ألحانها، أو لوحة فنية من لوحاتها، أو عمارة متفرِّدة من عماراتها،- بغضِّ النظر عن حضاراتنا القديمة- أين نحن؟ .
 
فالأمل دائماً يكون في السلوك الإيجابي ذي الثقافة التطويرية، بِكَون المجتمع الصادق يتطور بتأثير أهل الثقافة على المجتمع وتأثير المدافعين عن الحقيقة، وروابط الحبِّ وبناء الجمال، فالسلوك هو شخصية المثقف، ومهما بلغت ثقافته وكان سلوكه سلبياً لا تحضر ثقافته؛ بل تنتفي بمجرد قيامه بفعل سلبي، فللمثقفين كرامة واحترام توجدها لهم أفعالهم، وحواراتهم، وانتماؤهم لمجتمعهم، فثقافة أيِّ مجتمع محكومة من سلوكه، وكلما كان السلوك مثقفاً وفاعلاً كان حقيقياً، وقف إلى جانبه المجتمع وانجذب إليه الآخرون .
 
ثقافتنا العربية تنادي شخصيتنا، حضورنا أين نحن غائبون؟ تطالبنا بأن نكون حقيقيين، تدعونا لمعرفة جغرافيتنا وتاريخنا المسجل عليها، تحرِّض فينا حاجتنا الحقيقية للتقدم بمجتمعنا إلى الأمام وإلى الأفضل، وتدعونا لفكر الجماعة، لا أن نكون فرديين متنقلين بين هذه الجغرافيا وتلك، منتمين ولا منتمين، فالمثقف الحقيقي لا يمكن له إلاّ أن يكون مع مجتمعه وأمته أولاً وأخيراً .
 
 
إنني أبحث في ثقافتنا العربية وضرورة تضافر جميع الجهود لإظهارها بعد توحيدها، ومن أجل التخلص من ثقافة الأنا، والحدود والقيود، واعتماد المعايير الأخلاقية الناظمة لها، والإسراع في امتلاك علم الجمال الذي ينقش هوية مدننا وإنساننا ومجتمعنا .
 
 
 
 
 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.