تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

صناعة القوانين..!!

مصدر الصورة
SNS


شهد العقد المنصرم في سورية نهضة تشريعية شاملة تجلت في إصدار العديد من التشريعات والقوانين الجديدة, لكن ذلك النشاط، وبتوصيف علمي دقيق له، يصدق فيه قول الفقيه الفرنسي جورج ربيير: (انتقال التشريع من نظام الصناعة الفردية إلى نظام الصناعة الكبرى والإنتاج بالجملة, دون إدخال أي تحسين على الآلة الصانعة). فصناعة القانون تحتاج إلى حرفية عالية وهي في الوقت الحاضر تمر بمرحلة أشبه ما تكون بحالة الخروج من عنق الزجاجة, إلا أن الخروج من هذا العنق قد لا يكون خروجاً سليماً، ما يعني أن البقاء في الزجاجة مثل عدمه؛ فأصبحنا أمام ولادات قيصرية للقوانين, إن لم نقل مشوهة من الناحية الفنية, ناهيك عن الضخ التشريعي الهائل. 

فالباحث أو المتتبع لحركة القوانين قد يضيع وسط فيض إنتاج المشرّع. لذلك كان الحري بالتقنين، كما يقول العميد هوريو أن يكون: (طريق عام جيد التعبيد, يمكن السير عليه بكل أمان, لأنه من المفترض ـ دائماً ـ  أن يلبي التشريع حاجات المجتمع أثناء صدوره ويستشرف المستقبل, آخذاً بعين الاعتبار ـ في أقل تقدير ـ أنه احتاط لهذه الحاجات والمتطلبات وذلك من ناحية البناء والصياغة المحكمين لدرجة تفترض الكمال نسبياً, لأن  القانون هو وليد المجتمع الذي سيعيش فيه، لذا يجب أن يكون من طينته وأن ينهل قواعده منه).  فقيمة النظام القانوني تتحدد في مدى ما يحققه من عدالة وأمن قانونيين, لا فيما يحققه من إغراق يتجسد في كثرة القوانين.

والقانون يجب أن يصاغ في شكل نظرية عامة تكون نصوصه مرتبة مبوبة ترتيباً منطقياً لا يناقض بعضها بعضاً؛ وعصرية تحاكي الزمن الذي ولدت فيه دون الالتفات عن القواعد العامة الراسخة في القانون وفي التعامل وفي ضمير المجتمع. فالماضي حاضر دائماً؛ وأن تكون قواعده قابلة للتداول وصالحة للتطبيق غير مناقضة لنسيج المجتمع، فقد كان رئيس محكمة التمييز المختلطة في سورية وهو قاضي فرنسي يصف مجلة الأحكام العدلية، وهي القانون المطبق آنذاك في سورية أثناء الانتداب الفرنسي بالقول: (إن المجلة تحتوي كافة النظريات وأحدثها). فيجب النظر إلى القانون على أنه مجرد وسيلة وليس غاية في حدّ ذاته؛ وسيلة تستهدف أسمى الغايات وأجلها شأناً. ويمكن تشبيه تلك العملية بمهنة الهندسة المعمارية, فالمشرّع هو مهندس القانون وقد عبّر العلامة السنهوري عن ذلك في نظريته المعروفة بالهندسة الاجتماعية من خلال القول: إن (وظيفة رجال القانون تشبه وظيفة المهندس من حيث تأسيس هيكل معنوي يفي بالاحتياجات الاجتماعية, ويتمتع في الوقت ذاته بمظهر خارجي منسجم. كما أن  مصطلح الهندسة يتضمن أنه يتعين على رجل القانون ـ مثل المهندسين ـ  أن يقوم بحساب العناصر الاجتماعية والقانونية التي سيتم استخدامها في تأسيس الهيكل, والتخطيط لهذه العناصر قبل بدء البنيان إذا ما أردنا لهذا البنيان أن يصمد ويعيش). ولكنّ هذا البناء التشريعي المنشود يحتاج إلى أسس وشروط ومن هذه الشروط:

أولاً: ثقافة فنية في المجال القانوني، وهي مزيج من لغة القانون ولغة الفقه، يضاف إليها لغة التشريع, المستقاة من مجموع الوثائق النمطية كالقوانين والمراسيم.

ثانياً: ثقافة منهجية تعمل على نحو يُظهر اتساق نظام البناء القانوني في مسعى لصوغ العمل التشريعي بشكل شمولي. ولتحقيق هذه الغاية يتم وضع التقنين على درجة عالية من التجريد لكي يواكب التغيرات في الخلفية الاجتماعية. فالثقافة المنهجية تنظّم العمل التشريعي, وتضفي عليه سمة الوضوح والدقة وتعطيه قدرة أكبر على الإقناع، فيجب الاعتماد في هذا الخصوص على اللغة القانونية الأكاديمية.

ثالثاً: مناخ ملائم يشكل حاضنة مناسبة للتشريع وتربة تنمو فيها بذور العلاقة بين القانون والوسط الاجتماعي الذي سيطبق فيه. فعلى القانون أن يكيّف نفسه وفقاً لما يمكن أن يطلق عليه (روح المجتمع). وتبعاً لهذه الفرضية إن أي قانون لا ينسجم مع روح المجتمع مآله الفشل.

رابعاً: اللغة القانونية، وهنا قد يعتقد البعض أن هذا الشرط هو تكرار للشرط الأول إلا أنه مختلف عنه تماماً. فاللغة الفنية هي شكل لغة الدولة في التعبير عن إرادتها في التشريع كالقانون أو المرسوم. أما اللغة القانونية والتي تستخدم في النص المعبّر عن هذه الإرادة، فيجب أن تكون سليمة واضحة دقيقة لا تؤدي إلى لبس في فهم العبارة المطلوبة والمتوخاة من التشريع، وتأخذ بعين الاعتبار الشريحة التي توجه إليها. فإن كانت تخاطب شريحة معينة ذات ثقافة عالية كالمتخصصين في المعلوماتية, وجب ذكر المصطلحات والعبارات المترادفة عندما يكون القصد استعمال نفس المعنى. ويجب استعمال الفعل المضارع لأن القانون يستوحى في زمن قراءته لا في زمان تشريعه. واستعمال الفعل المبني للمعلوم, بدلاً من المبني للمجهول, واستعمال صيغة الشخص الغائب, وصيغة المفرد بدلاً من الجمع لإزالة الالتباس في تطبيق القانون على الجماعة، أم الفرد. ويفضّل استعمال صيغة الإيجاب بدلاً من الصيغة السلبية, واستعمال صيغة الفعل الأصلي لا مشتقاته. وكذلك يجب الإحاطة بكل جوانب المعنى المراد مع الإيجاز في العبارة, دون استطراد لأن وجود أي قصور أو غموض في لغة القانون ينعكس سلباً على التطبيقات الواقعية, ويفاقم حجم النزاعات بسبب الاختلاف في تفسير النصوص. وأسوأ من ذلك كله أن هذا القصور يعد بيئة مشجعة على الفساد الإداري؛ فاللغة المعقدة والمبهمة تجعل النص غير موزون المعنى والمبنى.

ولا يتحقق ذلك كله دون مراعاة الشكل في التعبير عن الإرادة أو ما يسمى الناحية الشكلية. فالقانون النموذجي والمثالي كما يصفه العميد هوريو (هو كحديقة فرنسية يستطيع المستشارون الحقوقيون ورجال العلم من التنزه فيها بلا مفاجآت أو على الأقل بدون التعرض لحوادث خطيرة فالتقنية الشكلية تعطي مزيداً من الطمأنينة في تطبيق قواعد الحق)، إضافة إلى إضفاء القوة عليه ومنحه الهيبة.

من هنا كان لابد للعاملين في حقل التشريع من الابتعاد عن الأنانية وتجنب التناقض والمراجعة المستمرة والمتأنية لمسودة المشروع وتدقيق العمل المنجز بشكل دائم والتأكد من الترابط المنطقي والسببي بين مواد المشروع ومراعاة التبويب، لأنه يساهم في جلاء غموض النص وإيلاء الأولوية للقاعدة على الاستثناء، والتقليل من الاستثناءات التي لا ضرورة لها، واتساق فهرس القانون مع مفرداته لسهولة الرجوع إلى المادة المطلوبة. ولذلك يجب الابتعاد عن الكلمات أو المصطلحات المبهمة أو غير المنضبطة والتي تثير اللبس في النص القانوني كإيراد عبارة (تعني) أو عبارة أينما وردت في هذا القانون أو مصطلح (الخ)، والابتعاد عن الجمل الطويلة والتركيز على علامات الترقيم كي لا تتداخل العبارات فيما بينها. وتجنب إيراد المصطلحات الأجنبية لأن ذلك يضعف التقنين. وأن يشارك في إعداد التشريع أهل الخبرة والاختصاص للوقوف على الثغرات والنواقص مسبقاً لتلافيها والاستعانة بالدراسات والبحوث الخاصة والاستفادة من تجارب الدول الأخرى بما يناسب الأوضاع المحلية للمجتمع ولاشك في ضرورة أن يأخذ المشرّع بعين الاعتبار البعد العالمي ومقتضيات التعاون الدولي بين المجتمعات الإنسانية.

وأخيراً، فإن المسؤولية في صناعة قانون جيد تقع على رجال القانون من محامين وقضاة وفقهاء وأعضاء مجلس الشعب والأجهزة التابعة للحكومة لأداء هذا الدور البناء بغية وضع أسس صحيحة لبناء قانوني وطني قادر على الوقوف في وجه رياح العولمة. فالقانون يجب أن يكون مستعداً للغد ويجب أن يحمل بذرة التطور في ذاته.

 

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.