إذا كان اليونانيون يفخرون بثالوثهم المقدس أرسطو،أفلاطون و سقراط و يمجدون إبداع أرسطو و حديثه عن المسرح كأعظم الفنون وإذا كان الانكليز يقدسون شكسبير و يمجد الفرنسيون موليير حتى الولايات المتحدة تتباهى بمسارح نيويورك و عروضها ، رغم أنها دولة السينما و التأثير بجبروت هوليود على العالم, كل الدول التي ذاقت طعم التحضر يوما , كان المسرح فيها كسفينة نوح ينقل الناس من الهمجية الى العبرة و يجعل الحياة مسرحا كبيرا ينتهي باسدال الستار عن فصل من فصول التاريخ أيا كان،اذا كان أرسطو تحدث عن المسرح و وضع قواعد محددة للعمل المسرحي تم التمرد عليها لاحقا ،فإن سوريا بلا شك هي مهد المسرح في العالم فكل أوابدها مميزة بمسرح من تدمر الى بصرى الى رأس شمرا و عمريت و إذا كان الرومان قد اقتصرت مسارحهم غالبا على تسلية الجمهور و القياصرة بمصارعة الأسرى و العبيد فإن مسارح سوريا كانت محجا للفن و اعتلاء الخشبة له مرتبة من القداسة و الاحترام ،و كما عاشت اوروبا في عهد ظلمات الكنيسة لم ينج منها إلا بعض المبدعين، و في مناطق محدودة فقد عاش هذا الشرق السوري ظلمة الفتوحات التي لم تنته إلا منذ قرابة مئة عام
و رغم محاولات فصل هذا التراب عن تاريخه العريق و جعله غريبا عن تطورات الحاضر المعاش فقد كسر هذا البلد قيده و أزال العصابة العثمانية عن عينيه و أخرج أبوخليل القباني كأول مسرحي في هذا الشرق بعد عهود من القطيعة مع الفن التفاعلي المباشر و الذي كان مقتصرا على حفلات خيال الظل كراكوز و عواظ ) و جلسات الحكواتي و قصصه في المقاهي الشعبية ،كان أبو خليل القباني كالمبشر بدين( جديد نشر إبداعه في سوريا و مصر و أعلن رسميا إعادة الحياة الى المسارح رغم معارضة أصحاب اللحى و محامي الآلهة - بالمناسبة كان المسلسل الذي روى سيرته كارثيا - .
قبيل الاستقلال و بعده بدأت الحركة المسرحية في سوريا تنشط و تبلورت بشكل رائع في الخمسينات من القرن الماضي مع عمالقة أسسوا لكل شيء ،أنور البابا و فهد كعيكاتي و تيسير السعدي و رفيق سبيعي و عبد اللطيف فتحي ، ليلحق بهم بعدها نهاد قلعي و عمر حجو و شاكر بريخان في الستينات و السبعينات وصولاً لمسرح دريد لحام الماغوطي الذي كان عابراً لكل الطبقات الشعبية و المثقفة ، ليس صحيحا أن النظام الشمولي سبب في تراجع الفنون , فروسيا السوفيتية كانت مسارحها غاية في الإبداع شأنها شأن عروض المسرح العسكري و الجامعي في سوريا منذ أربعة عقود
لينتهي كل شيء مطلع الألفية بل و ليصبح المسرح مرتعا لتهريج همام الحوت و فرقته في نص ممطوط لخمس ساعات دون أن يعلق منه جملة واحدة في الذاكرة
بالنظر الى تاريخ سوريا المسرحي نجد أنه يشبه هذا المجتمع حد التطابق , تخرج الضحكة في عز المأساة و قد تبكي في لحظة فرح ،عانى المسرح السوري من التغييب أرشيفيا فأعمال فهد كعيكاتي و تيسير السعدي و أنور البابا لا تذكر إلا في معرض تذكرهم ، كذلك ما قدمه عمر حجو و نهاد قلعي قبل دريد لحام ،وصولاً لأعمال الكبير محمود جبر أحد أعمدة المسرح العسكري فجأة يختفي أرشيف هؤلاء و يقتصر حضورهم على بعض السكيتشات على سوريا دراما ، بينما ترى على قنوات مصر عرضاً لأتفه المسرحيات ، ذكاء دريد لحام أنه حافظ على أرشيفه بأن أعطى حقوق عرضه أولا لتلفزيون أبو ظبي كما في كاسك يا وطن أو سجل مسرحياته برؤيته الخاصة كما في غربة و شقائق النعمان و أجزم لو أن دريد لحام اعتمد على وزارة الاعلام أو أي جهة رسمية لضاعت روائع الماغوط معه كما ضاع "العصفور الأحدب "و" خارج السرب"،و" الارجوحة"، الذين مُثلوا و لم يُعرضوا تلفزيونياً
طبعا ماسأة التغييب المسرحي لم ينج منها إلا دريد لحام و مسرحه و لكن الضحايا كثر.. أيمن زيدان قدم عشرات المسرحيات لم يرها إلا من حضرها مباشرة،نضال سيجري و غسان مسعود ،حتى الرعيل الذي سبق أيمن كأسعد فضة و عبد اللطيف فتحي غيب تاريخهم المسرحي ،هذا على مستوى الممثلين فيما الحديث عن تغييب مسرح العملاقين سعد الله ونوس و ممدوح عدوان يطول و من حسن حظ سعد الله ونوس .وجود سيدة في لبنان تدعى نضال الاشقر أعطته جزءاً من حقه في الحضور
باختصار هذا البلد مليء بالابداع لكنه مغطى بالايديولوجيا حينا و بوزارة الأوقاف أحيانا ,المسرح السوري أكثر مسرح عربي يقدم رؤى و رسائل و يبتعد عن التهريج المبتذل و لكنه شأن كل القطاعات الثقافية محكوم بفقر الحال و التعتيم و عدم الانتباه لأهميته كمكان للحياة و جعل اللحظة أكثر قيمة ،و حتى ننتقل من بناء المساجد الى المسارح رحم الله مسرحيينا الاوائل و اطال الله بعمر الاحياء منهم عسى ان يعود للمسرح القه فالتصفيق لاداء ممثل اهم بكثير من التصفيق لخطاب لا يغني و لا يسمن من جوع ارفعوا ستارة المسرح فمنها يدخل للعقل ضوء يبدد ظلام التخلف و يجعل هذا الشرق اكثر فرحا و قابلية للعيش !!!
....هامش:هرو هرو ما فاتوها
علي محي الدين أحمد