تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

الزواج عبر الإنترنت بين الإباحة و التحريم

مصدر الصورة
SNS


أحدثت الثورة العلمية في مجال تقنية المعلومات انقلاباً في الحياة المعاصرة  ومع غياب الحدود المكانية والزمنية أو تقلصها, بات الكثير من المسلمات محل مراجعة أو تمحيص في مدى مطابقتها للقانون والأصول من جهة، والشرائع السماوية من جهة أخرى، حيث غزت تلك التقنية أدق تفاصيل حياتنا اليومية, وقد استوقفني ملياً  اتصال أحد الأصدقاء يسألني عن توثيق عقد زواج بين ابنته المقيمة في دبي وبين خطيبها المقيم في ألمانيا وبين الأب الذي يقيم هو ووكيل العريس في سورية, فسألته كيف سيتم عقد القران بين العريس والعروس وكيف سيتم تبادل الإيجاب والقبول؟ فقال عبر السكايب، وبعد أن أبلغته عن الإجراءات الواجب مراعاتها في توثيق العقد بعد عقد القران سألني أحد الحاضرين عن صحة هذا الزواج ومشروعيته، وهل  يصح السماح بإجراء ذلك العقد،  وما هو موقف القانون والشرع منه؟

في الحقيقة، إن  الإجابة على هذا السؤال تطرح العديد من الفرضيات والتي تتعلق أولاً, بغياب الحضور المادي للمتعاقدين, وبتجريد الآلية التعاقدية من ركيزتها المادية، وثانياً، حيث تتمحور هذه الإشكاليات بشكل أساسي حول مفهوم الإيجاب والقبول, وحول تحديد زمان ومكان انعقاد العقد, بما يعني صعوبة تحديد الزمان والمكان اللذين صدر فيهما القبول وعمن وجه إليه العرض, وحول تعيين هوية الأطراف وأهليتهم على التعاقد. علاوة على الإشكاليات الأخرى التي ترتبط بإثبات حصول الرضا في العقود غير المادية المبرمة عن بعد, وهو صلب وركن كل عقد في القانون المدني. وتحديد القانون الواجب التطبيق على العقد والمحكمة المختصة هذا بالإضافة إلى الإشكالية التي تطرحها الطبيعة العالمية لشبكة الإنترنت وهل هو جائز أصلاً أم لا؟   

فالمشرّع السوري قد عرف في المادة الأولى من قانون الأحوال الشخصية الزواج بقوله: "عقد بين رجل وامرأة تحل له شرعاً غايته إنشاء رابطة للحياة المشتركة والنسل". فمتى تحققت أركان العقد وشرائطه العامة، حل استمتاع كل من الزوجين بالآخر, ولا يحتاج الأمر فيه إلى طقوس دينية وأن يتم أمام رجل دين معين (مأذون) بإجراء هذا العقد، لأن الزواج في الشريعة الإسلامية عقد كبقية العقود له صفته المدنية, لجهة شرائط الانعقاد وشرائط الصحة وشرائط اللزوم، إلا أنه يختلف قليلاً في بعض أحكامه عن باقي العقود بالنظر لأهميته، وأثره في حياة الفرد والأسرة والمجتمع. وشروط الانعقاد هي الشروط الواجب توافرها في العقد بحيث لو تخلف أحدها  صار العقد كالعدم ولم يعد له أثر، ويسمى حينئذ بالعقد الباطل وهذه الشروط هي:

1 ـ العاقدين:  أـ أن يكون العاقدين عاقلاً مميزاً, لأن عقد المجنون أو غير المميز باطل. 

                 ب ـ الرضا: فالعقد مع الإكراه باطل وما اللفظ الذي يصدر من المكره إلا لغو لا قيمة له.

2 ـ محل العقد: وهي هنا أن تكون المرأة حلاً للرجل وأن يكون الرجل حلاً لها أي لا يكون بينهما حرمة قطعية لا شبهة فيها فلا أثر لعقد بين الرجل وأمه أو بنته أو خالته أو زوجة رجل آخر أو عقد مسلمة على غير مسلم فكلها عقود باطلة لا جود لها في نظر الشارع.

 3ـ صيغة العقد: يشترط لصحة عقد الزواج أن تكون بصيغة صحيحة لأنها الوسيلة التي يتم بواسطتها فهم مراد العاقدين فكل خلل فيها يبطل العقد، وهي:

      1 ـ اتحاد مجلس الإيجاب والقبول: يشترط لانعقاد العقد اتحاد مجلس الإيجاب والقبول ليتكون هذا العقد نتيجة ارتباط الإرادتين في نفس المجلس كما لو قال الموجب زوجني ابنتك فقال له زوجتك ابنتي أو قبلت. وأما لو أعرض القابل عن إيجاب الموجب بأن خرج من المجلس أو انصرف موضوع البحث لموضوع آخر، فيعتبر هذا عدم موافقة على أن الفورية لا تشترط عند الحنفية؛ فلو تريث القابل قليلاً في جوابه بأن سكت برهة من الزمن ثم عاد فقبل، فيعتبر صحيحاً.

      2 ـ موافقة القبول للإيجاب: فلا بد من أن يكون القبول مطابقاً للإيجاب وتبدو مخالفة القبول للإيجاب في المهر فلو قال الخاطب زوجني ابنتك على مهر قدره خمسة آلاف، فقال له قبلت بعشرة آلاف، لم ينعقد العقد. وكذلك لو قال زوجني ابنتك سلمى فقال له زوجتك ليلى.

     3 ـ سماع كل من العاقدين كلام الآخر وفهم المراد منه: وحيث أن اللفظ هو أداة ارتباط بين إرادتي العاقدين الحاضرين، كان من الضروري أن يسمع كل من القابل والموجب كلام الآخر وأن يفهم المقصود منه هو إبرام عقد الزواج، وهذا ما ذهب إليه قانون الأحوال الشخصية  في المادة /5/ منه بالقول: " ينعقد الزواج بإيجاب أحد العاقدين وقبوله من الآخر" وقد بينت المادة /11/ منه شرط صحة الإيجاب والقبول بالنص على أنه: " يشترط في الإيجاب والقبول أن يكونا متفقين من كل وجه وفي مجلس واحد وأن يكون كل من المتعاقدين سامعاً كلام الآخر فاهماً أن المقصود به الزواج وأن لا يوجد من أحد الطرفين قبل القبول ما يبطل الإيجاب.

وبالتالي وبما أن كل من الموجب والقابل يسمع الكلام ويفهم المقصود منه، دون وجود فاصل زمني كبير، وما دام الشهود يسمعون الإيجاب والقبول من الطرفين، وفي ظل غياب العاقدين عن مجلس العقد، نجد أن تحديد زمان ومكان إنشاء العقود عبر شبكة الإنترنت قد اعتمد على القواعد المطبقة في القانون التقليدي. ولكن تبقى فعالية آلية التعبير عن القبول المستخدم من قبل المعنيين ونوعية الاتصال وموثوقيته وسير المعلومات داخل الشبكة هي الأساس، وإن كان ذلك كله يعتمد على قضية جوهرية وحساسة وتتصل بأساس استخدام شبكة الانترنت، وهي مسألة الإثبات؛ أي إثبات توجيه رسالة القبول بالفعل وتحديد الوقت الدقيق لإرسال الرسالة الإلكترونية المتضمنة لهذا الشكل من أشكال التعبير عن الإرادة. فالصعوبة لم تعد في تحديد الزمان والمكان اللذين نشأ فيهما العقد، بل في إثبات أن العقد قد نشأ فعلاً!

وحيث أن المادة السابعة من القانون (أجازت أن يكون الإيجاب والقبول بالكتابة إذا كان أحد الطرفين غائباً عن المجلس)، وبما أن المادة /93/ من القانون المدني قد نصت على أن: " التعبير عن الإرادة يكون باللفظ وبالكتابة وبالإشارة المتداولة عرفاً, كما يكون باتخاذ موقف لا تدع ظروف الحال شكاً في دلالته على حقيقة المقصود "، وبالتالي فإن التعبير عن الإرادة بالوسائل التقنية كالبريد الإلكتروني أو السكايب جائزة من حيث المبدأ، لا سيما أن  القانون رقم/3/ لعام 2014 في المادة /4/ منه قد اعتراف صراحة بهذا الشكل الجديد من أشكال التعبير عن الإرادة  بالقول: (تعد الوسائل الإلكترونية طريقة مقبولة للتعبير عن الإرادة لإبداء الإيجاب والقبول بقصد إنشاء التزام أو تعديله أو نقله أو إلغائه).

ونظراً لخلو القانون رقم /3/ لعام 2014 من أحكام تفصيلية تحدد ما تم الإشارة إليه من مسائل تتعلق بالزواج، والاكتفاء بالإحالة على ما ورد في القوانين والأنظمة النافذة ذات الصلة، وذلك بموجب المادة /24/ منه والتي من ضمنها قانون التوقيع الإلكتروني رقم /4/ لعام 2009 الذي استثنى المعاملات المتعلقة بالأحوال الشخصية من نطاق سريان أحكامه، الأمر الذي يلزمنا بالعودة إلى القواعد التقليدية التي تمت الإشارة إليها في المادة /24/ من القانون رقم/3/، والتي تعد سارية على العقود الإلكترونية كون القانون رقم /3/ في المادة الأولى منه عرّف المعاملات الالكترونية بأنها: " إجراء أو جملة إجراءات تجري بين طرفين أو أكثر لها طابع مدني أو تجاري أو إداري". وعقد الزواج هو من العقود المدنية لكن هذا التفسير يبقى بحاجة إلى تدخل المشرّع لحسم المسألة وبيان صحة هذا الإجراء من عدمه وذلك في ظل الجدل الفقهي بين العلماء حوله.

     ولكن يبقى السؤال الأهم هل الزواج عبر الإنترنت مقبول اجتماعياً؟

فالبعض يرفض الفكرة مؤكداً أنه إهدار للأخلاق وعبث بأعراض الناس لما للزواج كعلاقة إنسانية واجتماعية من قدسية. فالإنترنت وسيلة للتعارف والتقارب ليس أكثر، ليفهم كل منهما الآخر. والإنترنت مهما امتلكت من أدوات وإمكانات لا يمكن أن توفر الركائز المطلوبة في عقد الزواج؛ أي أن الخطر يكون في النقطة التي سيتم فيها التلاقي بين ما هو افتراضي وما هو حقيقي، فيبدأ الصراع الداخلي الذي ينتصر فيه الحقيقي على الافتراضي لكن بعد أن يكون هذا الأخير قد سبب خسائر للطرفين. فالزواج ليس علاقة بين فردين وحسب، بل هو قرابة ومصاهرة بين عائلات، ومن آثاره الأطفال. لذا لابد من الروية والهدوء قبل القول بجواز صحة العقد. وعلى الضفة الأخرى، يقول البعض بصحة هذا العقد مادامت الإجراءات المطلوبة في القانون قد اتبعت والمجتمع في أكثر الأحيان يتخوف من التكنولوجيا ولكن سرعان ما يتعود عليها ويتآلف معها.

وهذا الجدل سوف يبقى إلى أن يتدخل المشرّع بالنص الصريح، ويبقى إلى ذلك الحين باب الاجتهاد مفتوحاً على مصراعيه.     


 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.