تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

تقرير تفصيلي عن الازمة الاقتصادية الفلسطينية: أرقام وحقائق

                                                                         مركز ديان للدراسات  25/9/2012

موجة المظاهرات الأخيرة في الضفة الغربية هي تعبير يبشر بالشر للغضب الجماهيري المتعاظم في ضوء الأزمة المالية والاقتصادية الناشبة في السلطة الفلسطينية منذ سنتين. للازمة المالية تأثيرات اجتماعية وسياسية خطيرة تهز استقرار السلطة الفلسطينية مثلما وصف وحلل في نشرات "اقتصادي" السابقة في هذه الموضوع.

          العامل الفوري والمباشر للازمة هو الانخفاض في المساعدات الاقتصادية الخارجية للسلطة الفلسطينية، والذي بدأ في العام 2009 وتحول الى هبوط حاد في العام 2010، مثلما يمكن ان يظهر في البيانات الاقتصادية الصادرة عن وزارة المالية الفلسطينية. ومع ذلك، فان الاسباب العميقة للازمة هي الضعف مظاهر الضعف الاساسية للاقتصاد الفلسطيني. وترتبط مظاهر الضعف هذه أساسا بالمنظومة المعقدة من الترتيبات الاقتصادية بين اسرائيل والسلطة، الى جانب الحواجز والقيود على جوانب حرجة في الحياة الاقتصادية الفلسطينية. وكلما تطورت الازمة، نجد أن الاضرار العموم اقتصادية والمصاعب الاقتصادية – الاجتماعية تتراكم وتتعمق؛ وتتحول الاثار الاجتماعية والسياسية لتصبح أكثر فأكثر خطورة.

          فضلا عن ذلك، فعلى خلفية الجمود السياسي، نجد أن الاحتجاج الاجتماعي أقرب أكثر من اي وقت مضى من الاندماج بالاحباط السياسي وخلق الخليط المتفجر الذي سيعيد جموع الشباب الفلسطيني الغاضب الى الشوارع وقد يشعل موجة لا يمكن السيطرة عليها من احتجاجات العنف. مثل هذا الوضع قد يؤدي الى الفوضى في السلطة الفلسطينية ويجر العلاقات الاسرائيلية – الفلسطينية مرة اخرى الى دائرة مواجهات العنف، قيود اسرائيلية أكثر تشددا على الحركة وقدرة الوصول، وتأخيرات في تحويل اموال ضرائب السلطة التي تجبيها عنها اسرائيل؛ مما سيفاقم الفقر واليأس ويشعل الاحتجاج الفلسطيني أكثر فأكثر.

          تهديد آخر، يبدو يقترب اكثر فأكثر هو الكف عن قدرة تسديد الديون لدى السلطة الفلسطينية، الامر الذي من شأنه أن يؤدي الى عملية تفكك سريعة بل وربما حل للسلطة. وتشير المطالب الفلسطينية التي طرحت مؤخرا لتعديل الاتفاقات الاقتصادية مع اسرائيل ("محاضر باريس"، التي تبقي الاقتصاد الفلسطيني متداخلا بقدر كبير مع الاقتصاد الاسرائيلي وتجعل اسرائيل تكاد تسيطر على كل الترتيبات الاقتصادية وعلى جوانب السياسة الاقتصادية، مباشرة وبشكل غير مباشر)، وكذا التصريحات الداعية الى الغاء اتفاقات اوسلو من طرف واحد، كل هذه تشير الى خطورة الوضع والى الحاجة العاجلة الى تغيير جذري للنظام الاقتصادي الذي تعمل في اطاره السلطة الفلسطينية.

          في قسم هام من الاشهر الـ 16 الأخيرة، لم تكن السلطة الفلسطينية قادرة على دفع رواتب موظفي القطاع العام في الوقت المقرر وبكاملها. وكان دفع الرواتب غير منتظم، متعلق بـ "المساعدات الطارئة" المتأخرة من المانحين، او بأوقات تحويل أموال الضرائب التي تجبيها اسرائيل عن السلطة.

          ان الاثار الاقتصادية والاجتماعية لهذا الوضع بعيدة المدى. فموظفو الدولة وأجهزة الامن يشكلون أكثر من ربع القوة الشرائية الفلسطينية، وتعد رواتبهم العامود الفقري للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في الضفة الغربية. وعندما لا تدفع هذه الضرائب في موعدها وبكاملها، فان الامن الاقتصادي لموظفي القطاع العام يتضرر وأمواج الصدى تنتشر الى عموم المجتمع في الضفة الغربية. فضلا عن ذلك، فان البنوك الفلسطينية سوقت بكثافة في السنوات الاخيرة قروضا لموظفي القطاع العام، والكثير من هؤلاء العاملين أخذوا قروض سكن كبيرة، الى جانب قروض كبيرة اخذت لشراء سيارات وغيرها من مظاهر الاستهلاك. وقدرتهم على تسديد هذه القروض متعلق بالدفع المنتظم من جانب السلطة للرواتب.

          الى جانب الاقتصادات المنزلية، فان القطاع التجاري في الضفة الغربية تضرر على نحو بارز ايضا. فحسب التقارير في وسائل الاعلام الفلسطينية، سجل في الاشهر الاخيرة انخفاض ساحق في شراء القطاع العام للبضائع والخدمات؛ اضافة الى تأخير لاشهر غير قليلة في دفع فواتير الموردين، بحجم متراكم يقترب من نصف مليار دولار. ويقرب الاثر المتراكم لهذه التطورات الاف الاعمال التجارية وموردي الخدمات من شفا الافلاس، ويضيف الى الضرر اللاحق بالاجواء الاقتصادية والاجتماعية.

          لقد أجبر الانخفاض في المساعدات الخارجية السلطة الفلسطينية، المرة تلو الاخرى، على اقتراض المال من البنوك المحلية من أجل تمويل العجوزات الجارية. في نهاية العام 2011، كان الدين المحلي العام، الذي بلغ اكثر من 1.1 مليار دولار، ضعف حجمه الذي كان عليه في 2008؛ اضافة الى الدين العام الخارجي بأكثر من مليار دولار.

          في مستوى دين كهذا، فان السلطة غير قادرة، تقريبا، على أخذ مزيد من القروض؛ وبالتالي اصبحت في العام 2012 متعلقة تماما بالمساعدات الخارجية وبتحويل الاموال من اسرائيل، من أجل دفع الرواتب وتمويل نشاطها الجاري.

وتنبع الخطورة الشديدة للازمة المالية من مظاهر الضعف الاساس في الاقتصاد الفلسطيني. وتجسد الطبيعة الهشة للنمو الاقتصادي في الضفة الغربية في السنوات الاخيرة.

وقد شددت على هذه النقطة، المرة تلو الاخرى، تقارير صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وهكذا مثلا، حذر البنك الدولي في نيسان 2011 من أن "النمو لا يبدو مستداما. وهو يعكس انتعاشا من الدرك الاسفل الذي شهده الاقتصاد في عهد الانتفاضة الثانية... وينبع أساس من التبرعات". كما أن خطة التنمية الفلسطينية لعامي 2011 – 2013 اشارت الى أن التنمية الاقتصادية في الظروف الحالية  لا يمكنها أن تستمر لان "قيودا متواصلة على التجارة والاستثمار تمنع النمو في القطاع الخاص بينما استثمارات القطاع العام ستواصل التوسع؛ ... والنمو الاقتصادي سيضعف... والمداخيل في الميزانية والمساعدات الخارجية ستقل...". هذه الصورة البشعة تجسدت في مقال سابق لنا في ايلول   2011 من خلال تحليل عناصر النمو في الضفة الغربية بين اعوام 2005 و 2009. فقد نما الاستهلاك الخاص في الضفة بـ 80 في المائة في هذه الفترة، بينما الاستهلاك الحكومي نما بـ 136 في المائة والاستثمارات في البناء (ولا سيما لاغراض السكن) ازدادت بـ 120 في المائة. من جهة اخرى، فان الاستثمارات لغير البناء، والتي تعكس استثمارات في قدرة انتاج الاقتصاد الفلسطيني، كانت أقل بكثير، في أعوام 2008 و 2009، منها في العام 2005.

ووجد النمو السريع في الاستهلاك، دون ارتفاع حقيقي في الانتاج المحلي، تعبيره في الارتفاع الهائل في الاستيراد، بينما الارتفاع في التصدير كان متواضعا للغاية. الفارق بين التصدير والاستيراد الفلسطينيين ازداد بـ 60 في المائة بين اعوام 2005 و 2011، ومن المتوقع أن يبلغ 4 مليار دولار في العام 2012.

وتعكس أنماط النمو والتطورات في التجارة الخارجية نقاط الضعف في الاقتصاد الفلسطيني: بنية تحتية اقتصادية غير متطورة؛ منظومة مركبة من الاضطرارات النابعة من النظام الاقتصادي وترتيبات اقتصادية مقيدة مع اسرائيل؛ قيود حركة وقدرة وصول وقيود مادية وادارية اخرى على النشاط الاقتصادي؛ اضافة الى ضغوط ديمغرافية واجتماعية وضغوط سوق العمل.

العجز البنيوي الهائل في التجارة الخارجية جعل الاقتصاد الفلسطيني متعلقا بشكل حرج بالمساعدات الخارجية الكبيرة والمتواصلة لوجود الحياة الاقتصادية.

ويتعلق الجانب الاهم في منظومة الضعف البنيوي الاجتماعي – الاقتصادي للسلطة الفلسطينية بقوة الشراء والمستوى المعيشي. فقد خلق الاندماج الاقتصادي مع اسرائيل، تحت "اتفاقات باريس" في السلطة الفلسطينية مستوى أسعار مشابه لمستوى الاسعار في اسرائيل، بالنسبة لمعظم المنتجات؛ بينما الاجر الفلسطيني أدنى بكثير من الاجر الاسرائيلي. وكنتيجة لذلك، فان القوة الشرائية الحقيقية للاقتصاد المنزلي الفلسطيني، ادنى بكثير من المستوى الاسمي الذي ينعكس في معطيات الانتاج للفرد او المعطيات الاسمية بالنسبة لمداخيل الاقتصاد المنزلي. وتظهر المقارنات الدولية بان الناتج المحلي الخام الفلسطيني للفرد، عندما يقارن  بقوة الشراء المحلية، نجده أدنى بكثير منه في الدول العربية المجاورة، وأعلى ولكن قليلا منه في دول فقيرة مثل السودان أو اليمن.

مظاهر الضعف البنيوية هذه تعود الى المأزق السياسي وتؤثر على كل جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية في السلطة الفلسطينية. ومع ان السلطة الفلسطينية تقدمت جدا في عملية بناء مؤسسات الدولة، حسب نهج "بناء الدولة من تحت" لرئيس الوزراء فياض، فقد قامت هذه الانجازات على الدعم والمساعدة بحجم كبير على نحو خاص من الاسرة الدولة. هذه العملية لا يمكنها أن تستمر، والانخراط مع تنمية اقتصادية مستديمة لمدى طويل، الا اذا استمرت المساعدات الدولية السخية في السنوات القريبة القادمة.

ولكن المساعدات الدولية للسلطة الفلسطينية تعتمد على دوافع سياسية؛ ومن ناحية الاسرة الدولية، ترمي المساعدات الاقتصادية السخية للسلطة الفلسطينية الى دعم مسيرة السلام الاسرائيلية – الفلسطينية. وبالتالي، فان الجمود المتواصل في المسيرة السلمية أدى الى ضعف التزام الدول المانحة، انعكس في انخفاض حاد في المساعدات منذ العام 2010.

وبمراعاة الضغوط الاقتصادية الداخلية المتعاظمة على المانحين الاساسيين – الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي – فان هذا الميل للانخفاض الحاد في حجم المساعدات في الاعوام 2010 – 2012 من غير المتوقع أن يتغير، الا اذا شعرت الاسرة الدولية بان المسيرة السلمية انبعثت الى الحياة وانه نشأ احتمال حقيقي لاستئناف الخطوات السياسية.

وختاما، فان اذا لم تتغير الميول الحالية، فان الانخفاض في المساعدات الخارجية الى جانب مظاهر الضعف الاساس في الاقتصاد الفلسطيني تخلق خطرا فوريا على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في السلطة الفلسطينية. وستزداد المخاطر الاقتصادية والاجتماعية اذا ما ترجم الخليط المتفجر من الاحباط السياسي والاحتجاج الاجتماعي الى مواجهات عنف؛ هذه من شأنها أن تؤدي الى تشديد القيود الامنية الاسرائيلية والمس بالتحويل المنتظم لاموال الضرائب التي تجبيها اسرائيل للسلطة. وهذه بدورها، ستعمق الازمة الاقتصادية والاجتماعية، وتضعضع أكثر فأكثر استقرار السلطة الفلسطينية.

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.