تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

وداعاً عمر أميرلاي

 

محطة أخبار سورية

ممدداً كان على سرير ضيق في بيت أمّه التي رحلت قبل عام. كالعادة، يرتدي ملابس أنيقة. الضوء المتدلي من سقف الغرفة مضاء. من يجلس في الفسحة الصغيرة جانب الغرفة، يلمح قدميه ويعرف أن عمراً نائم هناك. وقد لا يصدّق أنه لن يستيقظ من غفوته تلك. عمر الذي يداري صحته بأسلوب لا يخلو من المبالغة. يدلّل جسده. يغذيه باعتدال. يكره التدخين. لا يشرب إلا في المناسبات. يتحرك ويمشي كأي شاب في الثلاثينيات. لكن يبدو أن الجسد القوي لا يستطيع بالضرورة حمل الروح المريضة والمنهكة.

البيت الصغير كان مملوءاً بالأصدقاء، والفسحة الخارجية أيضاً، ودرج العمارة. لا أحد يكترث بالبرد. الدهشة تعلو ملامح الجميع. قبل ساعات فقط، كان عمر جالساً في بيته مع أصدقائه. يتابع ما يجري في ميدان التحرير. مجرد ارتفاع طفيف في الضغط. ارتفاع لا يستدعي الرحيل، كالشهقة كان رحيله. يخطف الأنفاس، الأصدقاء الذين أتوا إلى بيته ذلك المساء، يتمهلون كانوا عند عتبة الباب، يرمقون الجالسين بنظرات متسائلة: هل رحل حقاً أم إنها مجرد دعابة سمجة؟ الأصدقاء الذين جلسوا في الصالون ذلك المساء، كانوا يتوقعون خروجه بين لحظة وأخرى. يتوقعونه بينهم. يجلس بصمته المعتاد ونظراته المتقدة وسخريته الهادئة والمريرة. في مناسبات حزينة كهذه، يشتهي المقربون منه وجوده بينهم. لأن عمر بارع بالتخفيف من وطأة الموت. لأن الجلوس معه يشبه الجلوس مع كل ما يمت للحياة بصلة. تتحول الحياة بصحبته إلى ضحكة، نضحكها نحن بفم ملآن، في حين تتسرب من فم عمر برزانة وتروٍ.

عندما خرج من الجامع محمولاً على الأكتاف، علا التصفيق متغلباً على الشهيق والدموع. عشرات تجمعوا حوله، أحاطوه، حملوه بعيونهم المثبتة على النعش. مزيج غريب من الناس. بعضهم لم يلتقِ منذ سنوات. بعضهم متخاصم. بعضهم تفرقه مواقف وآراء. بعضهم جاء من غربته ليلقي تحية الوداع. مزيج غريب، لو رآه عمر، كان سيبتسم ابتسامته الساحرة، كان سيشتهي ربما لو يبدأ فيلماً جديداً عن عبثية الحياة وغرابتها متحايلاً كعادته على كل ممنوع ومستهجن. كان سيتفنّن في نزع أقنعة بعض المشاركين في الجنازة، كما فعل دائماً مع أبطاله.

 

ديمة ونوس    

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.