تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

أزمة العقل الإعلامى الأكاديمى والمهنى

 د. عواطف عبدالرحمن

تعنى أزمة العقل الإعلامى وجود عدة رؤى نظرية ومستويات أدائية تتباين أسبابها وتتقارب تجلياتها وتداعياتها لدى كل من المنظرين وعلماء الاتصال والممارسين الإعلاميين وجمهور المثقفين، وعلى الصعيد النظرى تحفل الساحة الغربية (الأوروبية والأمريكية) بالعديد من التيارات والرؤى النظرية فى بحوث الإعلام والاتصال فهناك الرؤية الوظيفية البراجماتية التى سادت فى الولايات المتحدة خلال أربعة عقود ومازالت مسيطرة على معظم الباحثين ودارسى الإعلام فى دول الجنوب وعلى الأخص العالم العربى وتعتمد على المنظور الامبريقى المعزول عن سياقاته الاجتماعية والثقافية وترى أن الإعلام هو أداة التحديث فى المجتمعات النامية بينما يرى التيار النقدى الذى انبثق من التراث النقدى للفكر الاجتماعى الأوروبى أن سيطرة الإعلام الغربى على الإعلام فى دول الجنوب يعد إحدى أدوات الاستعمار الثقافى الذى يروج ويفرض أساليب الحياة والقيم الغربية على مجتمعات الجنوب. كما يؤكد هذا التيار أن الإعلام فى الدول النامية يثير إشكالية تتمثل فى كونه يلعب دورا مزدوجا سواء على الصعيد الدولى أو المحلى إذ يمكن استخدامه أداة للضبط الاجتماعى وتكريس التبعية الثقافية كما يمكن الاستعانة به كأداة للتحرر الثقافى والاجتماعى فى ذات الوقت كذلك يمكن أن يعبر عن الهيمنة الكونية للغرب ويمكن أن يكون وسيلة لإحياء وإنعاش الثقافات القومية فى ذات الوقت. وهناك الرؤية الماركسية التى تؤكد مخاطر سيطرة رأس المال على الإعلام وهيمنة ثقافة الطبقات المسيطرة سياسيا واقتصاديا على دور القائمين بالاتصال باعتبارهم منتجى المادة الإعلامية ويتأثرون بتوجهات المؤسسات الحاكمة ومصالح القوى الاقتصادية المتحكمة فى السوق ويؤثرون بصورة حاسمة فى تشكيل اتجاهات وقيم الجمهور والرأى العام.

هذا وتتعرض بحوث الاتصال فى دول الجنوب وفى قلبها العالم العربى لأزمة مركبة تتمثل فى النقل والاقتباس والتبعية للتيارات الامبريقية والوظيفية فى دول الشمال المتقدم تكنولوجيا وذلك استنادا إلى رؤية خاطئة فحواها أن العلم لا وطن له وهذه الرؤية تنطبق جزئيا على العلوم الطبيعية ولكنها بالقطع لا تنطبق على العلم الاجتماعى وفروعه الذى يتأثر بالخصوصية الثقافية لكل مجتمع، فضلا عن اختلاف معدلات التطور الاجتماعى والاقتصادى والبيئى علاوة على الأحداث التى حكمت المسيرة التاريخية لكل مجتمع وحددت خلفياته الثقافية ومنظومة القيم والأنماط السلوكية لشعوبه وجماعاته. وهذا الوضع يطرح تحديا أساسيا لمعظم المسلمات النظرية التى تنطلق منها البحوث الإعلامية العربية ذات الطابع الامبريقى التجزيئى والتفتيتى للظواهر الإعلامية والتى اعتاد معظم الباحثين الإعلاميين العرب تناولها بمعزل عن السياق المجتمعى الذى أنتجها وأثر فيها كما تأثر بها فضلا عن افتقار هذه البحوث إلى الأطر النظرية التى تفسر المعطيات الامبريقية وتكشف عن التوجهات الأيديولوجية للباحثين.

وهنا تثار قضية المسئولية العلمية والأخلاقية للباحثين الإعلاميين العرب لتجاوز هذه الفجوة من خلال التصدى لتناول التراث العالمى فى بحوث الاتصال بمنظور نقدى فضلا عن ضرورة إعادة النظر فى رصد مفردات واشتباكات بيئتنا الاتصالية والثقافية والتمييز العلمى فى بحوث الاتصال التى اجريت فى إطار المدرسة المصرية والعربية ومحاولة استكشاف أسباب تكرار موضوعات معينة وتجاهل موضوعات أخرى أكثر أهمية وأعمق التصاقا بواقع الإعلام العربى وذلك سعيا لاكتشاف الأسئلة الجوهرية التى يطرحها هذا الواقع وصولا إلى الأطر النظرية الملائمة والقادرة على تفسير الكثير من الظواهر الإعلامية التى يزخر بها العالم العربى ومن ثم طرح الاجابات الصحيحة مع عدم إغفال الاهتمام بدراسة تاريخ الإعلام العربى وهذا هو السبيل الوحيد الذى يتيح لنا إمكانية التوصل إلى بناء نسق نظرى عام يفسر الواقع الإعلامى العربى المعاصر فى إطار استمراريته التاريخية.

وتتجلى أزمة العقل الإعلامى على الصعيد الأدائى فى مجالى السياسات والممارسات الإعلامية عالميا ومحليا وتعزى أساسا إلى عدة أسباب أبرزها عدم التوازن فى انسياب المعلومات من الشمال إلى الجنوب ورسوخ الاتجاه الرأسى الأحادى الجانب للإعلام من أْعلى إلى أسفل من المراكز الدولية فى الشمال المهيمنة على التكنولوجيا المتقدمة والمعرفة والتراث الإعلامى إلى الأطراف الأفقر فى الجنوب ومن الجكومات إلى الأفراد والشعوب ومن الثقافة الغربية المسيطرة إلى الثقافات التابعة.. ففى ظل الثورة العلمية والتكنولوجية وفى إطار المحاولات الدءوب التى تقودها القوى المتحكمة فى السوق العالمية من أجل عولمة الثقافة والتعليم والدين وسائر مكونات المنظومة الحضارية التى كانت تحتفظ باستقلال نسبى خارج دوائر وقيم السوق العالمية وفى ظل الهيمنة السياسية والاقتصادية للمؤسسات المالية الدولية والشركات المتعدة الجنسية والدول الثمانى الكبار بزعامة الولايات المتحدة وفى ظل الصراع الثقافى والتحديات تبرز أزمة العقل الإعلامى حيث لم تعد تكنولوجيا الاتصال والمعلومات تشغل موقعا مركزيا فحسب فى شبكة الإنتاج بل أصبحت تشغل موقع القلب فى استراتيجية إعادة تشكيل منظومة العلاقات الدولية على المستوى السياسى بين الحكومات وذلك بالترويج لما يسمى (الشرعية الدولية) ومعاييرها المزدوجة وعلى المستوى الثقافى بين الثقافات المختلفة بإعلاء شأن الثقافة العربية وعلى الأخص الطبعة الأمريكية منها وتهميش ثقافات الجنوب وعلى المستوى الاتصالى بالترويج لما يسمى (بالقرية الاتصالية العالمية) متجاهلا عن عمد التفاوت الحاد بين معدلات التطور الإعلامى والاتصالى بين أجزاء العالم شمالا وجنوبا سواء تمثل ذلك فى تكنولوجيا الاتصال أو فى الإشباع الإعلامى، أما على الصعيد العربى فإن أسباب أزمة العقل الإعلامى تتمحور إجمالا حول السيطرة التى تمارسها الحكومات العربية فى مجال تنظيم وتوجيه أنشطة الاتصال والإعلام سواء من النواحى الاقتصادية (ملكية وسائل الإعلام ـ توفير موارد الاتصال) أو من النواحى التشريعية (قوانين المطبوعات والتشريعات الإعلامية) فضلا عن تحكمها فى المضامين والممارسات الإعلامية فى إطار السياسات الإعلامية والاتصالية المعلنة والمستنيرة ومعاداتها للتعددية الفكرية والسياسية واحتكارها لمصادر المعلومات وإصرارها على مصادرة الآراء المخالفة من خلال أجهزة الرقابة المتباينة الأشكال. وهناك إلى جانب الضغوط والقيود التى تبالغ الحكومات العربية فى استخدامها لتحجيم الأدوار التى يقوم بها الإعلاميون العرب تبرز الضغوط المهنية والإدارية داخل المؤسسات الإعلامية والصحفية والتى تؤثر بصورة سلبية على بيئة العمل الإعلامى ككل سواء من ناحية مدى مشاركة الإعلاميين فى صنع القرارات ووضع السياسات الإعلامية أو مستوى الأراء المهنى وعلاقات العمل (علاقة الإعلاميين بالمصادر وبالجمهور وبالزملاء والرؤساء) وتشير الدراسات إلى غياب المعايير الموضوعية لقياس الأداء المهنى للإعلاميين والصحفيين فى أغلب المؤسسات الإعلامية والصحفية فى العالم العربى فضلا عن عدم توافر ضمانات ممارسة المهنة من خلال تفعيل التشريعات التى تحقق الحماية المهنية للإعلاميين والصحفيين والتى تنص على ضرورة تيسير الوصول إلى مصادر المعلومات كما تنص على ضرورة الالتزام بشرط الضمير عند التعاقد بين الصحفى والمؤسسات الصحفية.

ومن أبرز صور الأزمة الأدائية عجز الإعلاميين العرب عن مواكبة عصر المعلومات فى ممارساتهم الصحفية والإعلامية والتى تتمثل فى غلبة الطابع الدعائى الاقناعى التقليدى على أسلوب الخطاب الإعلامى الذى لايزال يدور فى فلك الحكام وتأكيد روح الانبهار بالثقافة الوافدة وإغفال الاحتياجات الاتصالية لجمهور المثقفين حيث تتعامل معهم وسائل الإعلام العربية باعتبارهم مستهلكين وليسوا مشاركين استنادا إلى الرؤية التقليدية للإعلام التى تركز على الأسلوب الأحادى والرأسى الاتجاه.

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.